الرياضة السنويّة 2020 بعنوان: “أقوم وأمضي إلى أبي” (لو 18:15)
عن بعد،
الموضوع الثاني: “اليومَ حَصَلَ خلاصٌ لهذا البَيْت” (لو 19: 9)
الأباتي سمعان أبو عبدو،
الله معكم إخوتي الأحبّاء،
يُشرِّفني أن أتكلَّم معكم اليوم، ونتأمَّل معًا في إنجيل القدِّيس لوقا (19: 1- 10)، الّذي يُخبرنا عن لقاء زكّا بالربِّ يسوع المسح.
يرتكز هذا النَّص الإنجيليّ على آيَتَيْن أساسيَّتَيْن: “اليوم صار الخلاص لهذا البيت”، و”فابنُ الإنسان جاء ليبحث عن الهالِكين ويُخلِّصهم” (لو 19: 10). إنَّ الإنسان يبحث دائمًا عن الفرح في حياته الأرضيّة. وهنا نَطرحُ الأسئلة التّالية: ما هي رغبتي الّتي تمنحني الفرح؟ كيف أعبِّر عنها وكيف تظهر هذه الرَّغبة في حياتي؟ بمعنىً آخر: ماذا نريد فِعلاً في حياتنا؟ أين نذهب حتَّى نتمكَّن من عَيْش الفرح في حياتنا؟
في مَثل زكَّا، نلاحظ أنَّ زكَّا كان رَجلاً غنيًّا احتلَّ مركزًا اجتماعيًّا مرموقًا في المجتمع، وَجَد مُتعته في جَمعِ المال، وخَلَقَ لِنَفسِه عالَمًا يَغيبُ عنه حضور الآخر، إذ اعتبر أنَّ المالَ هو هدفُ حياته ومصدرُ ثباتِه الإنسانيّ. بالمال، اعتقد زكَّا أنّه أصبح سيِّد نفسِه وأنّه يستطيع الوصول إلى الفرح والسَّعادة والهناء. بالمال، اشترى زكَّا كلَّ الأشياء المرتبطة بالسَّعادة كالطَّعام والشَّراب والمنزل الفَخِم، فعاش سعيدًا ولكن وَحيدًا. في قلب كلٍّ مِنَّا، اشتياقٌ لِصورة الـمُتعة: فَمِن النَّاحية الإيجابيّة، تمنحنا المتعة نَوعًا مِنَ التفوُّق في نَظرَتِنا للآخَرين من خلال ممتلكاتنا؛ ولكنْ في الوقت نفسه، ترفع المتعة في الكثير من الأحيان أنواعًا من الجُدران: بينَنا وبين الآخَرين، وبَينَنا وبين ذواتِنا. تحمل المتعة بِمَنطقِها ديناميكيّةً قويّة جدًّا، قُدرةً ذاتيّةً لا تتوقَّف أبدًا، إذ ما إن يصل الإنسان إلى متعته حتّى يسعى إلى طَلِب مُتعةٍ أخرى تمنحه الفرح، فعلى سبيل المِثال: الدِّعايات على التِّلفاز تدعونا دائمًا إلى طلب المزيد، إذ تَعرِضُ أمورًا تمنحنا، حسب قولها، مزيدًا من المتعة والفرح والرِّبح، أي إلى الحصول على ما هو أكثر.
وهنا نطرح السُّؤال: أين هي “كلمة الحياة” في حياتنا؟ إنَّ ما يُفرِّح القلب هو لقاء الإنسان بالآخَر. إنَّ كلمة الحياة هي غاية الإنسان: رغم كلّ شيء، المتعة تُبقي قلبَ الإنسان فارغًا. إنَّ كلمة الحياة الّتي اكتشفها زكَّا من خلال شخص يسوع المسيح يُناديه، دَفعته إلى تخطي الوضع الاجتماعيّ بعدما عرَف المسيح، فأصبح كلَّ همِّ زكَّا أن يرى الربَّ يسوع. تحرَّر زكَّا من دائرة الـمتعة الخانقة القائمة على شعوره بالرَّاحة لامتلاكه المال، فاستعاد نضارته وصار كالطِّفل، إذ تسلَّق الجميَّزة ليتمكَّن من رؤية الربِّ يسوع. انطلق زكَّا بفرح نحو الولادة الجديدة، غير آبهٍ لصورته الاجتماعيّة ولا لِكلام النَّاس عنه، وكأنَّ الأمور قد خرجت عن سيطرته، فلم يعد يهتمّ إلّا لِتَسلُّقه الجميَّزة ليرى يسوع. ولكنْ في الوقت ذاته، شعر زكَّا أنَّ المسيح يبحث عنه برحمته، وأنَّه يبحث عن كلِّ واحدٍ منّا من أجل خلاص كلِّ إنسان. يسوع يريد أن يتسلَّق كُلٌّ منّا الشَّجرة لَنتمكَّن من رؤيته، وهو سيهتمّ بالباقي. إنَّ الربَّ يسوع يريدنا أن ننزع عنَّا كلَّ قناع، فَنُصبح كالأطفال، وندعوه فيُفَجِّر فينا صرخة الحياة، في أعماق كلِّ قلبٍ متحجِّر ويحوِّله إلى قلبٍ من لَحمٍ.
والآن ننتقل إلى الكلام عن الآية التَّالية: “ابنُ الإنسان جاء ليبحث عن الهالِكين ويُخلِّصهم”(لو 19: 10). إنّ الهالِكين هُم الّذين ابتعدوا عن محبَّة يسوع. ومن خلال هذه الآية، نكتشف أنّ الله يبحث عنّا، وهذا ما يدفعنا للفَرح، على مِثال زكَّا. فكما شعر زكَّا بالفرح عندما ناداه الربُّ قائلاً له: “إِنزل سريعًا يا زكَّا، لأنِّي سأُقيمُ اليومَ في بيتِكَ”(لو 19: 5)، كذلك نحن أيضًا نشعر بأنّ الربَّ لن يَتركَنا أبدًا، إذ إنَّنا محبوبون منه، على الرُّغم من ضُعفِنا البشريّ. وهنا سرّ اللِّقاء مع يسوع المسيح: إذ نشعر إخوتي، أنّنا قريبون مِن شخص زكّا، فنتخلَّص من كلّ ما يدفعنا إلى اليأس. من خلال توبَتِنا، نلاحظ أنَّ الربَّ يسوع يُشرق علينا ويجعلنا قريبين منه ومن ذواتِنا.
إنَّ رؤيتنا ليسوع تبدأ عند ارتكابنا الخطيئة، فتنقلِب حياتنا إلى حياة جديدة نتيجة رؤيتنا له، بدليل ما حدثَ مع زكَّا عند لقائه بالربّ، إذ قررَّ أن يُعطي نِصف أمواله للفقراء. عند رؤيته للربّ، تحوَّل قلب زكَّا، وقد أثنى الربُّ على ما قام به زكّا إذ قال الربُّ، بعد اتِّخاذ زكَّا القرار بتوزيع نصف أمواله على الفقراء: “اليوم حصل الخلاص لهذا البيت” (لوقا 19: 9). إنَّ النّاس يَحكُمون على الـمَظاهر، لا على القلوب. لقد حكم النَّاس على يسوع واعتبروه خاطِئًا على مِثال زكَّا، لأنّه دَخَل إلى بيتِ هذا الأخير. لم يهتمّ يسوع وزكَّا بالدِّفاع عن ذواتهما أمام النَّاس، ولم يسعيا إلى شرح موقِفهما: فزكَّا قد تحرَّر على مِثال يسوع من نظرة النَّاس إليه، إذ عرف زكَّا مع الربِّ يسوع طَعم الحياة وطعمَ الفَرح. عند لقاء زكَّا بالربّ، اكتشف الفرح الحقيقيّ، فلم يعد المال سببًا لِفَرحِه، بل أصبح المال فقط وسيلةً للمشاركة مع الآخَرين وتوسيع الآفاق. أصبح المال، “واسطة في سبيل الفرح”، ويُعلِن زكَّا بِغَمرة فرَحِه أنَّه يُوزِّع نِصف أمواله على الفقراء، وأنَّه إذا كان قد ظلم أحدًا في حياته، فإنّه مستعدٌّ أن يردَّ له مالَه أربعة أضعاف. عندها قال يسوع: “اليوم حصل الخلاص لهذا البيت”. إنَّ المسيح يسوع هو الوسيط بين الإنسان مع نفسِه، وبين الإنسان والآخَر.
يسوع نادى زكَّا قائلاً له: “اليوم، سأُقيم في بيتك”. إقامةُ الربِّ في بيت زكّا كانت نعمة ذلك اللقاء، وأدَّى إلى تغيير زكّا. إنّ كُلَّ لقاء مع المسيح يبدأ من تعبير الإنسان عن رغبته في لقاء الربِّ، والربُّ يهتمُّ بالباقي. إنَّ اللِّقاء مع المسيح يُغيِّرنا، إذ يكفي أن نقول للربّ: “ارحمني، يا ربّي يسوع، أنا الخاطئ”. إنَّ الخطيئة تقود الإنسان إلى التّوبة وهذه الأخيرة تقود إلى المصالحة، فيتمكَّن الإنسان من الوصول إلى المحبة والغفران وصُنعِ السّلام في قلبه وفي قلوب الآخَرين، نتيجة لقائنا مع المسيح. بارككم الله.
ملاحظة: دُوِّن التأمُّل بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.