محاضرة للخوري جوزف سويد،
خادم رعيّة مار تقلا – سد البوشرية، المتن،
“إنجيل لعازر والغني” (لو 19:16-31)
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد. آمين.
إنّه لفرحٌ كبيرٌ أن نلتقي اليوم حول مائدة الكلمة، ونتذوّق ما أطيب الرّبّ…فالإفخارستيا لا تعني ذبيحة شُكران، وإنّما هي عبارة عن صلاة عميقة من القلب إلى القلب، يتلاقى فيها الإنسان مع الخالق. وتكون مُقسّمة إلى قِسمَين: القسم الأول هو كسر الكلمة، والثاني كسر الخبز. ونحن في إنجيل اليوم، في قسم كسر الكلمة. وأَجِدُ في هذا النص شيئاً مُرعباً، لأنّه يحتوي على أمور جذريّة، ثابتة ولا تتغيّر… فقد اعتَدْنا في حياتنا أنّ يكون كلّ شيءٍ مُتغيّراً، أي يمكن لنا أن نجد له مخارج أو فتاوى. وفي كثير من المشاكل القاسية…بالرُغم من قساوتها، يبقى فيها مجال للتغيير، وكأنّنا دائمًا نخلق الأمل بأنّ الغَد أفضل، ونعيش كأنّ البارحة قد ولّى، ونحن أبناء اليوم، ونتأمّل بأنّ الخير قادم، منتظرين سماع خبرٍ مفرحٍ.
ومَن هو الغني في إنجيل اليوم؟… فكلمة “الغنيّ” في المفهوم اللاهوتي تنطبق على كلّ شخص لديه مُلْك ومال وفير قد اغتنى به لذاته، وكأنّه السيّد المطلق، مُستغنيًا عن الله والآخر. فهناك أشخاص أغنياء بالحكمة والحضور واللّسان، إذ يجعلونك تشعر بالفرح والسّلام والأمان. وآخرون أغنياء بالمال، غارقون في حياتهم، بعيدون قد استغنوا عن الله، فهم يرفضون صليب المسيح، ويعتقدون أنّه بمالهم يستطيعون أن يشتروا العالم. أمّا الغنيّ الحقيقي هو من اغتنى بالله وبأخيه الإنسان، ومَن يستغني عن الله وعن أخيه الإنسان، فإنه يعيش يومه الحاضر بالرّفاه، ولكنّه سيأكل يومًا ما الصفعة التي توعّيه، وعندها الندم لن ينفع.
فإنجيل اليوم يُحدّثنا عن غنيّ يمتلك كلّ صفات الغنى، حيث كان يلبس الأرجوان، والثياب الفاخرة، ويُقيم الولائم كلّ يوم. وهذا الإنجيل يجعلنا نُفكّر، كيف كان يعيش الغني هذا الترف في حياته؟
فهذا الغنيّ الّذي كان يلبس الأرجوان كعلامة الجلالة والترف والغنى، أطلق عليه الإنجيل اسم “الغنيّ” وليس اسماً آخر. ولكن لوقا بسياسته وحكمته، وصف لنا هذا المشهد في إنجيله فقال إنّ هناك فقيراً اسمه لعازر – واسم “لعازر” يعني “ذراع الله”- كان مطروحاً عند باب الغنيّ، حيث كانت القُروح تُغطّي جسده، وكانت جروحه مفتوحة. ويمكن ربط هذا الوصف بوصف أشعيا النبيّ للرّبّ يسوع، فقد كان بكامله جرحاً مفتوحاً من رأسه إلى رجلَيه. أي أنّ جسد لعازر لم يكن مجروحاً من الخارج فقط، وإنّما قلبه ونفسه مجروحان أيضًا. فكلّ فقير بحاجة كبيرة لأخيه الإنسان، لأنّ لديه جوعاً ونقصاً كبيراً بحاجة لإكمالهما. فإنّه صعبٌ جدًّا شعور الإنسان الفقير، المذلول الخاطر…ولولا تعاسة المرحلة التي وصل إليها لعازر، لما اضطرّ أن يذلّ نفسه، ويمدّ يده إلى الآخر… وليَمُدَّ الإنسان يده للآخر، يكون قد جُرِح في كرامته ونفسه وروحه، فقد كان مطروحاً أمام باب بيت الغني، يتمنّى أن يسدَّ جوعه بفضلات أكله، وفيه جرحٌ كبيٌر لا يتوقف عند القروح والجوع والفقر، وإنّما جرح نفسيّ نتيجة نظرات المارِيْن والاستهزاء به وعدّة تراكمات أخرى. فقد كانت الكلاب المارّة تقترب منه، وتتحنُّ عليه، وتُطيّب جراحه، بينما البشر كانوا مُتلَهيّن بالوليمة. وإذا قارنّا نمط الحياة التي يعيشها الإنسان الفقير، الذي لا يملك جزءاً من المال الذي نملكه، ولا أحد يتحنّن عليه، ولا أصدقاء له، رأينا شدّة الوجع الذي يعيشه، ونحن قليلًا ما نتذكّر ذلك…
وفي النص جملة رائعة: “تذكّر يا بُنَي”…أي إنّ الله يُذكّرنا دائمًا، ويريدنا أن نبقى يقظين، فنحن أحيانًا نفقد ذاكرتنا بين لحظة وأخرى. وإذا أخذنا مثالاً عن شاب وفتاة يُحبّان بعضهما البعض منذ سنوات، أيُعقل أن يزول هذا الحبّ الكبير وينتهي كلّ شيء في لحظات!..فكيف يزول مثلُ ذلك الحبّ؟..ولماذا يزول؟…وفي ترتيلة “واه حبيبي”،هناك مقطع يقول: “ألا تذكرون سخائي”، فبالرغم من كل ما فعله السيّد المسيح. كان غنيّاً بالله، وأتى وسكب في قلوب الناس حُبَّه وعطاءه، وخاصةً الفقراء منهم.
ويروي النص أنّ الفقير عندما مات، حملته الملائكة إلى حضن الآب، أمّا الغنيّ عندما مات، فقد دُفن. وبعدها “رفع الغنيّ عَينَيه وكان يُقاسي العذاب”، وتُفسّر هذه الجملة العذاب الذي كان يعيشه الفقير لعازر على الأرض، والعذاب الذي يعيشه الغني بعد مِمَمِاتِه. فقد كان ينظر الغنيّ دائمًا إلى الفقير المطروح أمام باب بيته من طرف عَينَيه، ولكنّه للمرّة الأولى رفعهما وفتحهُما بشكل جيّد لينظر إلى لعازر في أحضان الآب. أمّا الآن فقد فات الأوان إذ كان عليه أن يرفعهما من قبل، ولكنّه كان غير آبه ومنشغل بأمور هذه الدّنيا. وأراد الرّبّ منه أن يتذكّر ذلك الآن، ويُذكّره من خلال كلام إبراهيم القاسي، لأنّه عندما كان على الأرض، ولم يتذكّر ولم يرفع عينَيه ولم يمدّ يدَيه…فقد بدأ الغنيّ يتعذّب عذابًا جسديًّا ونفسيًّا…وكلمة “ارحمني” في النص تدلّ على توبة الغني، على طَلبْ الولادة والحياة من جديد، وطَلبْ فرصة جديدة ليعوّض ما فات…فمثلًا عندما يُقَصّر الإنسان في الحبّ، يصير هناك شرخٌ بينه وبين حبيبته، فيرفع عينَيه ويدرك أنّه كان قد نسيَها، ويطلب منها أن تعطيه فرصة جديدة. ففي بعض الأحيان يمكن أن نطلب فرصة أخرى، فنتوب فيها ونعوّض عمّا مضى، ولكن في بعض الأحيان يكون قد فات الآوان…وكذلك الغنيّ ، فإنّه لم يستفِد من وجود لعازر، فقد كان غارقاً في الحياة ومشاغلها، وأخذ يطلب الرّحمة من الله الآب ليُخلق من جديد….فعندما مدّ لعازر اصبعه، كان الغني ملهيّاً بالوليمة، ولم يمدّ طرف إصبعه ليطعمه من الفائض لديه…فمثلًا، هل يكتفي الحبيب بأن تعطيه حبيبته القليل! إنّه بحاجة إلى وقتها وحبّها، وحنانها بكلّ معاييره…وكذلك نحن، عندما كان ربّنا بحاجة إلى كل ذلك، لأنّه الحبيب والعاشق الأكبر، كنّا مشغولين بالأمور الدنيويّة، وفي تحقيق ذواتنا، وصنع أمجدانا، وجمع المال والثروات. وتحقيق الذّات لا يأتي إلّا بالحبّ المطلق، وكل ما جمعه الإنسان على الأرض فهو ليس ملكاً له، وإذ يقال في الإنجيل: يا جاهل اليوم تؤخذ منك نفسُك، فهذا الذي أعددته لمن يكون؟ لأولادك!… فأغنى أغنياء العالم أورثوا أولادهم الكثير من الأموال والثروات، وبقوا في حالة من التخلّف والجهل. فعلى الأهل أن يضعوا أولادهم على الدرب، في بناء ذواتهم وتحقيقها ، إذ لا يستطيع أحد أن يعيش على أمجاد أبيه. هذه هي مشكلة الغنيّ، حين يقول:”أنا أتعذّب كثيرًا في هذا اللّهيب”…وكلمة “اللهيب”، لا يُقصد بها لهيب نار جهنّم، وإنّما اللّهيب الداخلي. وكلّ واحدٍ منّا يمكن أن يكون قد اختبره أو لُدع بناره. فعندما يشعر الإنسان بنار الحبّ في داخله، فيصير بحاجة لأحد يُطفئ هذه النّار، وخاصةً إذا عاش هذا الحبّ وطُعِن من بعده. ولكي نُطفئ هذه النّار، علينا أن نعرف اللّهيب النفسي الذّي يختبره هذا الإنسان، وانفصاله عن الخيرات الأبديّة. أمّا الخيرات الزمنيّة (أي الوقت، الإصغاء، الحبّ والحنان) إن لم تَعِشْها وتهتمّ بها، أتى وقتٌ تَطلبها ولكنّك لن تَجِدها…
وهنا يقول ابراهيم للغني: “تذكّر يا بنيّ”، أي إنّ الله دفق الكثير من المال والنِعم بين يدَي الغني، حيث كان يتنعّم بها ناسيًا الآخر. وقال منصور لبكي: “ماذا أفعلُ يا إلهي حتّى تَنسى ما فَعلتُ، إنّي فقيرٌ إليك، إنّي غنيٌّ بك، نشْوَتي نَعِيمي في راحتَيك لأنّي شريكٌ بكلّ ما لك “…فالنشوة في فكرنا هي نشوة جسديّة مع الحبيب، نشوة بأن نسمع كلمة “أحبُّك” من فم الحبيب، وعندما يقولها، يكون قد أفاض فينا شحنة كبيرة من الحنان…فنحن شركاء الله بكل ما أنعم علينا به، وهذا هو الغنى والبركة التي وهبنا الله إياها بوفرة، ولكنّنا احتفظنا بها لذواتنا وطمرناها، ولم نستفد منها. ويقول الإنجيل: “تَذَكّر يا ابني أن لعازر قد نال نصيبه..أَتَذكُر؟”. فذراع لعازر الممدودة، هي ذراع الله. وكان ابراهيم يُذكرّ الغنيّ بشكل دائم بالنعيم الّذي كان يتنعّم به، وبالنّشوة البطنيّة التي كان يعيشها، والآن قد زالت. فمن الجميل أن يُذكّر الحبيب حبيبته بالذكريات الجميلة بعد فترة من الحبّ أو البُعد…وكذلك الكنيسة تُذكّرنا في بداية الصوم: “تذّكر أيُّها الإنسان أنّك تراب وإلى التّراب تعود”، أي تذكّر أنّك ابن الله، وإن لم تتذكّر الآن، فسوف يُذكّرنا الله لاحقًا ويقول لنا: “أتذكر”… وهذه هي حال لعازر الآن، فهو يتعزّى هنا لأنّه كان مجروحاً وبحاجة لتعزيّة.
وعندما تُشارك صديقك في تقبّل التعازي، فهذا عمل اسمه “بَارَاكِليْتُسْ”…كلمة “بَارَا” تعني “إلى جنب”، وكلمة “كِليْتُسْ” تعني “المدعو ليَقِفْ”. أي عندما يكون الإنسان في حالة حزن، فهو بحاجة لمن يقف إلى جانبه ويسانده، أي بحاجة إلى الباراكليتُس الذي هو الرّوح القدس، وقد وهبه الله ليساند الإنسان. فمثلًا إذا كُنتَ في معركة، فأنت بحاجة للسلاح وهذا هو الباراكليتُس.
ويستمر ابراهيم بتذكير الغنيّ، بأنّ لعازر يَتعزَّى هنا وهو يَتعذَّب هناك، و”هناك” يُقصد بها الجفاء والغربة…فهناك فرق بين العذاب الأبديّ، وبين العذاب الذي تشعر بأنّ جهنّم قد سكنت فيك…فالسّماء ليست المكان الذي نصعد إليه بعد مَمَاتِنا، وإنّما هي أن نعيش ملكوت الله على الأرض…ويطلب الإنسان من الله دائمًا أن يُنجّيه من جهنّم، ولكنّه لا يدري أن حالة العذاب والتّمزّق التي يعيشها، هي جهنّم ساكن في أحشائه وقلبه. وعندما قال الغنيّ: “أترجّاك يا أبي ابراهيم أن تُرسل لعازر إلى بيت أبي”. أي أنّه ، بعد أن عاش هذا الاختبار وأدرك معنى الألم والعذاب، أراد أن يُخبر ويُنذِر ويحمل البُشرى لإخوته الخمسة الساكنين في النعيم على الأرض، فالإنذار كان من مهمّة الأنبياء…والصمت علامة االتواطئ والخيانة والقبور، والصمت هو من الشيطان. وفي كلّ شخصٍ منّا شيطان…فقد فَتَرَتْ فينا المحبّة، ولم يعد هناك قيمة لله، ويقول الله لنا: “أحبّوا أعداءكم، صلّوا لمضطهديكم”. فأخبر ابراهيم الغنيّ أنّ موسى والأنبياء عندهم (أي الباراكليتُس)، فليسمعوا لهم، وإن لم يقتنعوا من موسى والأنبياء، لن يقتنعوا بقيامة أحد الموتى. فالإنسان الذي صارت على عينَيه غشاوة ، مهما حصل أمامه فلن يُصدِّق.
وأريد أن أنهي برسالة للأغنياء: “أيّها الأغنياء، ابكوا ونوحوا على المصائب التي ستنزل عليكم، أموالُكم فَسُدتْ، ثيابكم الفاخرة أكلها العِث، ذهبكم وفضتكم يعلوها الصدَأ، وهو يَشهَد عليكم ويَأكُل أجسادكم كالنّار، تُخزّنون للأيام الأخيرة، والأجور المستحقّة للعمال الذين حصدوا حقولكم التي سلبتموها، صُراخ الحصّادين وصل إلى مسامع الرّبّ، عِشتم على الأرض في التنعّم والترف، وأشبعتُم قلوبكم كعجلٍ يوم الذبح، حكمتم على البريء وقتلتموه”.
فالمغزى من إنجيل اليوم، أن يُنذرك ويوعِّي فيك بصيرتك، لأنّ مسيحييّ الشرق في خطر، وبعضهم يسلكون طريقاً غريباً، وقد أصبحوا أعداء لصليب المسيح. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.