عظة للخوري جوزيف سويد،
رعيّة مار تقلا -سدّ البوشرية.
إخوتي، علينا الاختيار بين بذرة الموت وبذرة الحياة،
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
إخوتي الأحبّة، تحتفل الكنيسة بعد انتهاء كلّ زمن ليتورجيّ بالعيد. وعندما نتكلَّم عن احتفاليّة، يفتِّش الإنسان عن ماهيّة الاحتفاليّة وماهيّة العيد، وماهيّة المناسبة. ويحاول أن يكوِّن أفكاراً معيّنة ليتكلَّم عن أجواء العيد، وعن مناسبة العيد، والفكرة الأساس منه، وكلّ ذلك ضمن إطار إنجيليّ معيّن مُنَسَّق، لكي يصِلَ لكلّ إنسان جواب شافٍ ووافٍ عن العيد. واليوم هناك عيد ومناسبة وهي الذكرى السادسة لتأسيس جماعة “اُذكرني في ملكوتك”، التّي إنطلقت بذرة صغيرة في حقل رعيّة مارت تقلا، سدّ البوشريّة. هذه البذرة بدأت تنمو في أيّام الخميس من كلّ شهر، وكان من المفترض أن تَقتَصر على قدّاسٍ واحدٍ في الشّهر، لكنّنا رأينا أنّه من الأفضل أن تصبح القداديس بطريقة أسبوعيّة وذلك لما فيه من خير للرّعيّة. وقد لاحظنا أنّ قداسة الحبر الأعظم قد ركزّ في إعلانه عن يوبيل سنة الرّحمة على الفعل السابع الذّي هو كيفيّة زرع الرّجاء في عالم الموت، وخاصّة في قلوب المحزونين، من خلال مرافقتهم ومؤاساتهم والحضور معهم، وزرع بذرة الرّجاء في قلوبهم وفي حياتهم اليّوميّة. إنّ هذه الجماعة تعتمد على الصلاة من أجل إخوتنا الموتى. في الحقيقة، هذه البذرة التي اسمها “اُذكرني في ملكوتك” لم تبدأ هنا، في هذه الكنيسة أو في رعايا أخرى، لقد زُرعت هذه البذرة أوّلاً في جبل الجلجلة، وهناك زُرعت بذرة “اُذكرني في ملكوتك”. على هذا الجبل الذّي يسمى”جبل الجماجم”، جبل الجلجلة أو الجمجة، حيث كان يُرمى بالأشخاص الذّين كانوا يُعتَبرون أنجاساً ويستحقون السخريّة، ويتمّ تعريتهم بالكلام الجارح ونظرات الإدانة ثمّ يُترَكون في هذا المكبّ الذّي يدعى جبل الجلجلة. هناك زُرعت البذرة الأُولى للحياة، لذا علينا إخوتي، أن نعي أهميّة هذا الضجيج الذّي بدأ من هذا المكان المنسيّ، البائس، هذا المكان الذّي فيه نرى كلّ حضارة الموت. في هذا المكان، زَرع ملك المجد، سيّد الحياة، خالق الكون، ما يُرى وما لا يُرى، ربّ المجد، بذرة الحياة. والأجمل من ذلك، أنّه من بين صرخات المسيح السَبِع على الصليب، تلك الصّرخة، صرخة المجد التّي سمعناها في أذن المسيح وما زالت تتردّد في آذاننا إلى اليوم على مرّ السنوات: هناك على ذلك الجبل، صرخ المجرم الذّي صُلب عن يمين يسوع قائلاً له: “اُذكرني في ملكوتك”، وأتاه الجواب الرائع من الرّبّ: “اليوم تكون معي في الفردوس”. وكم يصرخ الإنسان التعس إلى الرّبّ “أُذكرني في ملكوتك”، وكم من مرّة نسمع صدى صوت الرَّبّ الحنون الرّحوم، محبّ البشر، محبّ الخطأة، يقول لنا “اليوم تكون معي في الفردوس”. وانظروا كيف أنّ الرّبّ خضّ وزلزل بعد موته، هذا الجبل البائس، وأعطى أجمل ما يمكن لإنسان أن يحصل عليه، عندما يعرف أنّه لا يستّحق شيئاً، وبالرّغم من ذلك يسمع مع كلّ الذّين سبقوه وكانوا ينتظرون تلك اللّحظة، لحظة الدّخول إلى الملكوت:”اليوم تكون معي في الفردوس”. وكم نحن اليوم في حنايا هذه الكنيسة، علينا أن نُرَدِّد هذه الكلمة ونقول من على منبر كنيسة مار تقلا سدّ البوشريّة. هذه الرّعيّة التّي يتواجد فيها عالم الموت بقوّة، والتّي فيها نفوس يائسة، حيث الرّجاء مفقود والتعاسة تسيطر على بعض الأشخاص، وكذلك البؤس والشقاء في حياة إخوتنا العراقيين الموجودين في أرض رعيتنا الذّين مرّوا بأيّام صعبة وكذلك من الإخوة السوريين. هؤلاء الأشخاص الذّين يحبّون الرّجاء، يفتقدونه في العالم اليوم، في زمن مليء بالبؤس. في قلب هذا العالم، تأتي بذرة الحياة، ويأتي يسوع ليسقيها. فعندما تقول للرّبّ “أذكرني يا رّبّ”، يأتي الرّبّ ليسقي صرختك هذه إليه، بذرتك الذّي زرعتها في هذه الأرض، ويقول لك “اليوم تكون معي في الفردوس”. اليوم إخوتي، نحن في الاحتفاليّة السادسة، لأنّنا محبوبون، مُفتَقدون، مَرحومون. هذا الشقاء والبؤس اللذّان تعيشهما البشريّة بأسرها، لا نستطيع الاستمرار في تَبَنيهما، بل علينا كسرهما فنقول:”أين شوكَتُكَ يا موت، أين غلبتك يا جحيم؟ موت الرَّبِّ أضحى حياةً، أصبح نصرُنا أكيداً”. لماذا؟ لأنّه هكذا رّبُّ المجد أراد.
إنجيل اليوم يضعُنا في هذا الإطار، إطار الرّحمة، إطار الدينونة، إطار الغفران والمسامحة الرّهيبين. أنا، الإنسان، أقف أمام هذا الملك الرحيم، المجنون برحمته. يأتي إليه، في هذا الإنجيل، هذا الشخص المديون له بسِتّين مليون دينار، أي ستّين مليون يوم عمل. مَن يستطيع تجميع مثل هذا المبلغ ليدفعه للملك كَدَين؟ وهنا بالتّالي يريد كاتب هذا النّصّ الإنجيليّ، متّى، أن يقول لنا: اعلم يا إنسان أنّك لن تستطيع دفع دينك بالرّغم من جنى عمرك كلّه، وبالرغم من إستعداداتك كلّها، وبالرّغم من تعبك كلّه، وبالرّغم من عرقك كلّه الذّي سيتساقط في سعيك لتحصيل هذا المبلغ، حتّى وإن عملت ثماني وأربعين ساعة، في الأربع وعشرين ساعة، فأنت غير قادر على دفع هذا المبلغ الكبير، سِتُّون مليون دينار مهما فعلت، فالعمر كلّه لن يكفيك لكي تتمكنّ من دفع دينك. إذاً الدينار هو أجرة يوم عمل واحد. وستون مليون دينار تساوي ستين مليون يوم عمل. نحن الآن، يمكننا أن نتوقّع قوّة هذه الأزمة الكبيرة الموجود فيها هذا العبد: إذ إنّه عبد مسكين، وهو بالتّالي لا يمكنه أن يفي دينه للملك. يقول النّصّ “إذ لم يكن له ما يوفي به دينه، أمر سيّده أن يُباع”. أراد السيّد أن يبيع هذا العبد هو وامرأته وأولاده إضافة إلى كلّ ما يمتلكه. في الأساس هو عبد، وهو الآن سيُباع. وما الذّي يمكن أن يمتلكه عبد؟ لا شيء. سيُباع مع كلّ ما يملك لِيَفي دينه. وبالرّغم من ذلك، فهو لن يتمّكن من إيفاء دينه، لن يفي أيّ شيء. لكنّ عندما خرَّ هذا العبد على ركبتيه، وسجد للملك، وتَوَسَلَه وطلب منه مهلةً ليفي دينه، أعفاه سيّده من كلّ دينه. ما أجمل هذه الكلمة المستعملة في النّصّ:”إمهلني”، أعطني وقتاً. كلّنا اليوم نبحث عن وقت. الوقت والعمر كلّهما ليسا كافيين لكي يَفي العبد الدَين للملك حتّى وإن أمهَلَهُ. ترى ما الذّي كان سيحدث لو قرّر فعلاً هذا الملك أن يبيع العبد، ويضعه في السّجن. كيف يستطيع إنسان مسجون أن يفي دينه؟ مَن سيَفي عنه دينه؟ بالطبع لا أحد. لذلك هذا السيّد تحنّن على ذلك العبد، وأطلقه حُرّاً وأعفاه من كلّ دينه، وسامحه بكلّ المبلغ. إخوتي من يقوم بهكذا عمل سوى الإنسان المجنون؟ وحده فاقد الصّواب يفعل ذلك. وعندما أُطلق هذا العبد حرّاً، وعاش الاختبار نفسه الذّي عاشه الملك معه، عِوض أن يكون قلبه مغموراً بالمجد والفرح والنّشوة الروحيّة، وعِوض ألاّ يرى في حياته إلاّ الرّحمة الكُبرى التّي غمَرَهُ بها سيّده أو مَلِكَه، عندما التقى رفيقه العبد، طالَبَه بإيفاء الدَّين. هذا الرفيق يشبهه، إنّه عبد ومديون أيضاً لرفيقه بمئة دينار، وهذا يعني مئة يوم عمل أي ثلاثة أشهر ونَيِّف من العمل. أمسك هذا العبد رفيقه وشدّ على عنقه طالباً منه أن يوفيه كلّ دينه حالاً، غير أنّ الرفيق المديون توَسّل رفيقه العبد الدائن، وقال له الكلام نفسه الذّي تفوّه به العبد الدائن أمام الملك. أنظروا معي إخوتي إلى هذا المثل الرائع الذّي أعطاه يسوع:”أمهلني وأنا أُوفِيكَ.” طلب منه مهلةً لكنّ العبد الدائن رفض رفضاً قاطعاً. “ومضى وطرحه في السِّجن حتّى يَفي دينه”. أنظروا إلى قساوة قلب هذا العبد، لقد تمكّن من أن ينسى في وقتٍ قصيرٍ جدّاً ما قام به الملك تجاهه. هذا الملك الذّي أعفاه، أحبّه، ورحِمَه وافتداه وسامحه، وحرّره لأنّه توسلّ إليه
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.