محاضرة للأب جورج نخول،

خادم رعيّة مار أفرام، كفرذبيان، كسروان.

“إنجيل لَعازر والغنيّ” (لو 16: 19-31)

النصّ الإنجيليّ:

“كان رَجلٌ غنيٌ يَلبسُ الأُرجوان والكتَّانَ النَّاعِم، ويَتنَعَّم كُلَّ يومٍ تَنعُّمًا فاخِرًا. وكان رَجلٌ فقيرٌ اسمُه لعازر مُلقًى عند بابه قد غطَّتِ القروح جسمَه. وكان يَشتهي أن يَشبع مِن فُتات مائدة الغنيّ. غيرَ أنَّ الكلاب كانت تأتي فتَلحسُ قروحه. وماتَ الفقيرُ فَحمَلَته الـملائكة إلى حِضن إبراهيم. ثمَّ مات الغنيّ ودُفِن. فرَفع عَينَيه وهو في مَثوى الأموات يُقاسي العذاب، فرأى إبراهيم عن بُعدٍ ولعازر في أحضانِه. فنادى: يا أبتِ إبراهيم ارحَمني، فأرسِل لعازر لِيَبُلَّ طرَفَ إصبَعه في الـماء ويُبَرِّدَ لساني، فإنِّي مُعذَّبٌ في هذا اللَّهيب. فقال إبراهيم: يا بُنيَّ، تَذكَّر أنّكَ نِلتَ خيراتِكَ في حياتِكَ ونال لعازر البلايا. أمَّا اليوم فهو ههنا يُعزَّى وأنتَ تُعذَّب. ومع هذا كُلِّه، فبَينَنا وبَينكم أُقيمَت هُوَّةٌ عميقةٌ، لِكَيلا يستطيع الّذين يُريدون الاجتياز مِن هنا إليكم أن يفعلوا، ولِكَيلا يُعبَر مِن هناك إلينا. فقال: أسألكَ إذًا يا أبتِ أن تُرسِله إلى بيت أبي، فإنَّ لي خمسة إخوة. فَليُنذِرهُم لئلّا يصيروا هُم أيضًا إلى مكان العذاب هذا. فقال إبراهيم: عندَهُم موسى والأنبياء، فَليَستمِعوا إليهم. فقال: لا يا أبتِ إبراهيم، ولكن إذا مضى إليهم واحدٌ مِن الأموات يتوبون. فقال له: إنْ لم يَستمِعوا إلى موسى والأنبياء، لا يَقتنِعوا ولو قام واحدٌ من الأموات” (لوقا 16: 19-31). المجد لك يا ربّ!

التأمّل في النّص الإنجيليّ:

بارككم الله إخوتي.
إنّه لَفَرحٌ كبيرٌ لي أن أكون موجودًا معكم اليوم، وأشكركم على هذه الدَّعوة الجميلة والمميِّزة.
اليوم، بِفَرحٍ كبيرٍ جدًّا نتشارك معًا في هذا النَّص من الإنجيل المقدَّس الّذي سمعناه، والّذي أصغَينا إليه بانتباهٍ شديد.
إنّ هذا النَّص هو مَثلٌ أعطانا إيّاه الربّ. وانطلاقًا من هذا الأمر، أودُّ أن أتشاركَ معكم في النُّقطة الأولى مِن حديثنا اليوم وهي:

لماذا تكلَّم الربّ بالأمثال؟
إنّ الأمثال هي طريقةٌ تعليميّةٌ، تربويّةٌ، تهدف إلى جذب المستَمِعين لإيصال مسائلَ مُهمَّة لهم وضروريّة. لذلك، اختار الربُّ هذا الأسلوب، إذ أراد جَذبَ المستَمِعين إليه لتوضيح مسائلَ إيمانيّةٍ وحقائقَ إلهيّةٍ ساميّةٍ ومقدَّسةٍ لهم. إنّ الـمَثل أحبّائي، هو وسيلةٌ فعَّالةٌ لتوضيح مسائلَ مُهمّةٍ، فهو يؤثِّر في الإنسان، أكثر من لجوئنا إلى الطريقة المباشرة في طرح السُّؤال والإجابة عنه. فَحَيثيّات الـمَثل تُدخِلنا في وجدانيّات الحياة وتدفعنا إلى طرح الكثير من التّساؤلات وعلامات الاستفهام على ذواتِنا. أعطانا الربَّ يسوع في الإنجيل ما بين 50 إلى 60 مَثلٍ، وهي تنقسم إلى عدَّة فئات: أمثالٌ عن طبيعة الرِّسالة، أمثالٌ عن نشر الرِّسالة، أمثال عن مفهوم الرّسالة أو ضَياعها، أمثالٌ عن الغفران والخطيئة والتّوبة، أمثالٌ عن الشَّركة مع الله، أمثالٌ عن الشَّهادة والتّلمذة، أمثالٌ عن المكافآت الصّالحة، وأمثالٌ عن المجيء الثّاني واليقظة والسَّهَر، وأمثالٌ عن الدَّينونة.

إنّ الاصحاح 16 من إنجيل لوقا هو إصحاحٌ مليءٌ بالأمثلة الّتي أعطاها الربُّ يسوع، ومن بَينِها مَثل لعازر والغنيّ، الّذي نتأمَّل فيه اليوم. قَبْل نصّ مَثل لعازر، أعطى الربّ مَثلاً عن الوكيل الظّالم أو الوكيل الخائن، وفيه أخبرَنا الربُّ عن رَجلٍ غنيّ وَضع جميع ممتلكاته بين يَدَي وكيلٍ قام بِتَبديد أموال سيِّده، لأنّه لم يكن أمينًا. ويَختِمُ الربُّ هذا الـمَثل بالقول لنا: “مَن كان أمينًا على القليل، كان أمينًا على الكثير”(لو 16: 10)، وأنَّ “لا أحد يستطيع أن يَخدم سيِّدَين: الله والمال”(لوقا 16: 13). إذًا، المسألة الّتي كان الربّ يعالجها، قَبْل نصِّ مَثل لعازر والغنيّ، هي مسألة الغِنى والمال.

حيثيَّات هذا الـمَثل: إخوتي، إنّ هذا الـمَثل، مَثل لعازر والغنيّ، يعالج علاقةَ الإنسان بالله، من خلال سلوكه الإنسانيّ والاجتماعيّ مع أخيه الإنسان. في هذا الـمَثَل، يكلِّمنا الربّ يسوع لا على كميّة الصلوات الّتي نتلوها وماهِيّتها، ولا على كميّة الوقت الّتي نُمضيه في الصَّلاة، بل على الـمَسلَك الإنسانيّ والاجتماعيّ، خصوصًا بين الإنسان وأخيه الإنسان. في هذا الـمَثل، لا يُقدِّم لنا يسوع مَوقِفَ كُرهٍ مِن الإنسان الغنيّ بسبب غناه، كما أنّه لا يُقدِّم لنا موقِفَ مَدحٍ للإنسان الفقير بسبب فَقرِه، بل يُخبرنا الربّ في هذا الـمَثل عمَّا يُهدِّد الإنسان ويجعله في حالةِ خطرٍ، غنيًا كان أم فقيرًا. في هذا الـمَثل، يدعو الربّ المستَمِعين إليه إلى تدارك هذا الخطر من خلال حثِّهم على سماع كلمة الله والعمل بموجبها، حسب ما جاء في الآية الأخيرة من هذا النَّص: “إنْ لم يَستمِعوا إلى موسى والأنبياء، لا يَقتنِعوا ولو قام واحدٌ من الأموات”(لوقا 16: 31).

لم تكن غاية الربّ مِن هذا الـمَثل التَّرويج لفِكرة أنَّ مصير الأغنياء هو الجحيم ومَصير الفقراء هو النَّعيم، غير أنّ الربَّ في هذا الـمَثل يربط مصير الإنسان في حياة الآخِرة بِحياته على الأرض. عندما كلَّمنا الربُّ في هذا الـمَثَل على الرَّجل الغنيّ لم يَقُل لنا إنّ خطيئته هي الغِنى، فالغِنى في العهد القديم كان يُعتَبر علامةَ رِضًى وبركةٍ من الربّ على الإنسان: فإبراهيم كان غنيًا، وكذلك أيّوب الصِّديق وأيضًا لعازر صديق يسوع. وبالتّالي، خطيئة هذا الرَّجل الغنيّ الّذي تكلَّم عليه الربّ في هذا الـمَثل هي أنّه لم يَفهم الغاية من هذه الحياة الّتي أعطاه الربُّ إيّاها، فالغاية الحقيقيّة مِن هذه الحياة ليست الاكتفاء بلِبس الأرجوان والكتّان النَّاعم والتمظهُّر، والتباهي بشكليّات الحياة.

لِهذا النَّص، ثلاثُ غاياتٍ تستحقّ التأمّل بها:

الغاية الأولى من هذا الـمَثل: هي غاية الإنسان في العلاقة الحُسنى مع أخيه الإنسان، تَوصُّلاً إلى العلاقة المميّزة مع الله: ففي هذا الـمَثَل، ربَطَ الربّ يسوع الحياة الاجتماعيّة بالحياة الـمُفعَمة بالأُخوَّة والمحبّة والعطاء.

الغاية الثانية من هذا الـمَثل، ليست المساواة في البُعد الماديّ بين الغنيّ ولعازر، بل الغاية هي اكتشاف صورة الله من خلال العمل الرَّحوم تجاه أخي الإنسان أي تجاه “لعازر”. وهذا بُعدٌ ثانٍ أساسيّ في هذا النَّص وفي غاية الأهميّة، وهو اكتشاف صورة الله الرّحوم من خلال رحمتي لأخي الإنسان.

الغاية الثالثة هي أيضًا أساسيّة ومهمَّة: وهي التواجد مع بعضنا البعض، للتّخفيف من الجراح وبَلسمتِها. وهذا أمرٌ مهمٌّ جدًّا، خصوصًا أنّنا في زمن الميلاد المجيد، وبشكلٍ أخصّ في ظلّ هذه الظروف الصَّعبة الّتي نمرُّ بها جميعًا. وهنا نَطرَح السَّؤال: إلى أيّ حدٍ نحن نسعى إلى الوقوف إلى جانب بعضنا البعض كي نُبَلسم جراح بعضنا البعض؟ إنّ القساوة الّتي عاشها لعازر في هذا البُعد الاجتماعيّ، النّاتجة عن المآسي الّتي عاشها، تَحثُّنا على العمل على بلسمة جراح بعضنا البعض للتَّخفيف من الصَّعوبات الّتي نجتازها جميعًا.

إنّ اسم “لعازر” يعني “الله مَعونتي”، وهذا الاسم يناسب تمامًا الشَّخص الفقير الّذي كلَّمَنا عليه هذا النَّص. فالاسم في العهد القديم كان عنوانًا لحياة الإنسان ومختَصَرًا لها. وبالتّالي، فإنَّ اسم الشَّخص يدلّ على هويَّته وشَخصه. وعلى سبيل الـمِثال: اسم “زكريّا” يعني “الله تذكَّر”، واسم “أليصابات” يعني “الله أقسم”، واسم “يسوع” يعني “الله يُخلِّص”. وفي هذا الـمَثل، اسم “لعازر” يعني أيضًا بكلامٍ آخَر “الاتِّكال على الله”. إنّ الربّ يسوع لم يُعطِ اسمًا للغنيّ في هذا النَّص، بل وَصَفه بحالة الغِنى الّتي يعيشها، وذلك من أجل أن يُفهِمنا أنّ هذا الشَّخص قد فقَدَ هويّته لأنّه فقَدَ إنسانيّتَه. فحين يَفقدُ الإنسان إنسانيّته، يَفقد هويّته. هذه هي المعاناة الحقيقيّة الّتي عاشها الغنيّ أحبّائي، ولم يكن للأسف مُدرِكًا لها حين كان لا يزال على هذه الأرض، فَقَضى بهذه الطريقة على علاقته الشَّخصيّة وعلى حضوره الشَّخصانيّ في المجتمع وعلى تفاعله معه.

إذا كان الشَّخص عند تواجده في المجتمع يتعرّض للتّعيير من الآخَرين قائلِين فيه: “اُنظُروا إلى هذا الغنيّ!”، فهذا يدلّ على أنّ هذا الإنسان قد فقَدَ دوره في المجتمع، أي فقَدَ وجوده الحقيقيّ، أي فَقَدَ كرامتَه. إنّ هذه الأمور كانت تُشكِّل نَقصًا كبيرًا في حياة هذا الرَّجل الغنيّ أحبّائي. فمَن يقضي على المحبّة، يقضي على تفاعله الأخويّ والبَّناء. فالغِنى جعلَ مِن هذا الرَّجل شخصًا مُستَغنًى عنه في المجتمع، إذ لم يعد المجتمع يُعطي قيمةً حقيقيّةً لوجوده فيه.

إنّ قيمة الإنسان تكمن في تفاعله مع الإنسان الآخَر، وقيمة الإنسان تكمن في محبَّته للإنسان الآخَر. فهل هناك أجمل مِن أن يُطلَق على أحدهم اسمه، ثمّ نسمع الآخَرين يقولون عنه: كم نحن محظوظون بمعرفتنا بهذا الشَّخص، لأنّه يقوم بأعمال مَحبَّة، فَهو إنسانٌ مؤمِنٌ وتَقيّ ومُحبّ! من خلال هذا النَّصَّ، أراد الربُّ أن يقول لنا إنّ الغنيّ كان مُستَغنيًا عن علاقته مع الآخَر وتفاعله معه؛ لذلك هو لم يستطِع أن يرى هذا الآخَر في الرُّوح، أي من الدَّاخل. فإنّه مِن غير الكافي أن تَرى الإنسان الآخَر بِعَين الجسد، بل عليك أن تنظر إلى الآخَر بِعَين الرُّوح أيضًا. هذا التطلُّع هو التطلُّع الأفضل والسَّليم للحياة. إنّ أجمل ما في هذا النَّص، وأبشَع ما فيه في الوقت نفسه، هو: أنّ الكلاب كانت تلحسُ قروح لعازر حسبَما يُخبرنا هذا النَّص. والكلاب، في العهد القديم، كانت تُعتَبر قبيحةً ونَجِسةً، غير أنّها في هذا الـمَثل كانت أفضل من هذا الرَّجل الغنيّ.

ماذا حدث عند ساعة الموت؟ عند ساعة الموت، حدثَت تبدُّلات في غاية الأهميّة. في ساعة الموت، أحيانًا كثيرة، من دون أن ندري، نُعظِّم شأن الوُجهاء والأثرياء، أمّا مِيتة الفقراء والتّعساء، فلا نُولِيها شأنًا وأهميّةً كبرى. في هذا الـمَثَل، قَلَب المسيح كلَّ المقاييس وأعطى مقارنةً بسيطةً بين الغنيّ ولعازر من خلال التعابير الّتي استُعمِلَت. فالنَّصَّ يقول لنا أحبّائي، إنّه عند موت لعازر، “حمَلَتْه الملائكة”(لوقا 16: 22) أي أنّه ارتفع إلى المجد السّماويّ، وبالتّالي نالَت هذه النَّفس إكرامًا وتعظيمًا. لقد ذهَبَ لعازر تلقائيًّا بعد موته إلى الحياة الأبديّة. أمّا الغَنيّ، فيقول لنا النّص إنّه “مات ودُفِن”(لوقا 16: 22). إنّ هاتَين الكلمتين في الإنجيل اختَصَرتا حالة الإنسان البائسة، فأتى موته على شاكِلة حياته الّتي كان يعيشها. إنّ مِيتة الغنيّ تُشكِّل لنا فَحصَ ضميرٍ لكلّ واحدٍ منّا. إنّ موت الغنيّ كان مشابهًا لِحياته، فكان موته عبارةً عن حالةٍ انعزاليّة تَقوقُعيّةٍ على الذَّات، على الأنانيّة الذاتيّة. فهذا الغَنيّ، في حياته الأرضيّة، كان غير مُكترِثٍ بالآخَر، انزوائي، مُكتَفٍ بالأبعاد الماديّة الّتي كان يعيشها، لا يهتمّ لِمَن يجلس على عتبة باب بيته. هذا التَّقوقع والانعزالية، الّتي كان يعيشهما الغنيّ انتقلتا معه إلى الحياة الثَّانية ولم تتغيّرا.

من خلال مِيتة الغنيّ، أراد الربّ أن يقول لنا إنّ اختيارنا في هذه الحياة الأرضيّة، سَيُرافِقُنا إلى الحياة الثّانية، إذ ستكون حياتنا الثّانية مشابهةً لاختيارنا في حياتنا على الأرض. لم يكن هدف الربّ من هذا الـمَثل اِطّلاعنا بِدِقّة على تفاصيل الحياة الأُخرويّة، وهنا أتكلَّم على حالتَي النَّعيم والجحيم، بل أراد أن يُخبرنا عن مصير الإنسان في الحياة الثّانية. إنّ مصير الإنسان، إخوتي الأحبّاء، لا يُبَّت “غدًا” أي بعد الموت، بل يُبَتّ “اليوم” أي قَبْل الموت. وهذه هي الأمثولة الأولى الّتي نَتعلَّمها في هذا الـمَثل الّذي أعطانا إيّاه الربّ. لا يبدأ الإنسان حياةً جديدةً بعد الموت، بل هو يُتابع حياتَه الّتي بدأها على هذه الأرض. وبالتّالي، في لحظة الموت، يكون “ما كُتِب قد كُتِب” في هذه الحياة ولا يمكن تغييره. إذًا، من خلال هذا النَّص، أراد الربّ أن يقول لنا إنّه بالموت الأرضيّ، تُصبح العودة إلى الوراء مستحيلةً، والدَّليل هو أنَّ الربَّ قال لنا في هذا الـمَثل إنّ بين النَّعيم والجحيم “هوَّةً عظيمةً”(لوقا 16: 26).

إنّ هدف الربّ من هذا الكلام، لم يكن إرهابنا وتخويفَنا، كما أنّه لم يكن يهدف إلى تثبيت الطُّمأنينة في نفوسِنا، من خلال دَفعِنا إلى الاعتقاد بأنّه مهما قُمنا به على الأرض من أعمالٍ، لا داعي للخوف من الموت، لأنّ الربّ رحومٌ وسيَغفر لنا، بل كان الهدف من هذا الكلام إخبارنا أنَّ ملكوت الله موجودٌ في داخِلنا، في قلبنا، وفي ما بيننا، لذا علينا منذ الآن تَحمُّل مسؤوليّتنا تجاه هذا الملكوت الّذي أعطانا إيّاه الربّ. فحياتنا مدعوَّة كي تتحوَّل إلى حياةٍ أبديّة. هذه هي جماليّة الدَّعوة الّتي أعطانا إيّاها الربَّ على هذه الأرض! هذا هو حُبّ الله لنا إذ أكرَمَنا بنِعمةِ حياةٍ أبديّةٍ! فهل هناك أجمل مِن هذه النِّعمة، مِن هذه العطيّة الّتي أعطانا إيّاها الربّ! فحياتي تَفصِل مَصيري الأبديّ، وفِعل المحبّة لا يُعوَّض فيما بعد، أي بعد الموت.

لذلك، مِن المهمّ جدًّا أن أعي أهميّة عمل المحبَّة، لأنّ عملَ المحبّة مرتبطٌ بِمَصيري الأبديّ أيضًا، وبالتّالي ما عليّ القيام به هو التخلُّص من الأقنعة المزَّيفة الّتي أرتديها في هذه الحياة والعمل على عَيش دعوتي المسيحيّة بكلّ صِدقٍ وجرأةٍ، والمكافحة في مواجهة الشَّر والخطيئة، من دون أن يغيبَ عن فِكري ولو لِلَحظةٍ واحدةٍ أن أفتَح قلبي على قلب الله كي أعيش المحبّة وأُبعِد عنِّي قساوة القلب وأُزيل عنّي كلّ تصرُّفٍ أنانيّ.

إنّ اختياري هنا، على هذه الأرض، يُحدِّد هويتي ومصيري هناك، في الحياة الثّانية. فالغَنيّ قد فَهِم الوَرطة الّتي أوقَع نفسَه فيها على الأرض، عندما وصل إلى الحياة الثّانية، لذلك طَلب في هذا النَّص الإنجيليّ إنقاذَ إخوتِه الّذين لا يزالون على هذه الأرض، لكنَّ الربَّ أجابه من خلال إبراهيم، بما معناه، مَن لا يسمع كلام الله، لن يؤمِن بكلمة الله.

إنّ جواب الربّ على الغنيّ هو جوابه لنا أيضًا فهو يقول لنا: اسمَعوا وأَصغوا، وافتَحوا قلوبكم إلى كلمة الله، فَهذه هي بداية الإيمان. إخوتي، إنّ بداية الإيمان لا تكون بمشاهدة الخوارق والعجائب والظَّواهر الغريبة الّتي لا نفَهمها، بل تكون بالسَّماع لكلمة الله المقدَّسة. والدَّليل على ذلك، نستَقيه من الإنجيل: كم شاهد الفريسيِّون مِن العجائب الّتي تمَّت أمام أعيُنِهم، وعلى الرَّغم من ذلك استمرَّوا في عدم إيمانهم بالربّ. إنَّ هذه الفئة من المجتمع، الّتي كانت موجودة آنذاك في عهد الربّ يسوع المسيح، لم تكن تُريد أن تفتح قلبَها على نعمة الله وكلمته، تلك الكلمة الّتي تجسَّدت في يسوع المسيح، والّتي أعطانا إيّاها الآب بشخص الابن كلمةً أبديّةً ونهائيّةً، فالإيمان إذًا يبدأ من السَّماع.

إنّ أساسَ التّوبة والعلاقة مع الله، هي الإيمانُ بِكَلمة الله أحبّائي. مَن مِنّا شاهد المسيح صاعدًا إلى السَّماء؟ لا أحد، وعلى الرُّغم من ذلك نحن نؤمن بالربّ، لأنّنا سَمِعنا كلمة الله في الإنجيل المقدَّس، وفَهِمنا مسيرة الكنيسة: مسيرة آباء الكنيسة وتعاليمهم، ومسيرة القدِّيسِين وتعاليمهم، وتعليم الكنيسة والرُّعاة والكهنة، وتعليم البابا والكرادلة، وتعليم المجامع الكنسيّة. كلُّ هذه التَّعاليم تَنصَّب في سبيل مساعدتي على معاينة الربّ يسوع من خلال كلمته المقدَّسة، لذلك أُصبِح قادرًا على الإيمان بالربّ يسوع وبكلِّ ما قام به على هذه الأرض.

نحن أبناء الكلمة المقدَّسة. في هذا الـمَثل، تكلَّم الربّ بلسان إبراهيم، مستَخدمًا لغة الأمر، حين قال للرَّجل الغنيّ: “عندَهُم موسى والأنبياء، فَليَستمِعوا إليهم”. إخوتي الأحبّاء، هناك فرقٌ بين “الاستِماع إلى” و “السَّماع إلى”. إنّ “الاستِماع إلى” تعني الإصغاء إلى؛ أمّا “السَّماع إلى” التّي تمَّ استخدامها في هذا النَّص، فهي لا تعني فقط الإصغاء، بل تعني أيضًا العمل وَقفًا للكلمة الّتي تمَّ الإصغاء إليها والّتي يُعلِنها الأنبياء، حسب النَّص. مِن خلال استعماله لغة الأمر في عبارة “استمِعوا إليهم”، أعطى الربُّ قوَّةً وفاعليّةً كبيرةً جدًّا لتعاليم الكنيسة.

وأنتم يا إخوتي الأحبّاء، ما تقومون به اليوم، هو أعظمُ بشارةٍ وأعظمُ عملٍ، مِن خلال رسالتِكم “أذكرني في ملكوتك”، ليس فقط تجاه أحبّائنا الّذين سبقونا إلى ديار الآب وحَسْب، بل أيضًا تجاه كلِّ إنسانٍ يسمع هذه الكلمة وهذه البشارة، لأنّ أعظمَ عملٍ تقومون به هو أنَّكم تَنقلون هذه البُشرى الـمُفرِحة إلى قلب كلّ إنسان.
في الذبيحة الإلهيّة، يتلو الشَّماس على مسامعنا هذه العبارة قائلاً:”كونوا في السُّكوت أيّها السَّامعون”، وهو بالتّالي يستخدم عبارة “أيُّها السَّامِعون” لا “أيّها المستَمِعون”. وفي هذا السَّياق نفسه، يقول لنا مار يعقوب: “اقبَلوا بِوَداعةٍ، الكلمة الّتي غُرِسَت فيكم. وفي وِسعها أن تُخلِّص نفوسَكم”. لذا إخوتي، لا نَذهبَّن للبحث عن الخلاص في مكانٍ بعيدٍ جدًّا، لأنَّ الخلاص هو في مُتَناولِ يدِ كلِّ واحدٍ منّا، فنحن نحصل على الخلاص بمجرَّد أن نفتَح قلبَنا على الكلمة المقدَّسة ونعمل بها. هذا هو الشرط الأساسيّ للخلاص: أن نسمَع الكلمة المقدَّسة ونَعمل بموجبها. فالّذي يسمع الكلمة الإلهيّة ولا يعمل بها، يُشبِه الإنسان الّذي ينظر إلى المرآة ليرى وجهه فقط. جميلٌ جدًّا هذا النّص أحبّائي، لأنّه يُحَوِّل نظرنا إلى الكلمة الّتي خَتم بها الربّ يسوع هذ الـمَثَل، وهي الإصغاء إلى كلمة الله، فَهي المفتاح الأساسيّ لعيشنا الخلاص.

فَمِن هذا المنطلق هناك حقيقةٌ: لا منفعةَ للإنسان ولا معنى له دون كلمة الله في هذه الحياة. لذا، أنا الإنسان، عليّ أن أعرِفَ كيف أقضي وقتي في هذه الحياة الّتي أعطاني إيّاها الله، بِغَضِّ النَّظر عن طول زمن حياتي أو قُصرِه، مِن حيثُ عدد السِّنين. فما هو مُهمّ هو أن أعرِفَ كيف أتفاعل مع كلمة الله وأُفعِّلُها فيّ، فَتتمكَّن هذه الكلمة من أن تُعطي حُبًّا وإيمانًا ورجاءً لكلِّ إنسان ألتقي به على درب هذه الحياة.

في الختام، الشُّكر للربَّ على كلمته الّتي أعطانا إيّاها اليوم كي نستقي منها هذه العِبر، ونعرف كيف نُعظِّم الربّ في ساعة موتِنا، كما عظَّمَته مريم على هذه الأرض، ونعظِّم ذِكراه في حياة الأبد. إنّ مريم، الفائقة القداسة، ما زالت تُعظِّم عملَ ابنها يسوع المسيح الّذي ما زال مستمِّرًا على هذه الأرض، حتّى نهاية هذا الدَّهر والدَّهر الآتي.

الشُّكر لكَ يا ربّ على نِعَمَكَ الّتي حمَّلتَنا إيّاها، على هذه المسؤوليّة الّتي أعطيتنا إيّاها، حتّى تُغنِي مسيرتَنا بالاتِّكال على عَطيّتك ونِعمتِك المقدَّستَين، أكثر من اتِّكالنا على ذواتنا، فنَتكِّل على العلاقة الشَّخصيّة الّتي نَبنِيها معك، ومن خلالك مع الإنسان الآخَر، فتَكون هذه العلاقة مَصدرَ غِنىً ومَنبعًا لِحياةٍ مُفعَمًةٍ بالأعمال الصَّالحة والتَّقوى والتجرُّد، وعيش التواضع والمحبَّة، وعيش الحُبّ الإلهيّ، من الآن وإلى الأبد. آمين.

ملاحظة: دُوِّنَتْ المحاضرة بأمانةٍ من قِبَلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp