محاضرة للأب ابراهيم سعد،
خادم رعيّة السيّدة – راشيا الوادي، البقاع.
“أمام المَصلوب”
في إطار استعدادنا للأسبوع العظيم، يتمحوَر حديثنا اليوم حول الحدث الفِصحيّ، أي بَدءًا بِـخيانة التّلاميذ للربِّ يسوع مرورًا بعمليّة إلقاء القبض عليه في بستان الزّيتون، وصولاً إلى المحاكمة والموت على الصّليب. لذا سأتلو على مسامِعكم مناجاةً لأحد المؤمِنِين للمصلوب على الصّليب، علَّها تُساعدنا على فَهم عَمَلِ اللهِ الخلاصيّ، فالربّ يسوع أَعلَنَ حبَّه للبشر بموته على الصّليب، وقد وَصَفَ الأب سيرافيم الطرزي، هذا الحدث بالقول إنّه من أعلى الصليب، قد أُعلِنَت صَرخةُ حبِّ الله للبشر، وبذلك، شابه الله كلّ حبيب يُعلِن لِـحَبيبته للمرَّة الأولى حبَّه قائلاً لها:”أُحبُّكِ”.
“يا يسوع، “يا عِشقِيَ الـمَصلوب”، أنتَ مُعلَّقٌ على خَطايانا قَبْل أن رَفعُوك على خشبة. قتَلَتْكَ خطايانا، في ما كنّا نَلهو بها. نُبصِرُك الآن، لا مَنظرَ لك ولا جمال، فنَشتهيك “مُدمّى، مطعونًا ولكن غير مكسور. مَوضِعُ محبّة الله. تَدينُ معاصيَنا بجسدك ولا تدينُنا لأنّ قلبك لا يحتمل أن يموت فيه إنسان. نحن مشرَّدون يا سيِّد. لقد مَدَدْتَ ذِراعَيك كي تضمَّنا فتُعيدَنا إلى أبيك، إنسانيّة واحدة مطهّرة كي لا يلفظ حُكمَه فينا يوم الدَّينونة. أنت تقول لهم: ما لهم وللموت. اغفر الزّلات للكاذِبين والسّارِقين والقتلة لأنّك تُحبُّهم كما تُحبّ الطاهِرين.
جميعُهم أبناؤكَ وجميعُهم إخوةٌ لي. أنتَ تحتَضِنُهم كلُّهم بالرَّحمة وما مِن أحدٍ يَخلُص إلّا بهذه الرَّحمة. أنتَ أَوحيتَ للتِّلميذ الحبيب: “الله محبّة”. هذا فَهِمَ أنّ المحبّةَ هي أنتَ، ومَن أَحَبَّ تكون أنتَ ساكِنَه. ومَن كَفَرَ تكون أيضًا ساكِنَهُ. تطلبُ إليه فقط أن يُؤمِن بعفرانِكَ وإيمانه. هذا يُرجِعُه إليكَ. تغفرُ له لأنّك تشتاقُه في كلّ حين. إنَّك تشتاق إليه لِكَونِه وليدَ محبّتك الّتي لا تريد أن يُطرَدَ منها أحدٌ. فإذا نَسِيَها ماذا يبقى له في الذّاكرة؟ كِبارُنا قالوا إنّك أَوجَدتَنا كي لا يبقى حُبُّكَ أسيرَ كيانِك. يا أبتاه، أنتَ إلهٌ يَمتدّ، يَضُمّ، فيحيا ويعرف كلّ إنسانٍ أنَّه نَسيبُ الله … أنتَ ما أصعَدتَ أحدًا إليكَ إلّا لـمّا أنزَلتَني إليهم.
إنّهم سيَصعدون معي بعد قليل ليَتِمّ فَرَحُهم فينا، فينكشف لهم ملكوتك. قُلْتَ لَهم إنّه فيهم، ثمّ تَرجَمْتَ لهم ذلك بموتي.
يا يسوع، خُذني إلى هذا الحبّ الّذي تُكفِّر به ذنوبي كلَّ يوم. لا تجعلني أرى غير وَجهك لأنّ كلَّ وجهٍ آخر يُلهي. أُحصرني في محبّتك حتّى لا تُدغدِغُني أهوائي، فيرى النّاسُ نُورَكَ مُرتَسِمًا على وَجهي. ولكنْ عرِّفْهُ أنّ هذا النُّور ليس مِنه ولكنّه مسكوبٌ عليه بحنانك. أنتَ اختَلَطتَ بنا لنَذوقَكَ والعلاقة بيننا وبينك بعد أن أتمَمْتَ العشاء الأخير أنّك أعْطَيتنا ذاتَك بشكلِ خبزٍ وكأس حتّى نجوع إليك دائمًا، ونعطش إليك حتّى تزول المسافة الّتي كانت بيننا وبين أبيكَ.
وإذا دَخَلتَ إلينا بهذه الصُّورة لا نَظَلُ حاسِبينَ أنّنا إخوةٌ باللَّحم والدَّم اللَّذين نحن بِهِما، فَبِتنا إخوةً برُوحِك. نحن لا نأخذُك إلينا فقط، أنت تَخطِفُنا إليكَ. أنتَ تُظهِر أنّ هذا الّذي نَتناولُه على مائدةِ الخلاص هو إيّاك الجالسُ عن يمين الآب.
نحن نرى هذا بأنَّ ذِراعَيكَ المَمدودَتَين على الخشبة تَضُمّانِنا إليك وإلى أبيك بقوّة روحك. نعود إلى ذِراعَيكَ حتّى لا نَتَشتَّت في دُنيانا وقد أصبَحتَ أنتَ دُنيانا حتّى لا نتلهّى بِسواها، فنضجر ونموت.
لقد قُلْتَ مرّةً:”مَن أرادَ أن يتبعني، فليَكفرْ بنفسه ويحملْ صليبَه ويتبعني”. نعرِفُ أنّ هذا شاقٌّ على قوانا، ولكنّنا نؤمِن أنّك تَحمِلُ شقاءنا، فنَتعزّى بكلِّ كلمةٍ خَرَجت مِن فَمك. وكذلك أنْتَ قُلتَ: أَنتُم أنقياء بسبب من الكلام الّذي كلَّمتكم به”. أن نسمع فقط إلى ما قلته ولا نستمع إلى سواه، هذا يجعلنا خلائقَ جديدةً. مِن بعد هذا ننبسط في ملكوتك. سُدَّ علينا يا يسوع لنَطمئِّنَ إلى أنَّ سلامَكَ فينا. هذا سلامٌ تُعطيه أنتَ مِن جراحِكَ فتُشفى به جِراحُنا، فلا نَرقُد رَقدةَ الموت.
الحياةُ الجديدة الّتي دَعَوتَنا بها صارت فينا، وتصير إذا حَفظْنا وَصاياك. إنْ هَربْنا من وَصاياكَ، سعيْنا إلى سرابٍ فَعَدَم … انتشِلْنا دائمًا مِن هَوى السَّقطات الّتي تحوِّلنا عن رؤية صليبِك، فتَميلَ نفوسُنا إلى كلامِ الخديعة. والخديعة هي “شهوةُ العَين وشهوةُ الجسد وكبرياء الوجود”. هذه كلّها مِيتاتٌ نعرِفُها تُعطِّلُ فاعليّة صليبِك فينا.
نريدك يا سيِّد، لا تُخْزِنا ولا تُجرِّبنا بِذَوقِ المعاصي. أنْتَ جعلْتَ القدِّيسينَ لا يُريدونها… حتّى لا تكونَ لنا مشيئةٌ غيرُ مشيئتِك… قوِّم أفكارَنا لكي لا نُخطئ فِكرَك، نقِّ نِيّاتِنا لنَتَقبَّل بفرحٍ ما تَنويهِ لنا، وهكذا نُصبح عُشراءَك حقًّا…. يا سيِّدي أبعِد عنّا كلّ شَبَحٍ يأتي إلينا مِن مملكة الموت، وأهِّلنا إذا ما اقتربَ أنْ يَلقانا الآبُ بقوَّة قيامَتِك.
اكشِف يا ربّ وجهَك لكي نَقبلَ حضنَ أبيكَ. كلُّ الّذين يَموتون يَدخُلونَ بِرَحمتِه. هذا ما قالَهُ كِبارُنا الّذين تَرَوَّضوا في الجِهاد…. بعد هذا، نَعْزِفُ مع الملائكةِ على قيثاراتِ الظّفرِ، وكلُّ لحظةٍ مِنَ السّماويّاتِ تكونُ فينا ترتيلةً جديدةً.” (بقلم المطران جورج خضر)
إنّ الله الآب قد كَشَف عن حبِّه للبشر من خلال يسوع المسيح، الـمُعلَّق على الصّليب. إنّ الإنسان يدين أخاه الإنسان انطلاقًا من التَّشهير بأخطائه، ويُحاسِبُه على تقصيره في هذا العَمل أو ذاك. أمّا الله فلا يدين الإنسان هكذا، إذ يَدينُ الإنسانَ من خلال التَّعبير عن حبِّه اللامحدود له، الّذي قاده إلى الموت على الصّليب. إنّ الربّ يسوع قد مات على الصّليب فِداءً عن البشر، كي تتمكّن البشريّة من الوصول إلى يوم الدَّينونة مُطهَّرة مِن خطاياها. إنَّ الله يُحبِّ الخاطئ تمامًا كما يُحبُّ البارّ، وهذا ما يَعجز الإنسان عن إدراكه، فالأهل أَنفُسُهم يميِّزون في محبّتهم لأبنائهم استنادًا إلى أعمال هؤلاء الصّالحة أو الشِّريرة. إنَّ محبّة الله للقتلة والسّارِقين والكاذِبين كمحبَّتِه للأبرار، لا تعني أنّ هؤلاء الخطأة قد أصبحوا أطهارًا، بل تعني أنّهم سيَدفعون ثَمن خطاياهم وسيخضعون للدَّينونة لا استنادًا إلى خطاياهم بل انطلاقًا من محبّة الله لهم، الّتي دَفعته للموت من أجلهم على الصّليب. إذًا، إنَّ دينونة الله للخطأة، لا تُشبِه دَينونتَنا لهم: فالإنسان يبرِّر أخطاء أحبّائه، ويحكم دون رَحمة على الّذين لا يُحبُّهم؛ أمّا الله فهو يُحِبُّ الجميع، لذا يسعى إلى تبريرهم إذ إنَّه قد مات من أجلهم على الصّليب. لا خلاص للبشر خارج رَحمة الله.
إنّ اللهَ محبّةٌ، ولذلك خلَق الله الإنسانَ ليُعبِّر له عن محبّته، فالله لم يحتفِظ بحبِّه لنَفسِه، بل أرادَ أن يُتَرجِمَه من خلال آخر، فكان الإنسان. إنّ الحبّ لا يُعاش من دون وجود آخر. بموته على الصّليب، أنهى الربّ يسوع المسافة الّتي سبّبتها الخطيئة بين الله والإنسان. إنّ الربّ يسوع الّذي يُقدَّم إلينا في كلّ ذبيحة تحت شكل الخبز والكأس، هو نفسه ذلك الجالسُ عن يمين الله الآب. إنّ الربَّ يسوعَ يمنحُنا سلامَه من خلال جراحاته على الصّليب.
إنّ هذه المناجاة هي عبارةٌ عن لقاء الإنسان المؤمِن بالمصلوب. من خلال تأمُّله بالمصلوب، يكتشف المؤمِن الفرصة الّـتي منحه إيّاها الربّ على الصّليب، ألا وهي الخلاص والحياة الأبديّة. كان باستطاعة الربّ أن يستعين بجنود الملائكة لحمايته من هذه الميتة كالـمُجرِمِين، ولكنّه قَبِل بتلك الميتة ولم يَرفُضْها لأنّ كلّ امتناعٍ عن الموت من أجل المحبوب يُعبِّر عن نقصٍ في الحبّ. إن الربَّ يسوع بقبوله الموت على الصّليب، عبّر عن عظمة حبِّه للبشر.
إنَّ نزول الربّ عن صليبه كان مِن شأنه أن يَدفَع رؤساء اليهود إلى الإيمان به، واعترافهم به مَلِكًا أرضيًّا عليهم، ولكنّ ذلك كان لِيَمنَع الربّ من إظهار حبِّه الكامل للبشر. إنَّ الربَّ يسوع فضّل أن يُظهِر حبّه الكامل للبشر مِن أن يكون زعيمًا أرضيًّا على فئةٍ مُعيَّنة من البشر. إنَّ حبَّ الله للبشر هو الّذي دَفَعه إلى غفران الخطايا للّذين صَلبوه قائلاً لله: “اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يَدرون ماذا يَفعلون” (لو 23: 34). إنَّ رؤساء اليهود كانوا يَعلمون أنّهم يَصلبون ربَّ المجد، ولكنَّ الربّ يسوع، مِن شِدَّة حبِّه لهم، قد سعى إلى تبريرهم فغفر لهم خطيئتهم.
إنّ التأمّل في المصلوب، الـمُعرَّى من ثيابه، مِن شأنه أن يَدفع بالمؤمِن إلى التخلِّي عن كلّ قناعٍ يرتديه في حياته اليوميّة. إنّ الإنسان قد يشعر بالخجل من الكَشف عن وَجهه أمام الآخَرين الّذين يُسارِعون إلى إدانته، ولكنْ هل يجوز للمؤمِن أن يَخاف من الكَشف عن ذاته أمام الربّ الّذي بَذَل حياته مِن أجله، مُعطِيًا إيّاه الحياة الأبديّة على الرُّغم من خطاياه الكثيرة؟ إنّ الربّ يسوع قد كَشَف عن حبِّه لك على الصّليب، لذا تشجَّعْ واكشِفْ عن ذاتك أمامه، لأنّه الوحيد القادر على شِفائك من إنسانيّتك المجروحة بالخطيئة. إنَّ بولس الرَّسول الّذي بشَّر العالم بكلمة الله، تعرَّض في حياته الأرضيّة إلى الانتقاد، ولا يزال كلامه إلى يَومِنا هذا، عُرضَةً للانتقاد. كذلك الربُّ يسوع الّذي مَنَح البشريّة الخلاص، قد تعرَّض إلى الانتقاد مِن رؤساء اليهود في حياته الأرضيّة، ولا تزال أقواله وأفعاله إلى يومِنا هذا عُرضَةً للانتقاد: إذ نسمع البعض ينتقدون كلام الربّ، على سبيل المِثال، للمرأة الكنعانيّة، وهنا يُطرَح السؤال: هل نحن أرحَمُ من الربّ على خَليقته؟ إنَّ كلّ الانتقادات الّتي تعرَّض لها الربّ ورُسُله ما هي إلّا تعبيرٌ عَن رَفضِ المجتمع للكشفِ عن ذاته أمام الربّ. إنّ الدَّم والماء اللّذين سالا من جنب الربّ على الصّليب، ما هما إلّا تعبير عن عظمة محبّة الربِّ له.
إنّ موت الربّ على الصّليب يدفَعُنا إلى الشُّعور بالفرح لا بالحزن، إذ إنَّنا بموته على الصّليب حَصَلنا على الملكوت أي الحياة الأبدية مع الربّ. ولكنَّ الإنسان للأسف، ينسى تلك النِّعمة الّتي وُهِبَت له، فيتلهَّى بخطاياه وبمراقبة خطايا الآخَرين، فيدفُنُ المسيح في قلبه، ولا ينتبه لقيامة المسيح في حياته، ولا يختبر فرَحَها. في عيد الفِصح، على المؤمِن أن ينظر إلى المصلوب، واضعًا كلّ الصّعوبات الّتي تواجِهه في هذه الحياة أمام المصلوب، فيتمكّن من النَّظر إليها بعد ذلك، على حقيقتها، من دون تعظيمٍ لها. إنّ ما تَحَمَّله الربّ على الصّليب من آلامٍ يفوقُ كلّ معاناتك في هذه الحياة، فما أنتَ تُعانيه في هذه الحياة هو نتيجة إهمالِك وضُعفِك وجهلِك، أمّا معاناة الربّ فهي ناتجة لا عن إهماله وضُعفه هو، إنّما هي ناتجة عن إهمالِك وضُعفِك وخطاياك أنتَ. إنّ الربّ قد اتَّخذ طبيعتنا البشريّة، ليُخلِّصها، لأنَّ “ما لَم يُتَّخذ لا يُخلَّص”.
إنَّ الربّ قد شارَكنا باللَّحم والدَّم، أي بِضُعفِنا البشريّ ما عدا الخطيئة، فالخطيئة ليست من الطبيعة البشريّة، بل هي دَخيلةٌ عليها، فالله قد خَلَق الإنسان على صُورَته ومِثاله. لم يتَّخذ الربُّ يسوع الخطيئة، ولكنّه اتَّخذ كلّ نتائجها، فعانى من الجوع والعطش، والآلام والموت، ليتمكَّن مِن تخليص الإنسان نفسًا وجسدًا.
بعد كَشفِ الربّ حبَّه العظيم للبشر على الصّليب، أيجوز لنا البكاء على المصلوب، في يوم الجُمعة العظيمة؟! للأسف، إنّ بعض المؤمِنين يرتدون الثياب السَّوداء حُزنًا على موت المسيح، في يوم الجُمعة العظيمة، وقد تجرّأت بعض الكنائس على تزنير أسوارِها بالسَّواد، حُزنًا على المصلوب. إخوتي، في يوم الجمعة العظيمة، على المؤمِن أن يرتدي الثياب البيضاء أو ثيابًا زاهيّة اللّون، للتَّعبير عن فَرحِه لحصوله على الملكوت، بموت المسيح. إنّ الربّ قد انتصر على الموت، ولذا لا داعي للبكاء، فالمسيح قد قام في اللَّحظة ذاتها الّتي أسلَم فيها الرُّوح. لم ينتصر الموت على الربِّ يسوع حين أسلم الربّ رُوحَه، ولكنّ الموت يستطيع الانتصار على المؤمِن حين يستسلم للخطيئة. لقد ألغى الربّ يسوع بموته كلّ سُلطانٍ للموت على البشر، ولذا على المؤمِن أنّ يُلغي كلّ صُوَر الموت في حياته.
على المؤمن ألّا يحزن على موت المسيح، بل على موت المسيح أن يدفعه إلى طَرح السؤال على ذاته: ما هَدف الربّ مِن قبوله الموت؟ إنّ الربّ يسوع قد مات ليُعبِّر عن حبِّه العظيم لنا، وليمنَحنا الحياة الأبديّة، ولذا على الإنسان أن يَفرح بالخلاص الّذي ناله في يوم الجمعة العظيمة، لا أن يَحزن لموت المسيح. إنَّ اكتشاف المؤمِن لقيمة عمل الله الخلاصيّ على الصّليب، تدفعه إلى الفَرح وتساهم في انتقاله من مرحلة الموت إلى القيامة.
إنَّ ما فَعله الربّ لأجلِنا على الصّليب، يدفعنا إلى تحقيق حالةٍ من السّلام مع الآخَرين، فلا نقبل بأن تدوم خصوماتنا مع الآخَرين لِفَتراتٍ طويلة، بل نسعى إلى إيجاد حلولٍ لها، لأنّ هذه الحياة لن تُمنَح لنا إلّا مرّة واحدة، لذا فلنسعَ إلى عيشِها بسلامٍ وبِفَرحٍ مع الآخَرين.
إنّ المسيح قد جاء ليَمنحنا الفرح لا الحزن، ولكنَّ علامات الفَرح والرَّجاء تبقى غير ظاهرة في حياة المسيحيّين، وهذا ما عبَّر عنه الفيلسوف الألمانيّ الّذي قال إنّ المسيح قد مات ولم يَقم، إذ لا تَظهر علامات فرح القيامة لا على وُجوه المسيحيّين ولا في أعمالهم اليوميّة. ولكن علامات الفرح والقيامة تظهر في حياة بعض المسيحيّين بدليل ما تعرَّض له المسيحيّون في نيجيريا في الأيّام الأخيرة، بسبب إيمانهم بالمسيح.
إنّ إشعاعات الفرح والقيامة كانت ظاهرة لجميع القاطِنين في نيجيريا، لذا حاول البعض قَتل المسيح من خلال قَتلِهم لأتباعه، ولكن المؤمِنِين قَبلوا الموت بفرح رافِضين التَّخلي عن إيمانهم بالربّ، وفيهم تحقَّق قول بولس الرَّسول:”فَمَن يفصِلنا عن محبّة المسيح: أَشِدَّةٌ أم ضيقٌ أم اضطهادٌ أم جُوعٌ أم عُريٌ أم خَطرٌ أم سَيفٌ؟” (رو 8: 35). إنّ المسيحيّين في نيجيريا تعرَّضوا للقتل بوَحشيّة، مع العِلم أنّهم فُقراء، وبسطاء في اللّاهوت، ولكنّهم تمكّنوا مِن خلال حياتهم اليوميّة، من عيش فرح القيامة.
إنّ المؤمِن الّذي ينظر إلى معاناة الآخَرين يتوقّف عن التَّشكي من الصّعوبات الحياتيّة الّتي يواجهها، لأنّه سيجد نَفسَه في النَّعيم، لدى رؤيته لعذابات الآخَرين. فمثلاً، إنّ الّذي يشتكي من عدم قُدرَته على شِراء حذاءٍ جديد، بدلاً من ذلك الممزَّق الّذي يمتلكه، بسبب وَضعه الماديّ الصّعب، سيَكُفُّ عن التَّشكي من وَضعه هذا، حين يرى إنسانًا مبتور الأطراف السُّفليّة، أي غير قادر على ارتداء حذاء.
إنَّ اكتشافَنا للنِّعم الّتي منَحنا إيّاها الله في حياتنا، سيُساعدنا على اكتشاف عظمةَ حبِّه لنا. ولكنَّ الإنسان للأسف، لا يكُفُّ عن لوم الله على عدم تَدَخُّله لِتَحسين أوضاع إخوتنا المحتاجين، وكأنّه يُحبِّ إخوته أكثر من محبّة الله لهم. إنّ المحتاجين الموجودين في محيطنا، يُشكِّلون فرصةً لنا للتَّعبير عن محبّتنا للربّ من خلال مساعَدتنا لهم. على المسيحيّين عدم البكاء على إخوتهم الّذين قُتلوا في نيجيريا، لأنّ هؤلاء يجلسون على العرش في ملكوت الله، وهم يتشَفَّعون لنا للتّوبة عن خطايانا، والتقرُّب من الربّ.
أن يعيش الإنسان حياته بفرحٍ، لا يعني أبدًا أن يتجاهل هذا الأخير صعوباته، باعتبارها غير موجودة، بل يعني أن يُحوِّل نظره من المصلوب، إلى القبر الفارغ الّذي يُعلِن قيامة الربّ. إنَّ تركيز الإنسان على همومه اليوميّة يدفعه إلى التَّفكير في هذه الأرض، لمحاولة حلِّها دون المسيح. على المؤمِن أن يضع همومه أَمام المصلوب، فيدفِنها مع المسيح في القبر. إنَّ المسيح لم يُطِقْ العيش في القبر لأنّه أراد أن يَمنحك الحياة، فَلِمَ أنت تضَع همومك في قبرِك، وتحاول الإبقاء عليها، والصّلاة لأجلها؟
في يوم الجمعة العظيمة، يكشف لنا الربّ عن حبِّه العظيم لنا وعن خلاصه، قائلاً لنا: “أُحبُّكم”، لذا نحن مدعوُّون أمام هذا المشهد الإلهيّ إلى أن نكشف عن أقنعتنا أمامه، وأن نُعبِّر له عن حبّنا من خلال تصرُّفنا مع الآخَرين، والسَّعي للعيش بفرحٍ وسلامٍ معهم، فنتذكّر على الدَّوام إعلان حبّ الله لنا، مِن أعلى صليبه قائلاً لنا: “أُحبُّكم”، كي لا ننسى محبّة الله الأولى لنا، الّتي أشار إليها كتاب الرُّؤيا:”ولكنَّ مأخذي عليك هو أنَّ حبَّك الأوّل قَد تَركتَه” (رؤيا 2: 4).
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.