محاضرة للأب ملحم الحوراني، 

خادم رعيّة رقاد السيّدة – المحيدثة، المتن،

صلاة يسوع،

يستهلّ الأب ملحم اللّقاء بالتذكير بما يقوم به المؤمنون، في مساء الأحد الأخير قبل بدء الصوم (والمسمّى “أحد الغفران”)، حين يطلب كل مؤمن الغفران ممّن خطئ هو إليهم، ويبادر في الوقت عينه إلى مسامحة من أخطأوا هم بحقّه، باعتبار عمل الغفران أسمى من طلبه، وباعتبار المصالحة والغفران شرطًا أساسيًا لنلج صومًا يَقبَلُه الرب المزمع أن يقوم من بين الأموات. بالتالي، من يتوصّل إلى مثل هذا العمل يكون قد محا العداوة من حياته قبل بدء صومه.

ولكنّنا نُفاجأ، في تلاوات الصّوم ومزاميره، حين نقع كثيرًا على كلمة: “أعدائي، العدوّ، عدوّي…”. فكيف ذلك والمفترض أن يخلو زمن الصّوم وصلواته من العداوة؟ إلا أننا إذا أمعنّا القراءة، وجدنا أنّ العداوة تتماهى بالخطيئة، ولذلك نجد في التلاوات: “أعدائي كثُروا” و”خطيئتي كثيرة”، “تكاثرت آثامي” – “لم تحبسني في أيدي الأعداء” و”أنا المضبوط بالخطايا” – “عَتُقتُ في جميع أعدائي” و “نحن الخطأة المنحنين من كثرة السّيّئات” – “أنقذني من أيدي أعدائي” و”أعتِقني من روح البطالة والفضول وحُبّ الرئاسة والكلام البطّال”…
وهذا دليل على أنّ الخطيئة التي تُلازمنا هي ذلك العدوّ المقصود، أي هي عدوّ من نوع آخر. لم يعُد العدوّ، بعد الآن، عدوًّا خارجيًّا أو منظورًا أو ماديًا: “يا رب أنتَ تعرف عدمَ رُقاد أعدائي الذين لا يُرَون”. ففي الصّوم يتماهى العدوّ بأشكال مختلفة من الخطايا، لا بدّ من التيقُّظ لها، وتركيز الذهن لمحاربتها واقتلاعها من قلبنا قبل أن تقضي علينا. علينا مثلاً أن نُقلع عن النّظر إلى هفوات الآخرين وأخطائهم وصحونهم، وأن نُركّز نظرنا إلى خطيئتنا (“وخطيئتي أمامي في كل حين”)، وإلى صحننا، وإلى كتابنا المقدّس، وإلى أيقونة المسيح وقدّيسيه، حتى نتوصّل إلى النّظر إلى قلبنا، وهذه هي المعركة التي علينا أن نخوضها، فـ”نصلّي المسبحة” كما يجب، لأنّ الرّب طلب منّا أن نبقى مستيقظين، واعين: “أنا نائم وقلبي مستيقظ”.

ومرجع الأب ملحم، في هذا الموضوع، إنجيل يوحنّا 16: 23-24، حيث يقول يسوع: “إنّ كلّ ما تطلبونه من الآب باسمي يعطيكم، إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي؛ اُطلبوا تأخذوا ليكون فرحُكم كاملاً”، أي إنّ صلاة المسبحة ليست سوى ذكر لاسم يسوع، خلال طلب ما نريد من الآب، فيَصِلُنا ونُمنحُه.

بعدها يرجع الأب ملحم إلى لوقا 18: 13-…، حتّى يعرّفنا من أين أتت صلاة المسبحة. وفي هذه الآية يضرب المسيحُ مثلَ الفرّيسي والعشّار اللّذين دخلا إلى الهيكل ليصلّيا، فأتت صلاة الأوّل بلا روح، وبكلّ تكبّر وتعالٍ، وأتت صلاة الثّاني متواضعة، خاشعة، لم يذكر منها إلاّ: “أللهمّ، ارحمني أنا الخاطئ”؛ ويختم المسيح المثل بالتّأكيد أنّ صلاة العشّار كانت مقبولة، على عكس صلاة الفرّيسيّ.
على هذا، نواة صلاة المسبحة هي الإنجيل المقدّس، انطلاقاً من الصّلاة الرّبيّة التي علّمها يسوع لتلاميذه: “وإن صلّيتم فقولوا: أبانا الذي في السّماوات…”، التي ما هي إلاّ تفصيل لصلاة العشّار المقتضبة، التي توجز صلاة الأبانا، لأنّها تدور حول جوهر طلب رحمة الله، وبالأكثر، لأنّ الرّب يسوع، نفسه، أكّد أنّها مقبولة.

ثمّ قرّرت الكنيسة إيجاد صلاة للمؤمنين، انطلاقاً من صلاة العشّار، مع تعديل بسيط، وتوضيح طفيف لكلمة: “اللهمّ” (التي قد تكون مشتركة مع ديانات أخرى)، بعد أن عرفْنا الله من خلال ابنه الذي تجسّد، وحلّ بيننا، فوسّعَتْها إلى: “يا ربّي يسوع المسيح، ارحمني أنا الخاطئ”، المتكرّرة على مدى حبّات المسبحة المتشابهة في ما بينها، وبين المسابح كلّها، التي صُنعت بأشكال وألوان مختلفة، لا لتتلاءم مع ملابسنا، ولا لتُعرض في أماكن معيّنة حبّاً بإظهار صلاتنا، بل لتوضع على طرف السّرير أو على المنضدة التي بجانبه، أي حيث يمن أن نصلّيها.

أمّا انطلاقة فكرة المسبحة فكانت على يد راهبٍ أراد أن يلتزم في صلاته للرّب بإخلاص، وينتظم فيها، ويخصّص لها وقتاً معيّناً. فتناول حبلاً وعقده عدّة عقدٍ صغيرة ليُصلّي بها قانون صلاته اليوميّ، فكان الشّيطان يأتي ويفكّها، إلى أن اهتدى الرّاهب إلى طريقة متينة لعقد الحبّات بحيث لا يقوى الشّيطان على فكّها، فأتت كلّ حبّة معقودة بتسعة صلبان مخفيّة، استحال على الشّيطان فكّها، فكانت بداية المسبحة.

وصار يعلّق الرّهبان المسبحة، عند ارتسامهم، بالزّنار على الخصر، وسُمّيت: “سيف الرّوح” (أفسس 6: 17)، أي “كلمة الله” التي يستعملونها في مواجهة سهام الشّرير، أي العدوّ المتجلّي في خطايانا -غير المرئيّة للنّاس- المعشّشة في قلوبنا.

ومن الأفضل أن تُتلى المسبحة، وقوفاً أو جلوساً، لا خلال الاستلقاء، حتّى لا يمنعنا الشّيطان من تأدية صلاتنا، فنستسلم للنّوم. وتُحمل المسبحة باليد اليُسرى وتُتلى على كل حبّةٍ الصّلاة نفسها ،”يا ربي يسوع المسيح، ارحمني أنا الخاطئ”، على عدد الحبّات أو العقد، لا بشكل ببغائيّ، لئلا يصير نُطقُنا باسم الرب “باطلاً” ومُخالفًا للوصيّة (خروج 20: 7)، بل بالتمعّن في كلّ كلمة من كلماتها، بمرافقة حركات جسديّة تُعبّر عن خشوعنا وطلباتنا: “مجِّدوا الله في أرواحكم وفي أجسادكم”، بهدف أن يكون يسوع سيّد حياتك. وحين نذكُر، واعين، اسمَ يسوع، يقودُنا هذا إلى أن نعرف خطيئتنا ثم نتوب بمؤازرة رحمته. وهذه من صلوات التّوبة المثاليّة. وشيئًا فشيئًا، نمُدُّ وقتَ الصلاة ليمتدّ إلى كل النهار (“هذذتُ بك في الأسحار لأنك صرتَ لي عونًا”). ونحن، في كلّ مرّة نذكر اسم يسوع، نلتمس حضوره معنا ونشُدُّ أنفسَنا إليه وإلى الاتّحاد به، فينزل عقلُنا إلى القلب، ونُدني نورَ المسيح مِن ترابنا ليغيّره. وأفضل مَن توسّع في موضوع حلول نور الرّب علينا، لا بعد موتنا فحسب، بل خلال حياتنا، بلحمنا ودمنا، حيث يمكننا رؤية نور الله غير المخلوق، هو القدّيس “غريغوريوس بالاماس”.

وتُصلّى المسبحة من قِبَل المبتدئين، في الفترة الأولى، بصوت مسموع في آذاننا، لإشراك حواسّنا كلّها في الصّلاة، بشهيق وزفير، على كل دعاء. وسوف يشعر مَن يُصلّي هذه الصلاة بأنها تبدأ بجُهدٍ في مرحلةٍ أولى، ثم تتحوّل إلى تلقائيّة (صلاة القلب) مع الممارسة المتواترة اليوميّة.

وانتقل الأب ملحم إلى تناوُل آياتٍ من الكتاب المقدس تُظهر فاعلية وقوّة اسم الرب يسوع:
-فكيف يخلّصُني اللهُ؟ “أللهمّ باسمك خلّصني” (مزمور 54: 1)؛
-وبماذا أَقهرُ الأُممَ التي تحيط بي؟ “باسم الرّب قهرتهم” (مزمور 118: 10)؛
-ولمَن يستجيب الله؟ “وهو يدعو باسمي وأنا أُجيبه” (زكريا 13: 9)؛
-وبماذا تخضع لنا الشياطين؟ “يا رب حتى الشّياطين تخضع لنا باسمك ” (لوقا 10: 17)؛
-ومَن الذي يَخلُصُ؟ “كل مَن يدعو باسم الرب يخلُص” (أعمال الرسل 2: 21)…

وختم الأب ملحم اللّقاء، بتمنّي أن تجري صلاة المسبحة (صلاة يسوع) في عروقنا، فنتمثّل بمار ميخائيل المرسوم في الأيقونة، والذي يرتفع طَرَفا عقدة شعره ولا يقعان، لأنّه دائم اليقظة والنّباهة، نباهة النّفس والجسد؛ وهذا ما تتمنّاه الكنيسة: أن تُحوّلنا من بشريين ترابيين إلى لهيبِ ملائكةٍ مصلّين في كل حين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp