عظة الأب ميشال عبّود الكرمليّ،

كنيسة مار جرجس – الضبية.

إنّ الإنسان المسيحي هو ابن الرجاء،

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

إخوتي، نجتمع اليوم كي نحتفل بالذكرى الرابعة لانطلاقة جماعة “اُذكرني في ملكوتك”، في كنيستَي مار جرجس والصعود في الضبية. ونجد ترابطًا كبيرًا بين الانجيل الّذي قُرِئ على مسامعنا اليوم، وبين انطلاقة هذه الجماعة في الرعيّة. “اُذكرني في ملكوتك”، هي عبارةٌ قالها لِصٌ في آخر لحظة من حياته للمسيح. يقول القدّيس أوغسطينوس عن هذا اللّص إنّه تمّكن من سرقة الأرض والسّماء معًا. تمكّن من سرقة السّماء في آخر لحظات حياته عندما طلب ذلك من يسوع المعلّق قربه على الصّليب. إنّ يسوع لم يرفض طلب هذا اللّص رغم أنّه ارتكب السيئات في حياته، ولم يقل له إنّه لا تجدر النّدامة الآن، وإنّه كان عليه أن يتوب قبلاً، لا بل على العكس، فقد رحبّ يسوع بطلب الّلص وقال له إنّه سيكون اليوم معه في الفردوس أو السّماء. وعندما نتكلّم عن السّماء، تتبادر إلى ذهننا صورة الموت المصحوبة بِصُوَر الحزن، ونرفض التكلّم عن الموت والحزن على الرغم من أنّنا نذكر ذلك دائمًا في صلواتنا. فعندما نتلو السّلام الملائكي نقول: “صلّي لأجلنا نحن الخطأة، الآن وفي ساعة موتنا”، إذًا نحن نَذكُرُ الموتَ في كلّ لحظةٍ من حياتنا. وكذلك نذكر السّماء حين نصلّي الأبانا إذ نقول: “كما في السّماء كذلك على الأرض”، إنّ ذلك من شأنه أن يُذّكِرنا دائمًا بأن على قلوبنا أن تكون موجّهة صوب السّماء دائمًا. إنّ الانسان الّذي يرفض أن يُفَكِّر بالموت وبالسّماء يشبه إنسانًا مجروحًا يرفض أن ينظر إلى جُرحِه. إنّ رفض الانسان النّظر إلى جُرحِهِ، سيجعله يستمِّر في التّوجع، ولن يحصل على الشفاء. إذًا على الانسان أن ينظر إلى جرحه، وأن يكشف عنه للطبيب، عندئذٍ، سيتمّكن الطبيب من شفائه، وإن سبّب ذلك له ألـمًا في بداية العلاج.

إنّ دواءنا هو الرّجاء: فنحن لا نعيش من أجل أن نصبح فقط حفنة من التّراب في القبور عند الموت، بل نحن نعلم أنّنا أبناء الله. إنّ الله قد دعانا إليه، نحن البشر، عندما خلقنا، إذ نفخ فينا من روحه، فسكنت روحه فينا، وإنّ روح الله لا تموت فهي خالدة. ونحن نعلم علمًا يقينًا أنّه مهما كَثُرَ عدد أيّامنا على هذه الأرض، فهناك نهاية لا يمكننا الهروب منها، كما نعلم أنّه في كلّ يوم صباحٍ جديد يُعطينا إيّاه الله، لا يشير فقط إلى زيادة في عدد السنين، إنّما يدّل أيضًا على اقترابنا أكثر من النّهاية. إنّ البابا يوحنّا بولس الثاني يدعونا إلى أن نَعبُر إلى الحياة الثانية بعيونٍ مفتوحة.
إنّنا في كلّ مرّة نجتمع في الكنيسة للمشاركة في هذه الذكرى، أي من أجل الصلاة لراحة نفوس أمواتنا، تتحدّ كنيسة الأرض، بكنيسة السّماء. نحن لم ننسَ موتانا وهم ليسوا بغائبين عنّا، فصحيح أنّهم غادروا هذه الأرض، لكنّهم أصبحوا اليوم في السّماء. في زمن القيامة، ظهر يسوع لتلاميذه غير أنّهم لم يعرفوه لأنّ آخر صُوَر يتّذكرونها عنه كانت إمّا على الصليب مُعلّقًا مُهانًا، وإمّا في بستان الزيتون، وإمّا في العشاء السّري، فقد تفاجأ التّلاميذ بظهور يسوع لهم وبقيامته من بين الأموات. إنّ الأمر نفسه يحدث معنا إذ نتذكر دائمًا كلامهم الأخير، وتنطبع في مخيّلتنا صورتهم، فنتذكرهم بحسرةٍ، ونعيش في الماضي باكين على أطلاله.

إنّ الانسان المسيحيّ هو ابن الرّجاء. ونحن نعلم أنّ موتانا يسكنون مع الرّبّ الآن في السّماء. فعلى الانسان أن يُفكِّر بالموت بهذه الطريقة المليئة بالنضارة الروحيّة. وعندما يفكِّر الانسان في السّماء والموت، عندئذٍ يستطيع أن يعيش الحياة بملئِها، فلا يعود يتقوقع على ذاته، وينغلق عليها، إذ يعيش الانسان هذه الحياة مرّةً واحدةً. إنّ الله لا يخلق شيئًا سيئًا، والله خلق الحياة، وأعطاها للبشر، فالحياة إذًا حسنة. إنّ الله خلقنا لكي يكون كلّ واحدٍ منّا هديّة للآخر، وبالتّالي إنّ الله يدعونا لعيش هذه الحياة بملئها على مثال يسوع. وأخلاقية الحياة المسيحيّة هي أن يسعى الانسان للتصرّف كما كان الرّبّ سيتصرّف لو مرّ بالظروف ذاتها. لذا يجب علينا قراءة خريطة السّماء ألا وهي الانجيل. إنّ المسيحيّ مدعوّ ليعيش الانجيل، ويضعه نُصب عينيه. ويقول يسوع: إنّ كلامه نورٌ وحياة، لكن النّور يزعج الانسان الّذي يعيش في الظلمة. إنّ كلمة الله تزعج في بعض الأوقات، وفي أماكن معيّنة، لأنّها تدعونا إلى أن نغيّر مسيرة حياتنا، إلى تغيير الأمور الّتي لا يرضى الله عنّها. إنّ كلمة الله هي حياة: هذا هو إيماننا. إنّ الشيطان حاول أن يستغل نقطة ضعفٍ عند يسوع، فجربّه حين كان جائعًا في البريّة، فطلب منه استخدام كلّ قوّته الإلهيّة، وتحويلها إلى مصلحته الشخصيّة عبر تحويل الحجارة إلى أرغفة خبزٍ. لكن يسوع ردّ عليه قائلاً له إنّه: “ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكلّ كلمةٍ تخرج من فم الله”، فهذه الكلمة، كلمة الله، تقودنا إلى السّماء.
حين كان يسوع مارًّا، نظر يوحنّا إليه وحدّق فيه. ونحن اليوم، مدعوّون إلى التحديق في يسوع. إنّ الحياة المسيحيّة لا تتميّز بالصلاة، أو بالايمان، أو بالمسامحة، فبقيّة الديانات تقوم على الصلاة، والايمان، وتدعو إلى المسامحة. لكن ما يميّز الحياة المسيحيّة عن سواها هو أنّها ترتكز على شخص يسوع المسيح، وتؤمن به، هو الّذي بشّر به الرّسل بعد قيامته. إنّ المسيحيّة ليست دينًا إنّما هي حياة. إنّ يسوع يعطينا حياة على هذه الأرض، وحياة في السّماء. عندما حدّق يوحنّا إلى يسوع، وأشار إلى التلميذين بأن يتبعاه، ترك التّلميذان يوحنّا على الفور، وتبعا يسوع، ويوحنّا لم يمنعهما من ذلك بحجة أنّه يريد بعض الرّجال معه. وعندما وصل التلميذان إلى يسوع، سألهما: “ماذا تريدان؟” إنّ يسوع يقف أمام كلّ شخص منّا، ويعيد عليه السؤال نفسه الّذي طرحه على هذين التّلميذين، وهو ما الّذي نريده. هل نستطيع أن نعطي الرّبّ يسوع جوابًا؟ إنّ شبيبتنا تعاني من الضياع، لأنّها لا تعرف ماذا تريد. إنّ كلّ ما نقوم به هو محاولة مَلْء فراغ قلوبنا كي ننسى أوجاعنا. إنّ التلميذين لم يطلبا من يسوع، كونه الخالق، أن يعطيهما المال، أو أمورًا أخرى ماديّة، بل طلبا معرفة مكان إقامته: “ربي أين تقيم؟”، أجابهما يسوع بدعوتهما إلى أن يأتيا، وينظرا أين يقيم: “تعاليا وانظرا”. إنّ جواب يسوع لكلٍّ منّا إن سألناه أين يقيم، سيكون أنّه: يقيم في قلوبنا، في داخلنا. إنّ الطوباويّة أليصابات الثالوث تقول:”لقد وجدت سمائي على الأرض، لأنّ السّماء هي الله، والله موجود في قلبي، وأريد أن أبوح بهذا السّر إلى أحبائي”. إذًا نستطيع أن نتذّوق طعم السّماء، ونحن على هذه الأرض، وذلك من خلال لقاءاتنا الشخصيّة مع الرّبّ، وفي كلّ مرّة ندرك أنّ الله موجود في حياتنا. ومن يجد الله في حياته، يستطيع أن يجده في الآخرين، وعندئذٍ يستطيع أن يحبّ الآخرين، ويرى في الآخرين الرّبّ المتّجسد، وعندما نأتي إلى الكنيسة، فنرى الله في القربان الّذي يعطينا مفاتيح السّماء، هو الّذي قال إنّ من أكل جسده وشرب دمه فله الحياة الأبديّة. إنّه لأمر رائع أن نكون مجتمعين، في كلّ قداديس “اُذكرني في ملكوتك”، كعائلة واحدة لنؤكد أنّنا أولاد السّماء، أولاد الرّجاء، وأنّنا نعيش مع بعضنا البعض. هل تعلمون أنّه في كلّ قدّاس، يتمّ ذكر الموتى في الحساية، أي “صلاة الغفران”، وأيضًا في النوايا، أي في تذكارات المؤمنين؟ نحن لا نستطيع أن نقدِّم لأمواتنا شيئًا سوى ذكرهم في القدّاس: حين كانوا لا يزالون حاضرين معنا على هذا الأرض، كنّا نقدِّم لهم الهدايا الملموسة، أمّا الآن فأكبر هديّة نقدّمها لهم، هي أن نلتقي بهم في القدّاس، فكما نقوم بالزيارات الاجتماعيّة لنلتقي ببعضنا البعض، كذلك، نحن نلتقي بأمواتنا عند المسيح في القدّاس. هذه هي أهميّة الايمان.
نطلب من الرّبّ أن يعزِّز فينا دومًا روح الرّجاء، ويقوّي فينا الايمان كي نعيش كما عاش هو في تجسّده، وأن نعيش حضوره في حياتنا، وأن نعرف كيف نُبقِي عيوننا وقلوبنا موجّهة صوب السّماء حيث هو حاضر، له المجد إلى الأبد. آمين.

 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp