“أذكرنا يا ربّ في ملكوتك”
عِظة للأب أنطوان خليل، خادم كنيسة دير مار يوسف – المتين.
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
إخوتي وأخواتي، نحن في زمن القيامة. وبعد خميس الصُّعود، ننتظر عيد العنصرة في الأحد الـمقبل. ها نحن نجتمع اليوم، مع جماعة “أذكرني في ملكوتك”، لِنَذكر أمواتنا لا فقط الّذين دوَّنَّا أسماءهم في السجلّ الخاصّ بهذه الجماعة، إنَّما لِنَذكُر أيضًا جميع أمواتنا الّذين جَمعَتْنا بهم علاقة محبّة وتضحيّة متبادلة. كما نذكر في هذا القدَّاس الشَّهريّ لجماعة “أذكرني في ملكوتك”، جميع الموتى المؤمِنِين في الكنيسة جمعاء، أَكُنَّا نعرِفهم أم لا نعرفهم. تعيش الكنيسة في شراكة دائمةٍ فيما بينها، إذ يلتقي المؤمِنون المجاهِدون في هذه الأرض، بإخوتهم المنتقِلين من هذا العالم، من خلال شركة الصّلاة. وفي لقائنا بأمواتنا في الصّلاة، نتذكَّر أنّه ما مِن أحدٍ خالدٍ في هذا العالم، فكلّ الأشياء في هذه الحياة، وحتّى الإنسان نفسه، ذاهبةٌ نحو الزّوال. ولكنْ عندما نذكر أحبّاءنا المنتَقِلين من هذا العالم بأسمائهم، فإنّنا نجعلهم حاضِرين في وِجداننا، هم الموجودون في سِفر الله، إذ نؤمِن بقيامة الموتى.
إنَّ النبيّ إشعيا، الّذي وَرَد اسمه في الإنحيل الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، هو بالنِّسبة للكثير من المؤمِنِين، الإنجيليّ الخامس، إذ تمحورت نبوءاته حول المسيح وتجسُّدِه في أرضِنا. إخوتي، فلنسأل الربَّ من خلال صلاتنا لأمواتنا، أن يهبنا النِّعمة والحكمة، في عيد العنصرة، من خلال حلول روحه القدس علينا في العنصرة، كي نُدرِك أنّنا زائلون. إنّ الربّ يسير معنا في هذه الأرض، كما سار مع تِلميذَي عمّاوس، لذا نحن مدعوُّون كي نراه في كلِّ كبيرٍ وصغير نلتقيه في حياتنا، فنشهد أمامهم لحضور الربِّ في حياتنا.
إنّ إخوتنا الّذين سبقونا وانتقلوا إلى بيت الآب، قد تركوا لنا إرثًا مهمًّا جدًّا، وهو الإيمان بالربّ يسوع، والاتِّكال على نِعمته في حياتنا، والعيش في خوف الله. ليس المقصود بعبارة “الخوف من الله”، العيش في حالةٍ من الفزع من التقرُّب من الله، بل تعني العيش وِفقًا لمشيئته في حياتنا. كلّما تَطَوّر العالم من حولنا وتقدَّمَ، كلَّما ازدادت صعوبة عيشِنا وَفق مشيئة الله، وازدادت صعوبة التَّعامل مع إخوتنا البشر.
في تعامُلِه مع إخوته البشر، على الإنسان أن يتمتَّع بنعمة التَّمييز فيُدرك مَن الّذي يدفعه إلى فِعل الخير ومَن الّذي يدفعه إلى فِعل الشَّر. إنّ الصُّعوبات الّتي تعترِض حياتنا، تدفعنا في بعض الأحيان، لا إلى الشَّك فقط في الآخَرين إنّما أيضًا إلى الشَّك في ذواتنا. عندما نَذكر أمواتنا في صلاتنا، فإنّنا نستحضِرهم في ذاكِرَتنا، فنتذكَّر كلماتهم، ومواقفهم، وتعاليمهم ورعايتهم لنا، فنتعلَّم منهم بساطة عيش الإيمان المبنيّ على الاتِّكال على بركة الله، ومحبّة الآخَرين والتَّضامن مع الآخَرين في مِحَنِهم. فلنَسعَ إخوتي، إلى استثمار هذا الميراث: ميراث إيمان أجدادنا، ساعِين إلى العمل على نموِّه فينا، ونَقلِه إلى أبنائنا.
إنَّ لقاءنا الشَّهري مع جماعة “أذكرني في ملكوتك”، هو لقاءٌ مثمر، إذ نعيش الشراكة مع أمواتنا في الصّلاة، فنتعلَّم منها أنّ الخلود هو لله فقط، مردِّدين عبارة زمن الدِّنح، قائلِين: “الدَّائم دائم”. إنَّ الربَّ يسوع هو الوحيد الدّائم في هذه الحياة وفي الحياة الثانية، وهو الوحيد الّذي سيبقى معنا على الدّوام، فكلّ ما سِواه في هذه الأرض هو حُطام زائل، لا نفع فيه. ونحن السّائرون على دروب هذه الحياة نأمل أن تكون مسيرتنا الأرضيّة لما فيه نموُّنا الروحيّ في الحكمة والنِّعمة، أمام الله وأمام النّاس، فنتمكَّن من التعرُّف إلى الربِّ في طرقات حياتنا على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي تواجهنا فيها.
إخوتي، سنحتفل الأحد الـمُقبل سنحتفل بعيد العنصرة، لذا فلنطلب من الربِّ في هذه المناسبة أنْ يَهبنا الحكمة والنّعِمة لكي نتمكَّن من رؤيته، هو الإله المتجسِّد والمتواضع والنَّقي في وجوه إخوتنا الّذين نلتقيهم على دُروب حياتنا. وعندما نتمكَّن من رؤية الربِّ المتجسِّد من أجلنا، في إخوتنا البشر، سنتمكّن مِن محبّتهم والثِّقة بهم، بفِعل نعمة حلول الرُّوح القدس علينا، على الرُّغم من صعوبات الحياة الّتي تدفعنا في الكثير من الأحيان إلى فقدان الثِّقة بالآخَرين. نحن مدعوُّون إلى المثابرة في محبّة إخوتنا والثِّقة بهم، لا فقط إخوتنا الّذين انتقلوا من بيننا، إنّما بالأكثر إخوتنا الّذين لا يزالون أحياء في هذه الأرض، فنسارع إلى مساعدتهم ومساندتهم في صعوباتهم، فنتعرَّف من خلالهم أيضًا على الربّ يسوع.
إنَّ جماعة “أذكرني في ملكوتك”، تُصلِّي لله قائلةً: “أُذكرنا يا ربّ مَتى أتينا في ملكوتك”، لأنّنا جميعنا خطأة، وبحاجةٍ إلى مغفرتك لذنوبنا في هذه الأرض. كما تُصلِّي هذه الجماعة من أجل أمواتنا، كي يرحمهم الربُّ ويذكرهم في ملكوته السماويّ. نسأل الله أن يمنحنا النِّعمة فنتعلَّم مِنَ الّذين سبقونا إلى الملكوت، طريقة عيشهم للخدمة والإيمان والمحبّة، إذ ما مِن شيءٍ باقٍ في هذه الأرض؛ ونتذكَّر من خلال مرافقتِنا لإخوتنا الأحياء في هذه الأرض، أنّ الربّ يسير معنا في هذه الحياة من خلالهم، ليقودنا إلى الحياة الأبديّة، فإيماننا بالقيامة لا يظهر للعَلن إلّا من خلال أعمالنا وتصرُّفاتنا، مع الآخَرين.
المسيح قام، حقًّا قام.
ملاحظة: دُوِنَّت العِظة بأمانةٍ من قِبلنا.