تأمّل إنجيليّ،
الأب ابراهيم سعد،
“إنجيل المرأة الكِنعانيّة” (متى 15: 20 – 28):
النّص الإنجيليّ،
“ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَا. وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا». فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب». فَقَالَتْ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!». حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ”.
التّأمّل في النّص الإنجيليّ،
غالبًا ما يُثير هذا النَّص جَدلاً عند قُرَّائه، إذ يجدون فيه صعوبةً في فَهمِ موقفِ يسوع من المرأة الكِنعانية، في قولِه لها:”لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب”، خصوصًا أنّنا مُعتادون على النَّظَر إلى يسوع على أنَّه أتى لِيُخلِّص البشريّة جمعاء. إنَّ مُجرَّد طَرح السُّؤال على ذواتِنا:”كيف يقول يسوع هذا الكلام للمرأة الكِنعانيّة؟”، يَطرَح في طيّاته ملامة للربِّ يسوع، إذ نعتقِد أنّنا أكثرُ رَحمةً ومحبّةً بالمرأة الكِنعانيّة من يسوع. إخوتي، نحن لا نستطيع فَهْمَ كلام الربِّ يسوع لهذه المرأة الكِنعانيّة، بِمَعزلٍ عن سياق النَّص الّذي وَرَدتْ فيه هذه الآية الكِتابيّة.
“ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَا”. إنّ عبارة “نواحي صور وصيدا” تعني الجهة المقابلة لِصُور وصَيدا في فِلسطين.
ما مِن تأكيدٍ تاريخيّ واضحٍ أنّ الربَّ يسوع قد ذَهب إلى صُور وصَيدا. إنَّ “عرس قانا الجليل” الّذي أخبَرنا به يوحنّا الرَّسول، لا يعني بالضَّرورة أنَّ هذا يكون قد تمَّ هذا العرس في مدينة قانا اللُّبنانيّة، لأنَّ الربَّ يسوع لا يُلبيّ دَعوةً إلى عُرسٍ وَثنيّ، فَصُور كانت مدينةً وثنيّةً، إذ إنّ البشارة لَم تَكُن قد وَصَلت إليها، وبالتّالي عبارة “قانا الجليل”، تُشير إلى كون هذه المطنقة “قانا” في الجَليل، أي في أراضي فِلسطين. إنّ مدينة “صُور” لا تَقع ضِمن منطَقة الجليل، وبالتّالي عبارة “نواحي صور وصيدا”، تَعني منطقةً موجودةً في اتِّجاه مَدينَتي صيدا وصور، أي في الجهة المقابلة لَهما. أمّا المرأة فَهِي امرأةٌ كِنعانيّة أي أنّها قد أَتَت مِن مدينة تَقع في ناحية “صُور وصَيدا”، إذ إنَّ عبارة “كِنعانيّة”، تعني “غير يهوديّة”.
“وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا». فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ”. لقد جاءت هذه المرأة الكِنعانيّة، غير اليهوديّة، لِتَقتَحم البيئة اليهوديّة، حيث كان يسوع موجودًا، وصَرخت له قائلةً: “ارحَمني، يا سيِّد، يا ابنَ داود”. إنَّ هذه العِبارات الثّلاثة الّتي أطلَقتها المرأة الكِنعانيّة، تَصدُر عادةً عن شَخصٍ يَعرِف الله وقد عاشَر التَّوراة. إنَّ هذه المرأة غير اليهوديّة قد قالَت هذه العِبارات الثَّلاثة، الَّتي لا يستَعمِلها إلّا اليهود، الـمُتعمِّقِين في الدِّين. إنَّ عبارة “يا ابن داود” تعني الـمَلِك الـمُنتَظر، الـمَسيح المنتَظر. إنَّ هذه المرأة قد عبّرت من خلال إطلاقها هذه الصَّرخة ” يا ابنَ داود” أنّها تنتَظر مَجيء الـمَسِيّا. إنّ اليهود قد رأوا الـمَسيح ولكنَّهم رَفَضوه فَقَتلوه؛ أمّا المرأة الكِنعانيّة فَقَد قَبِلَت المسيح في حياتها، لذا جاءت وسجدت له، مع أنّها غير يهوديّة. قالت هذه المرأة لِيَسوع: “ابْنَتي مَجنونة!” أو “ابنتي ممسوسة” بحسب التَّرجمات الأخرى. وعلى الرُّغم من قَولِها هذا الكلام عن ابنتها، نَجد أنَّ الربُّ يسوع بَقيَ ساكِتًا ولم يتلَّفظ بأيّة كلمةٍ.
“فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». إنّ التّلاميذ طلبوا إلى يسوع أن يَصرِف هذه المرأة، لأنّهم لا يتجرّأون على القيام بأمرٍ لا يَرضى به الربّ. كانت المرأة تَصيح وراء التَّلاميذ، وعبارة “وراء التّلاميذ” تعني أنّ هذه المرأة لَيسَت من البيئة اليَهوديّة، وهي كانَتْ “تَصيح” أي أنَّها كانت مَصدر إزعاجٍ لهم. وهذا ما كانت تُعاني منه الكنيسة الأولى أيضًا: لأنَّ المسيحيُّين من أصل يهوديّ كانوا يَعتبرون إخوتهم في الإيمان من أصل وثنيّ في مستوًى أدنى منهم دَرَجة. إنّ الصّراع بين بولس و”اليهوديّة المسيحيّة” أدّت إلى مشاكل حتّى وَصَلت بِبُولس إلى مرحلةٍ وبَّخ فيها بطرسَ لأنَّ هذا الأخير كان يخشى المسيحيِّين من أصل يهوديّ حين كان يجلس مع المسيحيِّين مِن أصل وثنيّ، فيُشارك هؤلاء في الاحتفالات الوثنيّة الّتي كانوا يُشاركون فيها في بعض الأحيان (غلاطية).
مِن خلال هذا النَّص، أراد الإنجيليّ أن يُكلِّمَنا على عمل الله في البشريّة: فالله قد اختار شعبًا مُعَيّنًا، وهو الشَّعب اليهوديّ، لِيَبدأ من خلاله عمله الخلاصيّ في البشريّة، ولكن هذا لا يعني أنَّ خلاص البشريّة مُقتَصَرٌ على هذا الشَّعب دون سِواه. وهذا ما نكتَشِفه في إنجيل متّى، مَتى قُمنا بِدراسةٍ للأعاجيب المَذكورة فيه، إذ نلاحظ وجودَ تِسع أعاجيب موجودة في الإصحاحَين 8 و9: أربعٌ منها تَختَّص بالبيئة اليَهوديّة، وأربعٌ أخرى تختّص بالبيئة الأُمَمِيّة أي البيئة الوَثنيّة، إضافة إلى أعجوبةٍ مُزدَوجة إذ يقوم فيها الربُّ بِشِفاء نازفةِ الدَّم مُنذُ اثنتي عشرة سنة وفتاةٍ ذاتِ الاثنَي عشر ربيعًا. فالمرأة النَّازفة هي امرأةٌ نَجِسةٌ بِحَسب الشَّريعة اليهوديّة، إذ إنَّ نَزفَ دَمِها يمنعها من الانجاب، أي من إعطاء الحياة، وبالتّالي لا أملَ لها في مَجيء المسيح المنتَظر مِن خلالها؛ أمّا الفتاة ذات الاثني عشر ربيعًا، فكانت مُشرفةً على الموت؛ والرَّقم “اثني عَشر” يدلّ على البيئة اليهوديّة، وبالتّالي ما أراد الإنجيليّ قوله من خلال هذه الأعجوبة الـمُزدوِجة، إنّه لا البيئة اليَهوديّة ولا البيئة الأُمَمِيّة قد تمكَّنتا من إعطاء الحياة للبشر؛ لذلك، جاء يسوع لِيَشفي المرأة النَّازفة ويُقيمَ الفتاة ذات الاثني عشر ربيعًا من الموت، ويُعطيهما الحياة. وإذا تابعنا دراسَتَنا حول الأعاجيب في إنجيل متّى لَاكْتَشفنا أنّه لا يزال هناك تسعُ أعاجيب، غَير تلك الّتي ذَكَرناها سَابِقًا: أربعٌ تختَّص بالبيئة اليهوديّة على سبيل الـمِثال شفاء الأعمى، فالإصابة بالعَمى تُشير إلى البيئة اليهوديّة، لأنّ اليهود قد رأوا المسيح ولَم يؤمنوا به؛ وأربعٌ أُخرى تختَّص بالبيئة الوثنيّة على سبيل الـمِثال الأبكم، إذ إنّ البُكم يُشير إلى الّذين لم يتمكَّنوا مِن سماع كلمة الله، ولذلك هُم لا يستطيعون النُّطق بها؛ كما نلاحظ وجود حالةَ شفاءٍ قام بها الربُّ لِأَعمى وأخرسٍ في الوقت نفسه، وهذه الأعجوبة تُشير إلى أنَّ الخلاص في إنجيل متّى هو للبشريّة بأسرِها، للبيئة اليهوديّة وللبيئة الوثنيّة معًا، على حدٍّ سواء، وهذا ما لَم يكن باستطاعة اليَهوديّ في ذلك الزَّمان القبول به، إذ كان مُجَرَّد النُّطق بهذا الكلام يُعتَبر تَجديفًا.
للأسَف، ما زال هذا الفِكر مستمرًّا إلى يومِنا هذا في الكنيسة، إذ يَعتَبِرُ بعض المسيحيِّين أنّ الخلاص هو للمسيحيِّين من دونَ سِواهم من البشر، بسبب طاعتهم للإنجيل. صحيحٌ أنَّه من غير المنطقي بشريًّا أن يَنال غير المسيحيّ الخلاص كالمسيحيّ، غير أنَّ فِكرَ الله مختلِفٌ عن فِكرِنا نحن البشر، وطُرُقه مختلفةٌ عن طُرقِنا. على المسيحيِّين القبول بأنَّ الله هو حرٌّ حتّى مِن كلمته، فكلمة الله تأسُر البشر لا الله، وبالتّالي حين يقول المسيحيُّون إنَّ الله لا يَفعَل هذا الأمر ويَفَعَلُ هذا الأمر، فهذا يعني أنّهم جَعلوا إلهَهم، بِطريقةٍ من الطُرُق، إلهًا وَثنيًا، إلهًا صَنمًا. لا يمكن للإنسان أن يَضَع معرفَته بالله ضِمن إطارٍ جامدٍ محدود، فَمعرفةُ الإنسان بالله تنمو يومًا بعد يوم، والمؤمن لا يستطيع مَعرفَةَ الله معرفةً كاملةً، فهو لا يستطيع أن يعرِفَ عن الله إلّا ما كشَفه الله عن ذاتِه لهذا الإنسان. إذًا، المبادرة تَصدر من الله، فالله هو الّذي بادر إلى مَنحِ كلّ البشريّة الخلاص، لذا كان عليه أن يبدأ مع مجموعةٍ صَغيرة محدَّدة، فاختار الله الشَّعب اليَهوديّ، ولكن هذا لا يعني أنَّ خلاصَ الله مقتَصِرٌ على هذا الشَّعب، فَهو أي الله لَم يَجعل هذا الشَّعب “أُمَّةً مقدَّسةً”، أو “خيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت للنَّاس”. إنَّ عبارة “شَعب مختار” تعني أنّ الله قد اختار هذا الشَّعب، ولكن هذا لا يعني أنّ هذا الشَّعب أصبح يملك امتيازًا عن بقيّة الشُّعوب لأنَّه مُختارٌ من الله. أن نكون مِن الشَّعب المختار، لا يعني أنّه يمكننا أنْ نحصر الله في الاهتمام بنا دون سوانا من البشر، كونه اخْتارَنا. إنَّ ما نقوله الآن يدفعنا إلى اعتماد نَمطٍ سلوكيّ جديد، في كيفيّة التَّعامل مع النَّاس ومحبّتهم وقُبولهم. أن يكون لدينا فِكرٌ يَهوديّ، فهذا يعني أنَّ لدينا فِكرًا إلغائيًّا للآخَر، إذ نُعطي لِذواتنا الحقّ في تقسيم النَّاس إلى مؤمنِين وكُفّارٍ.
في بداية هذا النَّص الإنجيليّ، نلاحظ عدم إجابة الربِّ يسوع عن صَرخة تلك المرأة الكِنعانيّة بِكَلمة، إذ عند الربِّ مَقصَدٌ من ذلك. إنَّ الربَّ لَم يُجِب عن صرخة المرأة بكلمةِ، فاعتَبر التّلاميذ أنَّ تصرُّفَه هذا يدلّ على عدم رغبته في الكلامِ معها، لذا طَلبوا إليه أن يَصرِفها لأنّها تَصيح وتَصرُخ في إثرِهم. كي يستجيب الله لك، عليكَ أن تُزعِجه، أن تُقلقه، فتُجبرُه على الإصغاء إليك. وهذا هو مفهوم الصّلاة. فالصَّلاة هِيَ فِعلٌ إراديّن تُزعِجُ فيه الله، فتَدفعه إلى الاستجابة لِطلبِك. فإن لَم تَصِل ذهنيّتك في الصّلاة مع يسوع في الطلب أو في الشُّكر إلى هذا المستوى، فهذا يعني أنّ الربَّ يسوع لَن يلتَفِتَ إلى صَلاتِكَ بِسُهولة. إذًا، طلب التّلاميذ إلى الربّ أن يصرِف تلك المرأة؛ وفي هذا الإطار، يقول لنا النَّص الإنجيليّ إنّ الربَّ قد أجاب قائلاً، دون أن يَذكر لنا الفريق الموَجَّه إليه الحَديث، ممّا يعني أنّ هذا الحديث لَم يَكُن مُوَجَّهًا إلى الكِنعانيّة بِشَكلٍ خاصّ، بل إلى جميع السَّامعين له.
«لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ»، أي أنّ الربَّ قد أُرسِل لا إلى مجموعة مقدَّسة بل إلى مجموعةٍ خاطئة، ولكنَّ رسالة يسوع لا تنتهي عند خِراف اسرائيل الضَّالة: هذا هو الإعلان الّذي كَشَف عنه الربُّ يسوع في إنجيلِه. وفي هذا الإطار، قال بولس الرَّسول في رسالته إلى أهل كولوسي، وَهُم وثنِيُو الأصل: “السِّر المَكتوم منذ الدُّهور ومنذ الأجيال، لكنَّه قد أُظهِر لِقدِّيسِيه، الّذين أراد الله أن يُعرِّفهم ما هو غِنى مجد هذا السِّر في الأُمَم، الّذي هو المسيح فيكم رجاء المَجد” (كو1: 26-27)، وهذا يعني أنَّ ما مِن أحدٍ مُستَثنى مِنَ الحصول على خلاص الربّ.
“فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب»: كانت هذه المرأة لجوجة في طلبها إلى الله. وهنا نتذكَّر يعقوب في صراعِه مع الله، فهو قد جاهَد لأجل الحصول على بَركةِ الله، لذلك سُمِّيَ”اسرائيل”. في كلامه هنا مع الكِنعانيّة، يَطرَح الربُّ مُعضِلةً اجتماعيّة دينيّة عقائديّة، مُتَمثِّلة بالكِلاب، وهو حيوانٌ نَجِس بالنِّسبة إلى اليَهود، لذا هو يَرمز بحسَب الفِكر اليهوديّ العقائديّ إلى الوثنيِّين؛ أمّا “البَنِين” فهي عبارةٌ تُشير إلى أبناء الشَّعب الّذي بدأ الربُّ معهم أوَّل عَملٍ له من أجل مَنح الخلاص للبشريّة، بِمعنى آخَر، تُشير إلى أبناء الشَّعب الّذين سَمِعوا كلمة الله وقَبلوا بها.
عند سماعها هذا الجواب مِن يسوع، قالت له المرأة الكِنعانيّة: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!» وهذا يعني أنَّ هذه المرأة قد قَبِلَت أن تكون في مستوًى أقلّ من اليَهود، ولكنَّ الربَّ أراد أن يجعلها في المستوى نفسِه مع اليَهود، الّذين يؤمنون به.
عندها أجابها الربُّ قائلاً لها:”«يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ”. إنَّ عبارة “امرأة” في الإنجيل لها معانٍ إيجابيّة جدًّا، بِعَكس ما يَظُنُّ النَّاس. ففي إنجيل يوحنّا، نادى الربُّ أمَّه “يا امرأة”، أوَّلاً في عرس قانا الجليل، وثانيًا عند الصَّليب. فَلَو كان صحيحًا أنَّ الربَ قد أهانَ أُمَّه في عرس قانا مِن خلال مناداته لها “يا امرأة”، فَهَل مِن المعقول أنْ يتوجّه إليها بالإهانة في لَحظة وداعه لها على الصَّليب؟ بالطَّبع لا، وبالتّالي ليس المقصود بهذه العبارة إهانة العَذراء إنّما تَكريمها. إنَّ عبارة “امرأة” تُشير إلى أنَّ هذه الإنسانة لديها إمكانيّة إعطاء الحياة مِن خلال الانجاب، أي أنَّها تَملِكُ الإمكانيّة كي تُصبِح وَالدةَ الحَياة. وبالتّالي، إنَّ مناداة الربّ يسوع للمرأة الكِنعانيّة بعبارة “يا امرأة” تَهدف إلى تَعظيمها.
إذًا، إنَّ الربَّ بدأ عَملَه الخلاصيّ من مكانٍ معيَّن ومع شَعبٍ معيّن، ثمّ ينتشر في اليهوديّة ثمّ في السّامرة، إلى أن يَصَل في النِّهاية إلى أقصى الأرض. هذا هو الـمَسار الّذي سلَكَه الرُّسل ايضًا في نَشرِهم البشارة: فَبُطرس انطلَق في البشارة من البيئة اليهوديّة إلى أن وَصَل إلى روما، وبولس بشَّر في آسيا واليونان، أي أنّ هذين الرَّسولَين وَصلا في بشارتهم بالمسيح إلى أقاصي الأرض. إذًا، مِن خلال هذا النَّص الإنجيليّ، أراد الكاتب أن يقول لنا إنَّ رَحمةَ الله وحُبَّه للبشر، لا يستطيع الإنسان قبولهما باستلشاءٍ، إنَّما بِجَديّة، بِمَعنى آخر: هل أنتَ مُقتَنِعٌ، أيّها المؤمن، أنّك بِدُون الله، لن تحصل على الخلاص؟ وهذا الكلام لا يعني أن تَبحَث عن إلهٍ غَيرَه: فالشَّعب اليهوديّ، كان يَعمد إلى تهديد موسى بِعَودته إلى فِرعون في مِصر، إنْ لم يستَجب الله لِطلباتِه، لأنّه في نَظره، فِرعون قادرٌ على الاهتمام بحاجاته الأرضيّة، أمَّا الله فلا يستطيع تأمينها لهم من دون انقطاع. فما كان من موسى إلَّا أن نَقَلَ إلى الله شكاوى الشَّعب، فأجابه الله إنّه سيُؤمِّن كلّ احتياجات الشَّعب من خلال الـمَنّ والسَّلوى، ولكنَّ الـمُعضلة تبقى: هل سيَكون الشَّعبُ مُقتَنعًا أنَّ الله كَفيلٌ بالاهتمام به، فلا يتراجَع عن الإيمان به ويعود إلى فرعون؟.
إخوتي، إنْ كان الخلاص رَحمةً مجانيّة من الله، فَعلينا أن نَقبَله بِجَديّة كاملة، لأنّنا من دُونِ الله، نَحنُ بلا حياة. وهنا نكتشِف أهميّة صلاة المزامير: إنّ المزامير تُصَلَّى في البيئة اليهوديّة، مِن قِبَل “العَناويم”، أي الفقراء الّذين ليسوا متـأكِّدين مِن استمرارهم في الحياة لِيومِ غَدٍ. وبالتّالي، على المؤمن أن يُصلِّي المزامير انطلاقًا من هذه الذِّهنيّة، وإلّا فَلن نتمكَّن من فَهم عبارة “طوبى للفقراء بالرُّوح”، الّتي وَردَت في إنجيل متّى. إنّ عبارة “طوبى للفقراء”، تعني هَنيئًا للفقراء ماديًّا الّذين رُغمَ فُقرِهم وغَدِهم غير المؤمَّن لا يزالون تحت طاعة الرُّوح القدس، لأنّهم يَملِكون قناعةً بأنّه إنْ لم يُساعِدهم الله، فالموت سَيَكون نَصيبُهم في الغَد. إنَّ هذه المرأة الكِنعانيّة تُقدِّم لنا مِثالاً صارِخًا عن هذه الذهنيّة، فَهي تَصرُخ إلى الربّ مُقتَنعةً بأنَّ ابنتها لن تُشفى إلّا إذا قام الربُّ بمبادرة منه وشَفاها. إنَّ كلَّ الحواجز الّتي تعرَّضت لها هذه المرأة في طريقها للوصول إلى الربّ، لَم تُلغِ قناعَتِها بأنّ الربَّ وَحده قادرٌ على شفاء ابنتها.
اليوم، نعيش تحديًا كبيرًا في هذا العالم، وفي قلبِنا ريبَةٌ وشكٌّ من ذَهابنا نحو الهَلاك، إذ نجد ذواتنا في مواجهةٍ مع المرض والجوع والحرب في كلِّ لحظةٍ من حياتنا، ممّا يخلق فينا إحباطًا ويأسًا، ونحنُ بأمسِّ حاجة إلى مُعِينٍ ومخلِّصٍ، هو الربُّ يسوع. وهُنا يُطرَح علينا السَّؤال: هل نعيش هذه الحقيقة على المستوى الذهنيّ فقط أم أيضًا على مستوى كياننا البشريّ؟ بِمعنى آخَر: هل نُسارِع إلى تَركِ الله، إذا شَعرنا أنَّ مُخلِّصنا سيتأخَّر في المَجيء؟ إنَّ إيمان هذه المرأة الكِنعانيّة يُعيد إلى أذهاننا إيمان ابراهيم، الّذي آمَن بالربّ، وقَبِل بالسَّير مَعه من دون الحصول على ضَماناتٍ بشريَّة، إذ اكتفى بكلام الله ووعوده، كضمانةٍ وَحيدةٍ له. آمَن ابراهيم إذ أمَّن لله فأَمِن ونال الخلاص.
مِن أعظم النُّصوص الإنجيليّة في إنجيل متّى، هو إنجيل المرأة الكِنعانيّة. فَعِند قراءتنا لهذا النَّص، يتبادر إلى ذِهننا للوهَلة الأولى الاعتقاد بأنَّ الله قد جاء ليُخلِّص شَعبًا مُعيَّنًا، ولكننّا ما نَلبَث أن نكتَشِف في نهايته، أنّ الّذي لا حُظوة لَه عند الله، بالنِّسبة إلى النّاس، هو الّذي نال كلَّ شيء، أي الخلاص. لذلك، نلاحظ أنّه منذ تلك اللَّحظة، لَحظة وجود المرأة الكِنعانيّة أمام الربّ، حَصَلت ابنتها على الشَّفاء، وإنْ حاضرةٌ مع لبنتها لحظة حصول تلك الأخيرة على الشِّفاء؛ وبالتّالي، كانت المرأة الكِنعانيّة متأكِّدة من أنَّ شفاء ابنتها سَيَتمّ، مَتى جاءت إلى يسوع وطَلبَت إليه ذلك. إذًا، إنّ الكلمة الموعودة، بالنِّسبة إلى المؤمِن، هي مُحقَّقة ولَو لَم تتحقَّق بَعد، فَهِي لا محالة ستتحقَّق؛ لذلك يسلُك المؤمن في الحياة، كأنَّ كلمة الله قد تحقَّقت، وإلّا ما نَفع مشارَكتنا كمؤمِنِين في الذبيحة الإلهيّة؟ إنَّ القدَّاس هو الملكوت الـمُحقَّق في المناولة، والـمُرتَجى في الوعد الإلهيّ بالعِرس الأخير.
إذًا، نحن في هذا النَّص الإنجيليّ، نقوم بِنَوعٍ من قفزةٍ نوعيّة في الفِكر اليهوديّ، إذ نؤمن أنّ الجميع سينال الخلاص، وسيتحقَّق ذلك مِن خلال قيامِنا بقَفزَةٍ نوعيّة في الفِكر المسيحيّ، لا في الفِكر الإنجيليّ، إذ لا يجوز لنا بعد الآن النَّظر إلى الآخَرين على أنّهم في مستوى أدنى مِن مستوانا في الإيمان. إنَّ أساس المشكلة في الانقسام الكنسيّ هي نَظرُ فريقٍ من المسيحيِّين إلى الفريق الآخَر على أنّه أدنى مستوى منه، أي أنّ الفريق الأوّل يعتبر نفسه أفضل من الفريق الآخَر. إنّ الحقيقة تكمن في أنّ هذين الفريقَين من المسيحيِّين هما على المستوى نفسه في الدَّرجة الثّانية، والّذين في الدَّرجة الأولى هُم أولئك النَّاس المهمَّشين والمتروكين الّذين يُشير إليهم الربّ بإصبَعِه الإلهيّ، وهُم غير مَنظورين من الآخَرين.
لذلك، فإنَّ قراءتنا لهذا النَّص الإنجيليّ تَدفعنا إلى القيام بِثَورةٍ عقليّة وذهنيّة وروحيّة وكلاميّة وسلوكيّة في حياتنا كمسيحيّين، فَنَنظُر إلى كلّ إنسانٍ مُهمَل ومهمَّش على أنّه ابن الله، ونتعامَل معه على هذا الأساس، فَنَسجد له كما نَسجد لابن الله يسوع المسيح، ونَسعى إلى خِدمته. مِن المستغرَب أنّنا لا نسجد للإنسان الـمُهمَل والمهمَّش، ولكننّا نقبَل بأن يَسجد هو لنا، عندما نُشفق عليه ونُعطيه ما يَفضُل عنّا؛ فنَجعل منه إنسانًا ضَعيفًا بسبب عَطائنا له، إلّا إذا كُنّا نُحِبُه. فإذا أعطيَنا شخصًا نُحِبُّه، نُعظِّم من قيمته أي أنّنا “نُكبِّره”، أمّا إذا أعطَينا شخصًا لا نُحبِّه فإنَّنا نُحقِّره، أي أنّنا “نُصغِّره”. إنَّ المرأة الكِنعانيّة قَبِلَت أن تكون صَغيرةً في عيون الحاضِرين لأنّها كانت تَعرِفُ أنّ قيمتَها كبيرةٌ في عيون الـمَسيح، بدليل أنّه أعطاها سُؤل قلبِها، قائلاً لها: “لِيَكن لَكِ كما تُريدين”. إنّ هذه العبارة تُقال مِن عَبدٍ لسيِّد، وفي هذه الحالة أصبَحت المرأة الكِنعانيّة هي السَّيد والربُّ يسوع هو العَبد الّذي يُنفِّذ طَلبات وأوامِر سيِّده أي “المرأة الكِنعانيّة”. فهل هناك أكبر من هذه العَظمة؟ ليس “حرامٌ” أن يَقول الربُّ يسوع هذا الكلامَ للمرأة الكِنعانيّة، ولكن ما هو فِعلاً “حرام”، هو أن نستمرُّ في نَظرتنا إلى الأمور، كما كُنّا نراها سابقًا. مِن خلال هذا النَّص الإنجيليّ، يدعونا الربّ إلى تصحيح عقولِنا، وتصحيح نَظرَتنا إلى الآخَرين. فلنتمسَّك بالقاعدة العامَّة، أي الإنجيل، مِن دون الدُّخول في الاستثناءات، الّتي هي فرصةٌ لتَحقيق الإنجيل في مكانٍ غير متوَّقع. إنَّ الإنجيل هو وثيقةُ طلاقٍ بين الله وفلاسفة اللّاهوت. سُئل أفغاريوس البنطيّ، وهو قِدِّيسٌ مِنَ القرون الأُولى للمسيحيّة: “مَن هو اللاهوتي؟” قال لهم اللَّاهوتيّ هو الّذي يُصلِّي، والّذي يُصلِّي هو لاهوتيّ، لأنَّ الصّلاة هي الكلام مع الله، أمَّا اللاهوت فهو الكلام على الله؛ وفي هذه الأيّام، نحن بأمسّ الحاجة إلى الكلام مع الله لا عَليه.
والأصعب من ذلك، عندما نريد الكلام معه، هو الّذي صَعِد إلى السّماء، يضَع أمامنا الجائع والمسجون والمهمَّش، في إنجيل الدَّينونة، لأنّه يتماهى مع النَّاس غير المنظورين، بالنِّسبة إلى المجتمع الّذي نَعيش فيه. ويدعونا إلى رؤيتهم، فَيَظهر للآخَرين مِن خلال سلوكِنا مَعهم أنّنا مُعمَّدون. فإنّه حين تعمَّدنا، أصبحنا أبناء الله، وبالتّالي أصبحَت عيوننا عيونًا تَنظُر إلى الآخَرين كما ينظر الله إليهم. وعندما تجسَّد ابن الله، الربُّ يسوع المسيح، نَظر إلى كُلِّ النَّاس فكانت نَظرته إليهم فرصةً لهم للحصول على الخلاص.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ من قِبلنا.