محاضرة للأب أيوب شهوان،
تنشئة حول”لاهوت الموت والقيامة”،
الموت والقيامة في رسائل بولس،
استهلّ الأب أيّوب شهوان محاضرته بنبذةٍ حول تكهّنات الشّعوب لما بعد الموت، لشدّة خوفهم من المجهول، غير المُتَصَوَّر، وذاك الغامض السّرّي الذي ما استطاع أحدٌ منهم كشف كنهه، أو التّكهّن بما يخبّئه له.
فالشّعوب على اختلاف أديانها، وانتماءاتها، وعاداتها، ما قبلت يوماً بواقع الموت-النّهاية، الكلّيّة للرّوح والجسد معاً، وحاولت بشتّى الطّرق والوسائل، تخليد الأجساد مادّيّاً، أو إيجاد مخارج ميتافيزيقيّة، أو روحيّة، أو فلسفيّة، ترفض اضمحلال الرّوح مع تلاشي الجسد. فمنهم من حنّط الأجساد توقاً للبقاء، كالمصريين القدامى، ومنهم من شيّد أعلى الأضرحة تكريماً للميت.
لكنّ جوهر فهمنا للصّور التي استخدمها القدّيس بولس في عظاته وكلامه عن هذا الموضوع، ينطلق من اطّلاعنا على كيفيّة تعامل اليهود مع هذا اللّغز. فقد بكى هؤلاء موتاهم، وكرّموهم، وعانوا مرارة الفراق، ككلّ الشّعوب الأخرى، وتوصّلوا أخيراً إلى القول بأنّ مصير الأجساد بعد الموت هو الجحيم، ونفرّق بين الجحيم أي مكان استقرار الموتى، “الشِّيُول”، الذي لا رجعة منه، و بين جهنّم حيث النّار والحريق والعذاب.
وبين سنة 167 و163 ق. م.، وقعت الحرب بين اليهود وبين جيش أنطيوخوس إبّيفانوس، ذهب ضحيّتها الكثير من الشّهداء عند اليهود، فاحتار القوّاد ماذا يقولون للأمّهات اللواتي فقدن أولادهنّ، والزّوجات اللواتي فقدن أزواجهنّ، والأطفال الذين فقدوا آباءهم: ماذا جرى لهؤلاء بعد موتهم؟ أين ذهبوا؟ فكانت تلك المرّة الأولى التي يتصوّر فيها اليهود مخرجاً من ورطة الموت وما بعده، فكان قولهم بـ”الاستشهاد” كمصطلح جديد، و”الحياة الأخرى” التي سُمع بها يومها للمرّة الأولى عندهم.
ولكنّ هذا التّفكير لم يتبلور إلاّ بعد اختلاطهم باليونانيّين الذين ميّزوا بين الجسد والرّوح، الأوّل يبلى أما الثّانية فتتحرّر منه وتعيش، وجاء ذلك في سفر الحكمة الذي كتبوه. ثمّ جاء المسيح ليقول إنّ الجسد يمكن أن يهلك، أمّا الرّوح فلا.
ولكن، لِماذا الكلام على خلود النّفس؟
لأنّ سفر التّكوين يفيدنا، أنّ الرّب، عندما جبل الإنسان من التّراب على صورته ومثاله، بقي هذا الإنسان جبلة جامدة، إلى نفخ اللّه في أنفه من روحه، فصار كائنًا حيًّا. فكما أنّ الرّب خالد مدى الأزمان ولا يموت، كذلك روحه، ونَفَسُه الذي يدخل فيه، لا يموت. إنّ اللّه يُنزِل غضبه على كلّ مَن يمسّ الرّوح لأنّها ملكه وحده، كما فعل مع قايين الذي قتل أخاه هابيل.
وينتقل الأب شهوان إلى الإشارة إلى أنّ تعاليم مار بولس في ما يخصّ الموت والقيامة، ترتكز على مصدرين هما: تعاليم اليهود، من جهة، وتعاليم الرّب يسوع، من جهة أخرى، هو الذي كان عالماً كبيراً في أورشليم، متعمّقًا في التّعليم العقائديّ اليهوديّ، وما علّمه إيّاه يسوع بعد ارتداده على طريق دمشق، ثمّ عرض تعاليمه على الرّسل. هو يقول بوجود موت الجسد ضمن النموّ الطبيعيّ للإنسان، من الولادة وحتّى الشّيخوخة، فالموت.
وقد تبدّلت نظرة القدّيس بولس إلى الشّريعة بعد ارتداده؛ فقد كانت بنظره النّور والفخر والطّريق والدّرب السّليم نحو الحقّ، وكانت هي الآتية بالخلاص إذا ما طُبّقت.ولكن، وبعد ارتداده، آمن أنّ المسيح هو الطّريق والحقّ والحياة، وهو المخلّص الوحيد، لا الشّريعة لأنّه لا يمكن لإنسان تحقيقها وعيشها كلّها بحذافيرها، مع ما فيها من وصايا؛ فإنْ هو خالف إحداها، فكأنّه خالفها كلّها، وهذا مقيِّد، لا محرِّر.
فالشّريعة صارت بالتالي سبباً للموت، لأنّ الإنسان ضعيف، والشّريعة تخنقه، لكنّ الرّب يسوع أتى بشيءٍ جديد، ألا وهو التّقوّي بقوّة الإنجيل، وبالرّوح القدس. فشهداء المسيحيّة كانوا يمضون الليلة السابقة لاستشهادهم بتلاوة المزامير والترانيم، وذلك لأنّهم كانوا مملوئين قوّة، وحبًّا للمسيح، لا يخشون الموت لأنّهم كانوا متأكّدين من أنّهم سيشاهدون وجه أبيهم الذي في السماوات. ولكم زلزلت هذه المزامير والترانيم جدرانَ الزّنزانات والسجون، وخلّعت أبوابها، وكلّ ذلك لأنّها كانت تصدر عن مسيحيّ مؤمنٍ إيماناً ثابتاً بيسوع المسيح. فالإنسان المملوء إيمانًا ونعمة هو بذات الفعل مملوء نعمة وحقًّا وقوّة.
وجواباً عن سؤال، قال الأب شهوان: لِمَ الموت؟ لقد مات المسيح على الصّليب بعدما صار بشراً مثلنا، ليحمل خطايانا ويرفعها عنّا، وذلك لأنّ آدم وحوّاء ونسلُهما من بعدهما قطعوا العلاقة مع اللّه عندما بمخالفتهم أوامره، فكان العقاب المرّ والأليم. ولمّا قام المسيح يسوع من الموت، في اليوم الثّالث، وهو باكورة الرّاقدين، انتصر بذات الفعل على الموت، وحرّر آدم وبنيه من قيد الشّريعة التي لم تعطِ الحياة، بل الموت، لأنّه لا أحد يستطيع أن يعمل بكلّ أوامر هذه الشّريعة ونواهيها. ويربط القدّيس بولس حدث قيامة يسوع بالظهورات التي تلتها، والتي جعلت المريمات والرسل يصدّقون ويؤمنون. وبما أنّ “المسيح قام، فالموتى أيضاً يقومون”، لأنّه بموته أمات الخطيئة، وبقيامته ردّ الحياة لبني البشر.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.