“مَثَل الوليمة العظيمة”( لو 14: 15-24)

تأمّل للأب ابراهيم سعد،
ضمن لقاءات التنشئة لشبيبة “أذكرني في ملكوتك”.

“فلمّا سَمِع ذلك واحدٌ مِنَ المتَّكئين، قال له: “طوبى لِمَن يأكلُ خُبزًا في ملكوت الله”. فقال له: “إنسانٌ صَنع عشاءً عظيمًا ودَعا كثيرين. وأرسَل عَبدَه في ساعة العشاء، ليقول للمَدعوِّين: تعالَوا لأنّ كُلَّ شيءٍ قد أُعِدَّ. فابتدأ الجميع برأيٍ واحدٍ يَستَعفون. قال له الأوَّل: إنِّي اشتريتُ حَقلاً، وأنا مُضطَّرٌ إلى أن أخرج وأنظُرَه. أسألك أن تُعفيَني. قال آخر: إنِّي اشتريْتُ خمسة أزواجٍ بَقرٍ وأنا ماضٍ لأمتَحِنَها. أسألك أن تُعفيَني. قال آخر: تزوَّجتُ بامرأةٍ، فلذلك لا أقدِرُ أن أجيء. فأتى ذلك العبدُ وأَخبرَ سيّدَه بذلك. حينئذٍ، غضبَ ربُّ البيت، وقال  لِعَبده: أخرُج عاجلاً، إلى شوارع المدينة وأَزِّقَتِها، وأَدخِلْ إلى هنا المَساكين والجُدْعَ والعُرجَ والعُميَ. فقالَ العَبدُ: يا سيِّدُ، قد صار كما أَمرْتَ؛ ويوجدُ أيضًا مكانٌ. فقالَ السَّيِّدُ للعَبد: أُخرُج إلى الطُرُق والسِّياجات وألْزِمْهم بالدُّخول حتّى يمتلِئَ بيتي؛ لأنِّي أقول لكم: إنّه ليسَ واحدٌ مِن أولئك الرِّجال المَدعوِّين يذوقون عشائي” (لوقا 14: 15-24).

يُقدِّم لنا هذا النَّصُّ قِصَّةً لا منطِق فيها: أوَّلاً، مِن حَيثُ طريقة الدَّعوة؛ ثانيًا مِن حيثُ الـحُجَج المقدَّمة للتَّعبير عن رفضِ الدَّعوة. يبدأ هذا النَّص بعبارة: “طوبى لِمَن يأكُلُ خبزًا في ملكوت الله”، وهي نتيجة حديثٍ أعطاه الربُّ يسوع في المقطع الإنجيليّ السَّابق لهذا النَّص. وفي خُلاصةٍ لِما وَرَد في المقطع السَّابق، طلب الربُّ يسوع إلى السَّامعين له، أن يقوموا بدعوة الّذين لا يستطيعون مكافأتهم، إلى تناول العشاء معهم، إذ قال لهم: إنْ دَعيْتُم إلى العشاء معكم مَن يستطيع دعوتكم في المقابل، كالجيران والأصدقاء والأقارب، فأيُّ فضلٍ لكم؟ إنَّكم قد نِلتُم مكافأتكم على هذه الأرض. أمّا إذا دَعَيْتُم إلى العشاء الّذين لا يستطيعون مكافأتكم، كالفقراء والمساكين والعُرج والعميان، فإنّكم ستنالون مكافأتكم لا من الأرض بل مِن السَّماء.

انطلاقًا ممّا سَبَق، أَخبَرنا الإنجيليّ لوقا هذه القصَّة، فقال لنا إنَّ سيِّدًا قد دعا إلى العشاء أشخاصًا يَعرِفهم، فتَمَّنَعوا عن الحضور إلى هذا العشاء، لأسبابٍ واهيةٍ، غير منطقيّة وغير مقنعة. يُخبرنا الإنجيليّ لوقا أنّ هذا السَّيد قد أقام عشاءً عظيمًا ودعا إليه الكثيرين، ولكنّ الغريب في الأمر، هو أنّ هذا السَّيد دعا هؤلاء إلى العشاء في ساعة العشاء، لا قَبْل موعد العشاء بِفَترةٍ زمنيّة: عادةً، يقوم الإنسان بدعوة النّاس إلى مشاركته مُناسبةٍ تَخصُّه، مُسْبقًا، مُحدِّدًا لهم الزَّمان والمكان، مُتَمنيًّا عليهم الحضور. وهنا يقول لنا الإنجيليِّ: “فابتدأ الجميع برأيٍ واحدٍ يَستَعفون”، وهذا يعني أنّ الجميع قد اتَّفَقوا على عدم الحضور، مُقدِّمِين حُجَجًا غير منطقيّة، إلى الخادم الّذي أرسَلَه السَّيِّدُ لِدَعوتهم. كانت الـحُجَّة الأولى أنّ الـمَدعوّ إلى العشاء قد اشترى حَقلاً وهو يريد أن يذهب لِيَراه في المساء.

وهنا ما يُثير الاستغراب إذ إنّ الإنسان لا يشتري حقلاً أو أيَّ شيءٍ آخر مِن دون أن يراه مُسبقًا، كما أنّ الإنسان لا يذهب في اللَّيل لرؤية الحقل بل في النَّهار. وبالتّالي، فإنَّ هذه الـحُجَّة هي غير مبُرَّرة وغير منطِقيّة. أمّا الـحُجَّة الثانية، فكانت أنّ الـمَدعوَّ إلى العشاء يريد أن يَمتَحن في وقت العشاء أزواج البقر الخمسة الّتي كان قد اشتراها. وهنا أيضًا ما يُثير الاستغراب إذ لا يَمتحِن الإنسانُ البَقر في وقت العشاء، أي في اللَّيل، بل في النَّهار. وبالتّالي، هذه الـحُجَّة أيضًا هي غير مُبرَّرة، وغير منطقيّة. أمّا المدعوُّ الثالث، فقد تحجَّج بالمرأة الّتي تزوَّجها.
 
وفي هذا الإطار، نقول: هل الزوَّاج يمنعنا مِن الذَّهاب إلى عشاءٍ تكريميّ أقامَه سيِّدٌ عظيمٌ على شَرَفِنا؟ وبالتّالي هذه الـحُجَّة أيضًا هي حُجَّة غير مُبرَّرة وغير منطِقيّة. إنَّ هذه الـحُجج الثلاثة غير المنطقيّة تَمَحوَرَت حول الحقل والبَقر والمرأة، وهذه الأمور الثلاثة تَمنَح الإنسانَ حياةً واستقرارًا وطُمأنينة؛ وبالتَّالي نجد أنَّ الإنسان قد قرّر التهرُّب مِن هذا السِّيِّد، أي الربّ، لأنّه وَجد الاستقرار والحياة والطمأنينة بعيدًا عنه، بمعنى آخر شعرَ الإنسان أنّ لا حاجة له إلى الربّ. إنّ هؤلاء الـمَدعوِّين قد اعتقدوا أنّه بِتَغيُّبِهم عن العشاء، يُلغى العشاء.

ولكن استنادًا إلى هذا النَّص، نجد أنَّ العشاء قد استمرَّ، إذ طلبَ ربُّ البيت مِن خادمه أن يذهب إلى الطرقات ويدعو المهمشِّين إلى عشائه، وهم أشخاصٌ مرذولون مِن المجتمع، عادةً لا تتمُّ دعوتَهم إلى المناسبات الاجتماعيّة، فَلبُّوا تلك الدّعوة، وتمَّ العشاء. إذًا، لقد استمرَّ العشاء، ولكن مع تغيير في المدعوِّين. قد يحضر إنسانٌ حفلةَ زفاف، فيُخيَّل إليه أنّ الّذين تمَّتْ دعوتهم إلى تلك الحَفلة هم فقط الحاضرون، ولكنّه يَغفل أنَّ العريس قد دعا عددًا أكبر من ذلك بكثير، ولكنَّ قِسمًا منهم قد اعتذر عن الحضور، فاعتقد هذا الإنسان أنَّ المدعوِّين إلى هذه الحفلة هُم فقط الّذين لبّوا تلك الدَّعوة. إنّ المدعوَّ لا يُسمَى مدعوًّا إلّا إذا لبَّى الدَّعوة.

إذًا، لا امتيازَ أبديًّا للإنسان في ما يخصُّ تلبيَتَه دعوة الله. هذه هي مشكلة اليهود، إذ اعتقدوا أنّهم أصبحوا شعب الله المختار حين لبُّوا دعوته، واعتقدوا أنّ هذا الامتياز محصورٌ بهم، ولا يمكن لله أن يختار شعبًا آخرَ له سواهم. بمعنى آخر، اعتقد الشَّعب اليهوديّ أنّ القرار هو مُلكُهم، أي أنّهم يستطيعون حين يشاؤون عدم تلبية دعوة الله لهم، أي التخلِّي عن الربّ، فيُصبح الله من دون شعب؛ وحين يشاؤون يُلبُّون دعوته، فيعودون إليه، ويُصبحُ اللهُ من جديد إلـهَهم، وَهُم شعبه. إنّ الله ليس حِكرًا على شعبٍ معيَّن، فحين يرفض شعبٌ ما دعوةَ الله، لن يتوقَّف مشروع الله، إذ سيقوم الله سريعًا بالبحث عن شعبٍ آخر ليتابع معه مسيرة الخلاص، فَهدفُ الله الأساسيّ، هو أن يتحقَّق مشروعه الخلاصيّ للبشر، مع الشَّعب المختار، أي الشَّعب اليهوديّ، أو سِواه من الشُّعوب.

لقد اعتقد الشَّعبُ اليهوديّ أنَّه يستطيع أن يَحصُر الله بكلمته الإلهيّة، غير أنّ كلمة الله لا تَحصُر الله، بل الشَّعب الّذي يَتبَعُه. إنّ الله حرٌّ مِن كلمته، فهو يستطيع أن يتراجع في أيِّ وقتٍ عن كلمته، من دون سابق إنذارٍ أو تبرير، ولا يَحقُّ للإنسان أن يلوم الله على تصرُّفاته أو اختياراته. كذلك إنّ الإنسان حُرٌّ في قبول كلمة الله أو رَفضِها، ولكنْ في حالِ رَفَضَها لن يحصل على الخلاص الّذي يمنحه الله لشعبِه. اعتقد الشَّعب اليهوديّ أنّه يستطيع تهديدَ الله بالابتعاد عنه إنْ لم يُحقِّق له كلّ رغباته، لذا نجد أنَّ الشَّعب في الصَّحراء قد انتفضَ على موسى حين جاع، وسأله أن يطلب إلى إلهه أن يُرسِل إليه الطَّعام، وإلّا عاد إلى مِصر أرضِ العبوديّة، فاستجاب الربُّ لِطَلبِ موسى وأعطى الشَّعبَ طعامًا، إكرامًا لموسى الّذي لبَّى دعوة الربِّ له.
 
إنّ الربَّ اختار نبيًّا آخر، حين قام موسى بِمَعصيّة أوامر الربِّ: فالربُّ كان قد طلب إلى موسى أن يتكلَّم مع الصَّخرة سائلاً إيّاها أن تُعطيهم ماءً، ولكنّ موسى ضرب الصَّخرة لِيَحصل على الماء منها، وقد حصل عليه، ولكنَّ الربَّ مَنعَه من الدُّخول إلى أرضِ الميعاد واختار الله شخصًا آخر هو يشوع بن نون، لمتابعة مشروعه الخلاصيّ مع الشَّعب. وهنا يُطرَح السُّؤال: أكان يستحقُّ عَملُ موسى أن ينال هذا الأخير العِقاب؟ إنّ الله دقيقٌ في محاسبةِ الّذين يختارُهم ليكونوا مسؤولِين عن إيصال مشروعه الخلاصيّ إلى البشر.
 
إنّ مشكلة الله مع الّذين يختارهم كمُرسَلين مِن قِبَلِه إلى الشَّعب، هو أنّ هؤلاء لا يتردَّدون في إبداء آرائهم في مشاريع الله، عندما يلبُّون دعوته لهم. إنّ الله لا يريد من الإنسان إلّا أن يَقبَلَ مشروعه له، لا أن يُبدي رأيه فيه. إنّ الله قد أرسل إشعيا لإعلان كلمته للشَّعب “الغليظ الرَّقبة”، أي إلى الشَّعب العنيد، والقاسي القلب. عندما سَمِع إشعيا النبيّ دعوةَ الله، حاول أن يتهرَّب منها، فتحجَّج بنجاسة شَفَتَيه. عندها أرسل الربُّ ملاكَه إلى الـمَذبح وطلب إليه أن يُطهِّر شفَتَي إشعيا بجمرةٍ مِنَ المذبح، ليتمكَّن هذا الأخير من الانطلاق في الـمَهمَّة الّتي أرسَله الله إليها. إنّ الله لم يُطهِّر قلبَ إشعيا ولم يُحوِّله إلى قدِّيس، بل طهَّر له شَفَتَيه فقط، لأنّ الـمَهمَّة الّتي أرسلَه إليها الله لا تتطلَّب القيام بأعمال خارقة وأعاجيب، بل فقط إعلان كلمة الله إلى الشَّعب “النَّجِسُ الشِّفاه”. إذًا، عندما يريد الله إيصال كلمته إلى الآخَرين، يختار الطريقة الّتي يراها هو مناسِبة، لا الطريقة الّتي يراها الإنسان المختار لِتِلك الـمَهمَّة مُناسِبةً له للقيام بما أُمِر به.
 
إنّ قداسة الإنسان ليسَت شرطًا يستندُ إليه الله لاختيار مُرسَليه، لإيصال كلمته إلى الآخَرين، لأنّه لو أراد الله انتظار مُرسَليه كي يُصبحوا قدِّيسِين، لما كانت كلمته قد وَصَلت إلينا. وبالتّالي، على الإنسان الّذي يقرِّر تلبية دعوة الله له وإيصال الكلمة الإلهيّة إلى الآخَرين، أن يسعى إلى أن تكون حياته وتصرُّفاته منسجمة مع كلمة الله، فينجحَ في مَهمَّته. إنّ الله قد اختار إرميا ليُوصِل كلمته إلى الشَّعب، وطلبَ إليه أن يهدم ويكسر كلّ أفكارهم القديمة، وأن يغرس كلمة الله فِيهم ويَبْنِيها في نفوسهم. اعترضَ إرميا على دعوة الله له بالقول إنّه لا يزال وَلدًا، فكان جواب الله له إنّه قد اختاره مِن حشا أمِّه لهذه الرِّسالة، ودعاه إلى عدم الخوف مِن الّذين سيبشِّرهم، لأنّه سيكون إلى جانبه، وسيجَعله “مدينة حصينة” وسَيُقوِّيه ويَسنُدَه في كلّ ما يقوم به.
 
عندما يريد الربُّ إيصال كلمته، فإنّه يُوصِلها مِن خلال خاطئ أو قدّيس، وهذا ما لا يَقبَله البشر، لأنَّنا نجد أنّ الشَّعب اليهوديّ، شعبَ العهد القديم، ينتقِدُ أعمالَ الربّ، إذ لا يقبَل أن يكون داوود، على سبيل الـمِثال، مُختارًا مِن الله، وهو أي داوود، قد أرسَلَ رئيسَ جنودِه إلى الحرب ووضَعه في المراكز الأماميّة ليُقتَل، فيتمكّن من الزَّواج مِن امرأته. إنّ تصرُّفَ داوود هذا، يدفعنا إلى ملامة الله على اختياره للبشر، الـمُرسَلين مِن قِبَله. إنّ الله لا يهتمّ لخطايانا ولا يتوقّف عندها، فَما يَهمُّه هو استمرار مشروعه الخلاصيّ عبر التّاريخ، بالطريقة الّتي يراها هو مُناسِبة. قد يتذرَّع البعضُ بتصرَّفات مِثل هؤلاء المختارين ليقولوا إنّهم يريدون التصرُّف كما يتصرَّف الله ويختار مُرسَليه.
 
وهنا أودُّ أن أذكِّر أمثال هؤلاء، أنّهم لا يزالون بشرًا وبالتّالي لا يمكنهم التشبُّه بالله، وبالتّالي علينا الخضوع لكلمة الله والعمل على عيشها في حياتنا، إنْ كُنّا نريد الحصول على الخلاص. للأسف، إنّ بعض التعاليم الخاطئة، دَفعت بالمؤمنِين إلى الاعتقاد بأنّ الله أصبح مُساويًا لهم، لأنَّه تجسَّد في أرضِ البشر، وبالتّالي لجأوا إلى إلى أسلوب الترهيب والتَّرغيب: فهدّدوا الله بالابتعاد عنه إنْ لم يُحقِّق لهم ما يريدونه، كما قد لجأوا إلى استعمال أسلوب الترغيب مع الله، فعَمَدوا إلى تقديم النُّذورات له، كنوعٍ من الرَّشوة، في محاولةٍ لاستمالة الله ليُحقِّق لهم رغباتهم.
 

إخوتي، إنّ الله لا يُرَهَّب ولا يُرَّغب. إذًا، الله يتكلَّم، وعلى مَن يسمَع نداءه، أن يُلبيّ، ليكون ضمن شعب الله. ولكنْ حين يتوقّف هؤلاء عن تلبية نداء الله، يتوقَّفون عن كونهم “شعب الله”، لأنّهم ما عادوا يلبُّون دعوة الله لهم، فيتحوّلون إلى أعداء الله، حتّى ولو كانوا في نَظرِ أنفسِهم لا يزالون ضِمن شعب الله. فَلِهذا الاسم بُعدٌ وظائفي، وبانتهاء هذا البُعد، يزول هذا الاسم عن الشَّعب، الّذي لا يخضع لكلمة الله وندائه. إنّ الشَّعب اليهوديّ أعلَن قبولَه دعوة الله له، ولكنّه في العمق رَفض تلك الدَّعوة، إذ اعتقل الربّ واقتاده إلى الموتِ صَلبًا، ونحن اليوم لسنا بأفضلِ حالٍ منه، لأنَّنا نَصلُب الربَّ في كلّ يومٍ بطُرقٍ مختلفة، ومنها: رَفضُ تلبية دعوته لنا لمشاركته العشاء بِحُججٍ واهيةٍ، مِن خلال إهمالنا لحاجات إخوتنا المهمَّشين والفقراء. ما هو مطلوبٌ مِنّا إذًا، هو العمل على تلبية حاجات إخوتنا ضِمن قُدراتِنا المتاحة لنا.

إنّ هذا العشاء، هو صورةٌ عن اليهود، الّذين رَفضوا تلبية دعوة الله لهم للعشاء. منذ القديم، قام الله بِتَهيئة الشَّعب لمجيء المخلِّص مِن خلال أنبياء كثيرين قام بإرسالهم لهذا الشَّعب، فأعلن الشَّعب قبوله هذه الدَّعوة، ولكنّه رَفض تلبيتها، وعندما جاء المسيح قدَّم له حُججًا واهية، تعبيرًا عن رفضه لتلك الدَّعوة. وأهَمُّ تلك الـحُجج الّتي قدَّمها الشَّعب هي أنّ مجيء الربِّ سَيُزعزع سُلطَةَ رؤساء اليهود، ففضّل هؤلاء قتلَ الربِّ على زعزعة استقرار الأُمَّة، إذ قال رئيس كهنة اليهود في يوم محاكمة الربّ: “خيرٌ لنا أن يموت واحدٌ عن الأُمّة”.

في نَظرِهم، بقاءُ الربِّ حيًّا سَيُزعزع الأمَّة اليهوديّة، إذ سيكتشف الشَّعب حقيقة الربِّ، فيَقبلون به ربًّا ومخلِّصًا، وبالتّالي لا يعود هناك مِن وجود للشَّعب اليهوديّ، إذ سيُصبح الشَّعب اليهوديّ مِن أتباع المسيح. واليوم أيضًا، نلاحظ وجودَ ذهنيّةٍ عند المسيحيّة تقوم على اعتبار ذواتِهم شعبَ الله المختار الجديد. إخوتي، إنّ الله لم يَختر شعبًا واحدًا محددًا له، بل اختار كلَّ واحدٍ منّا، على الرُّغم مِن اختلافاتنا المتعدِّدة، لنكون مِن شعبه، عندما نلبيّ دعوته لنا. إذًا، الكنيسة ليست مؤسَّسة، ولا هي جماعة، بل هي “فُتاتٌ”، أي أفرادٌ من كلِّ حدبٍ وصوبٍ، لبّوا نداء الله فشكلَّوا معًا ما نُسمِّيه الكنيسة.
 
وبالتّالي، الكنيسة هي في حالة صيرورة دائمة، وهي لم تَصِل بَعد إلى المنتهى، لأنّ وصولَها إلى المنتهي يكون عند مجيء الربِّ الثَّاني، الّذي سيُشير إليها مُعلنًا أنّها كنيسته المختارة. إنّ الله لا يختار مُسبَقًا كنيسته، ولكن في مجيئه سَيَظهر جليًا مَن هُم الّذين ينتمون إلى كنيسة الربِ حقًّا، أي مَن هُم الّذين لبُّوا نداءه في هذا العالَم. مِن هنا، نستطيع أن نفهم أنّ الله لا يدعو الكاهن مُسبقًا، فحين يَقبل هذا الأخير تلبية نداء الله، يُصبح مدعوًّا لهذه الخدمة الكهنوتيّة، فيُصبح مختارًا مِن الله لهذه الخدمة. قد يرى بعض النّاس ملامح الدَّعوة الكهنوتيّة في هذا أو ذاك، ولكنَّ هذه الدَّعوة لا تُصبح دعوةً حقيقيّة إلّا عند تلبية هذا الأخير نداء الربِّ له لهذه الخدمة، فيُصبح مدعوًّا. لا يوجد كهنوتٌ باقٍ إلى الأبد، إلّا كهنوت يسوع المسيح، على رُتبَةِ ملكيصادق. فالكاهن لا يستمدُّ الكهنوت مِن ذاتِه إنّما مِن الله.
 
إنَّ كهنوت الكهنة، يَخرُج مِن الكأس المقدَّسة، وهذا يعني، أنّ الربَّ يسوع هو الذبيحة وهو في الوقتِ نفسه مُقدِّم الذبيحة، وبالتّالي، ما الكاهنُ إلّا أداةً حسِّية يستخدمها الله، لاحتفال الشَّعب بِذَبيحة الله. إنّ الكاهن هو أيقونةُ الله أمام الشَّعب. إنّ خَتمَ الله، أي ذبيحة الله، يبقى، ولكنّ الأداة الّتي يستخدمها الله في هذا الخَتم قد تتغيَّر، إذ لم تَعُد تلك الأداة صالحة. نحن شعبُ الله، ولكنّنا قد نُصبح أعداءَ الله إذا رفَضْنا تلبية دعوة الله لنا، وبالتّالي ما من شيءٍ دائمٍ إلى الأبد، إن لم نكن على مستوى المسؤولية الممنوحة لنا مِن الربّ. إنّ الله لا يريد منّا أن نُعبِّر له عن قبولِنا بِدَعوته مِن خلال تقديم البخور له أو تمتمة بعض الصَّلوات أمامه؛ ففي العهد القديم، يقول لنا الربُّ إنّه يرفض محارقنا وذبائحنا وصلواتنا الّتي نقدِّمها له في الهيكل، إنْ لم نَكن نهتّم بالبائس واليتيم والأرملة. إنّ الآخَر المحتاج هو المذبح الحيّ لله، فَفِيه يسكن الله. إنّ الله يدعونا إلى الاهتمام بالمحتاجين إلينا، لأنّهم لا يستطيعون مكافأتَنا على خِدمتنا لهم على هذه الأرض، ولكنَّ الربَّ سيكافِئُنا على عملِنا معهم في السَّماء.
 
على كلِّ مسيحيِّ أن يكون على استعدادٍ دائمٍ لتلبية دعوة الربِّ للعشاء في أيِّ وقتٍ كان، إذ ما مِن أحدٍ منّا يستحقُّ أن يشارك الله وليمتَه السَّماويّة. وبالتّالي، فإنّ السُّؤال الّذي يُطرَح علينا هو: هل نحن على استعدادٍ للقاء الربِّ والعشاء معه؟ إنّ الله يدعو الجميع لخدمتِه، ولكنّ الرَّاهب والرَّاهبة والكاهن، يُعَبِّرون عن استعدادهم للتكرُّس له، في الحياة الديريّة، أي في مكانٍ مغلق. ولكنّ كلّ واحدٍ منّا، أعزبَ كان أم متزوِّجًا، يستطيع أن يخدم الربّ مِن خلال الموهبة الّتي أعطاه إيّاها الله. إنّ الله أعطى الجميع مواهب، ولكن لكلِّ واحدٍ موهبةٌ مختلفة عن الآخَر.
 
إنّ جميع المواهب مُفيدة وهي على المستوى نفسِه بالنِّسبة إلى الربّ: فالّذي يهتّم بنظافة الكنيسة لا يقلُّ شأنًا عن الكاهن الّذي يخدم الرعيّة، أو عن الّذي يرتِّل، فالربُّ يقول لنا: “في بيت أبي، منازلٌ كثيرة” (يو 14: 2). إنّ الله قد يدعو مؤمِنًا لِـخِدمةٍ مُعَيّنة، ولكن لا يمكننا أن نقول عنه إنّه مدعوّ إلّا عند تلبيَتِه تلك الدَّعوة. إنّ الحصول مثلاً على بطاقة دعوة لحضور حفلٍ موسيقيّ، له شعور مختلف عن تلبية هذه الدَّعوة وَرُؤية الموسيقيِّين عن قُرب في المكان والزمان المحدَّدين على بطاقة الدَّعوة. ولكن فُقدانِنا للبطاقة يجعلنا غير مؤهَّلين لحضور هذا الحفل. وبالتّالي، قبولُنا بالدَّعوة يُتَرجم بالمحافظة على البطاقة إلى يوم الحَفل. كذلك المسيحيِّون لا يمكنهم أن يكونوا على الدَّوام شعب الله المختار، إنْ لم يحافظوا على الدَّوام على استعدادهم لِتَلبيَةِ نداءات الربّ. كان الشَّعب اليهوديّ مستعدًّا للقاء الربِّ، ولكنْ حين جاء الربّ قدَّم له حُججًا واهيةً تعبيرًا عن رفضِهم له، وبالتّالي لم يعودوا شعبَ الله المختار، ولكنّ وَثنيِّين رأوا الربّ، وسمِعوا نداءه فلبُّوا دعوته، ودخلوا إلى وليمته السّماويّة في الملكوت. إنَّ إيمانَنا بالربّ، وقبولَنا لدعوته، واستعدادنا للقائه، يوصِلُنا إلى الملكوت.
 
إذًا، نحن على هذه الأرض، في مرحلة تدريبٍ دائم، لنكون على استعداد للقاء الربِّ عندما يأتي. ولكنَّ المشكلة هي أنّنا لا نعرف الوقت؛ والحلّ هو أن نكون مستَّعدين في كلِّ وقت. إنّ كلمة “غدًا”، هي كلمة شيطانيّة، أمّا كلمة “الآن” فهي كلمة إلهيّة.
 
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف.
Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp