آبائي الأجلّاء، جماعة “اُذكرني في ملكوتك”، 

أنا سعيدٌ بالتّعرّف إلى هذه الجماعة، وأحمل معي سلاماً خاصّاً من سيّدنا بولس روحانا السامي الاحترام، الّذي يعتذر عن المشاركة معنا اليوم بسبب التزامٍ آخر. ولكنّ الافخارستيّا هي الّتي تجمعنا، تجمع الأحياء والأموات معاً، وهي تجعل الجميع فعلاً في قلب جسد يسوع. هذا هو إيماننا. لذلك نصلّي ونذكر أمواتنا لأننا نؤمن بأنّ يسوع الحيّ القائم من بين الأموات هو الّذي يُعطي الحياة لكلّ جسد. فنحن نعتقد أنّنا في صلاتنا نجعل الله يقتنع بما نقوله، ولكن فعليّاً الله يُحبّ من دون مُقابل، لذلك يقول البابا فرنسيس: “الله رحوم ومحبّته مجّانيّة دائمة ولا حدود لها”. نحن الّذين نتغيّر أمّا محبة الله فهي دائمة. وهكذا عندما نصلّي، نذكر موتانا من أجل أن ينتعش هذا الجسد. هم يذكروننا ونحن نذكرهم ويسوع هو المحور القائم من بين الأموات وهو الّذي يحيينا جميعاً. لهذا نقدّم هذه الذّبيحة الإلهيّة على نيّة جميع الأموات الّذين تحملونهم في قلوبكم، والذين ذُكِرتْ أسماؤهم في هذا السجل والّذين لا يذكرهم أحدٌ. ويسوع، الإله والإنسان في آنٍ، قادرٌ فعلاً أن يُحيينا كلّنا ويُعطينا حياةً جديدةً. 

واليوم، نقيمُ تذكاراً جميلاً جداً وهو زيارة العذراء مريم لأليصابات بحسب الطّقس الماروني، حاملةً يسوع في أحشائها ومُنطلقة، كما “الكنيسة في انطلاق” وفق شعار قداسة البابا. وعلينا نحن المسيحيون أن نخرج ونتحرر من ذواتنا ونفتح الأبواب ونجتمع على مثال المسيحيّين الأوائل، ونتغذَّى من الأسرار، من كلمة الله – وكما عرفتُ أنّكم، في هذا المركز الروحي، تستمعون إلى كلمة الله في الثلاثاء من كل أسبوع، فهي حقاً نعمةٌ- لكي تنطلق الكنيسة، وتعيش فعلاً هذه الكلمة بشهادتها، ونكون أنبياء. وكي نستطيع أن نعيش ونجسّد المحبّة- خدمة المحبّة وخدمة الكلمة، علينا أن نحفظ الكلمة ونمتلئ منها لنتمكّن من أن ننطلق من جديد مثل مريم الّتي عاشت هذا الاختبار. 

وهنا أتذكّر شعار جماعتكم “اُذكرني متى أتيْتَ في ملكوتك” هذه الكلمة التي قالها اللّص الّذي كان على يمين المسيح على الصّليب، قالها بإيمانٍ عميقٍ، وحياتنا كلّها تتكوّن من لحظات ايمان، والأهمّ هو جواب يسوع له “اليوم تكون معي” فبما أنّهُ تابَ عن خطاياه ستكون السّماء مفتوحةً له وحيث يكون يسوع تكون السّماء. هذا هو اختبار اللحظة، لحظة الإيمان، فيسوع يردّد كلمة “اليوم”في الكتاب المقدّس “اليوم تكون معي” “اليوم حصل الخلاص لهذا البيت” قال لزكّا، “اليوم تمّت هذه الكلمات على مسمعكم”، “أعطِنا خبزَنا كفاف يومنا”،”خبزَنا الجوهريّ أعطنا اليوم”. اليوم عند الله هو دائم. عندما نطلب من الله شيئاً، فهو لا ماضٍ له ولا مستقبل، هو دائماً حاضرٌ لأنّه خارج الزّمان والمكان وبالنّسبة إليه كلّ شيء هو في اللحظة، اليوم. وفي اللّحظة الّتي نعرف فيها كيف نؤمن بقلب يسوع، بحُبّ يسوع الكبير لنا، نُعلنه فيها مخلّصاً، ندخل عندها في يوم الله وتُصبح اللّحظة من دون نهاية مما يعني أن حياتنا مكوّنةٌ من لحظات نحبّ فيها من كلّ قلبنا، نُشارك فيها في القدّاس الإلهيّ من كلّ قلبنا، نتأمّل فيها من كلّ قلبنا. وهذه اللّحظات تدخل في يوم الله في الخلاص وتصبح بلا نهاية. هذه اللّحظة قد عاشها اللّصّ الّذي كان على اليمين. ويسوع مات بدلاً من “بارابّا”، “بارابّا” أيّ ابن الآب، ابن الآب لصّ. وابن الآب الحقيقيّ يُصْلب بدلاً من هذا اللّصّ لكي يجعله ابن الآب. 

دعونا نتصوَّر المشهد على الصّليب، يسوع النّاصري وهو ابن الله صُلِب بدلاً من”بارابّا”، أيّ بدلاً من كلّ واحدٍ منّا، فنحن لصوصٌ بطريقةٍ أو بأُخرى، نحن ضعفاء ولكنّ يسوع يُحبّنا كما نحن ويُصلب من أجلنا ليُبرهن لنا أنّه يُحبّنا ويدعونا للعيْش مثل لصّ اليمين ويقول له كلٌّ منا “اذكرني، أنا أؤمن بك في هذه اللحظة”. كما تقول الكنيسة وهي مُتأكدة، أنه القدِّيس الذي دخل إلى السّماء لأنّ يسوع قد أعلنه قدّيساً. والعذراء عاشت حياتها في هذه اللَّحظات، لحظات الإيمان، ما يعني؛ التّسليم والثّقة والصداقة مع قلب يسوع. 

لقد دخلت العذراء هذه اللّحظة وعلّمتنا كيف تصبح حياتنا حقيقةً بشراكة، باتصّالٍ مع يسوع ابنها “افعلوا ما يأمركم به”. في هذه اللّحظة تذهب إلى أليصابات حيث سيكون حدثٌ جميلٌ آخر، في لحظةٍ، بين يسوع ويوحنّا، بين مريم ويوحنّا وأليصابات، بين يسوع وأليصابات وزكريّا، يسوع ينتظر أن يتمّ اللّقاء، ولقد تمّ اللّقاء فعلاً، وأليصابات عاشت لحظة الإيمان هذه وأعلنت لمريم قائلةً “طوبى للّتي آمنت بأنّه سيتمّ ما قيل لها من قِبَل الرّبّ”. مريم آمنت والتزمت وعاشت حتّى النّهاية، لذلك أعلنت الكنيسة الكاثوليكيّة أنّها تؤمن بأنّ مريم انتقلت بالنّفس والجسد حتى لو لم يرَ أحدٌ شيئاً، لا يهمّ الكنيسة أن ترى، فهي تؤمن بأنّ حياة مريم العذراء أصبحت رُويداً رُويداً تتكوّن من لحظات إيمان حتّى ملأها الله حتّى النّهاية، كما قال مار بولس: “أصبح الله الكلّ في الكلّ فيها”، بأفكارها بعواطفها بجسدها بزياراتها بحياتها كلّها. هذا هو إيمان الكنيسة. “مريم سمعتْ وحبِلت بالإيمان” كما يقول اوغسطينوس والتزمت بابنها يسوع و تركته يملأ المكان كلّه. لذلك لم يبقَ فيها شيءٌ للفساد، إذ يفنى فقط كلّ ما ليس الله. نحن نؤمن أنّ الله – الكلّ في الكلّ- حلَّ في العذراء مريم. وهذا فعل إيمان وهكذا صارت علامةً ذهبت قبلنا، حتّى أنّها استبقت قيامة الأموات، لِتنقلنا إلى المكان الّذي وصلت إليه. فرجاؤنا أن نصِل إلى المكان الّذي وصلت إليه مريم. تقول لنا: “يا أولادي ستصلون” وتستطيعون أن تصلوا، لا تخافوا عيشوا هذه اللّحظة، لحظة الإيمان وقولوا ليسوع “أُذكرني متى أتَيْتَ في ملكوتك”. 

هكذا نبدأ ولكنّ يسوع يدعونا للذهاب إلى أبعد من ذلك فكلّما تعرّفنا الى يسوع كلّما دفعنا نحو الآخر، نحو خدمة المحبّة، نحو الزّيارات. يدعو قداسة البابا الكنيسة أن تنطلق بفرحِ الإنجيل وألَّا تبقى مُنغلِقةً. نأتي للاجتماع، هنا، حتّى نتحوّل ونشهد ونصير بُشرى سارةً في الشّوارع، في عملنا، في معاملنا، في جامعاتنا، حيث نعيش وإلّا يكون اختبارنا أنانيّاً، تقوقعاً وخوفاً، لذلك يقول لنا البابا لا تخافوا بل تغذَّوْا من يسوع، من كلمة يسوع، من الكتاب المقدّس لأنّ الكلمة وحدها تُعطينا مفاهيمَ سليمةً، وحدها الكلمة تملأنا من الرّوح القدس فنعرف دعوتنا. لقد سمعنا في رسالة أفسس أنّنا، قبل إنشاء العالم، غوالٍ على قلب الله، وقبل أن نولد موجودون في فِكْر الله، يريدنا أن نكون قدّيسين لهذا أرسل ابنه لكي يتبّنانا، من جديد، بيسوع، بمحبّة يسوع. لا أحد يستطيع أن يُخلِّص نفسَه مهما التزم بالشريعة وبالوصايا، ويقول مار بولس: “لا يمكن للشريعة أن تخلّص الإنسان”. يسوع وحده هو مخلّصنا ونحن، بعلاقتنا معه، نعيش هذا الخلاص ونعطي ثمارَ حفظِ وصيّة المحبّة “مَن يحبّني يحفظ كلامي، ونأتي إليه ونجعل عنده مقاماً” يسكن فينا الله بالرّوح القدس. تدعونا الكنيسة، اليوم من خلال هاتين القراءتيْنِ اللّتيْنِ سمعناهما إلى تمجيد الله، كما قالت العذراء بعد هذه الزّيارة: “تُعظّم نفسي الرّبّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي…”. 

واليوم، نحن أيضاً نصلّي مع بعضنا بقوّة القربان الّذي سنتناوله، بعد قليل، وبقوّة الكلمة الّتي سمعناها وقد حُفِرت في قلوبنا لتجعل من حياتنا لحظات خلاص للحياة الثّانية. أعطيني يا مريم وأعطي الجماعة وكلّ واحد منّا أن يسمع كلمة يسوع ويُؤمن بها، وأن نستطيع أن نسعى كجماعةٍ مع بعضنا، أن نعيش بشراكةٍ مع بعضنا، أحياء وأموات، ننتبه إلى حاجات بعضنا كما انتبهتِ أنتِ إلى حاجات أليصابات، وأن نفتح قلوبنا وأبواب حياتنا حتى نكون بشراكةٍ حقيقيّةٍ كما فتح ابنُك يديْهِ على الصّليب وغمرَ كلّ العالم على الصّليب. أعطينا أن نعيش هذه الحقيقة كي تبقى كنيستك شاهدة لفصح المسيح بموته وقيامته، له المجد إلى الأبد. آمين. 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ من قِبَلِنا.