تأمّل روحيّ،
الأب ميشال عبود الكرمليّ،
الصّوم مسيرة تجدّد وصلاة،
ها قد أقبل الصّوم هذه السنّة، وركيزةُ أسئلةِ المؤمِنين عنه تتمحوَر حول وجوب الصّوم أو عدمه، وعن ماهيّة الأطعمة المسموحة فيه، وعن قبول الله للصّوم في حال تناول المؤمِن فطوره قبل حلول الظهيرة، أو في حال تناوله طعامًا يحتوي على اللّحوم. لقد أصبح تفكير المؤمِن في الصّوم يتمحوَر حول الصّوم بحدِّ ذاته من دون أن يهتمّ لهدفه الأساسيّ. إنّ القدِّيس يوحنا الذهبيّ الفمّ يقول لنا إنّ الله لن يسألنا إن أصبحنا أقلّ وَزنًا في فترة الصوّم، أو إن تبدّل جسدنا أو طرأ عليه أي تعديل مِن حيث القياس، إنّما سيسألنا عن الأشياء الّتي تغيّرت وتحَسّنَت في حياتنا الأخلاقيّة والروحيّة، فالصّوم لا نفعَ له إنْ امتَنَع المؤمِن عن تناول اللّحوم واستمرَّ في نَهشِ قريبه وصديقه بلسانه أي بالكلمات الجارحة والقاتلة. إنّ ممارسة المؤمِن لكافة الأصوام لا تنفعه، ما لم يتمكّن هذا الأخير من الانقطاع والامتناع عن الخطيئة.
إنّ المسيح لم يطلب منّا، مرّةً واحدةً في إنجيله أن نصوم، ولكنّه أعطى الصّوم والصّلاة القيمة نفسها. فعندما أتوه بالممسوس، قال يسوع إنّ شفاء هذا الإنسان من الأرواح الشريرة لا يتمّ إلاّ بالصّوم والصّلاة. وبالتّالي، فإنّ يسوع يدعونا إلى الصّوم والصّلاة، لأنّ الصوّم من دون صلاة لا فائدة منه، وهو صومٌ ناقصٌ. إنّ الرّوح مندفعٌ أمّا الجسد فَضغيفٌ، يقول الربّ يسوع، وفي هذا الكلام دعوة إلى الصّوم من أجل تقوية أجسادنا فتتمكّن أرواحنا من السّمو نحو الله ومن الاتّحاد به. إذًا، إنّ هدف الصّوم هو الامتناع عن بعض الأمور في سبيل اللّقاء بالربّ، والعيش معه والاتّحاد به.
إنّ الامتناع عن المآكل يهدف إلى اقتراب المؤمِن من الله: فإنْ وَجَد المؤمِن في امتناعه عن الطّعام، تحقيقًا للهدف المنشود من الصّوم، فليُمارِس الأصوام وإلاّ فليمتنع عن الصّوم. ليس المقصود بكلامنا هذا عدم تشجيع المؤمنين على الصّوم، بل على العكس من ذلك إذ على كلّ مؤمِن قادر على الصّوم، أن يصوم وأن يستمرّ في ذلك، ويلتزِم به، غير أنّ ما نقصده بكلامنا هو عدم مساواة المؤمِن بين قيمة الطّعام وقيمة علاقته بالله. إنّ المؤمِن خلال الصّوم، مدّعوٌ إلى الابتعاد عن الخطايا وعن كلّ ما مِن شأنِه أن يُبعِدَه عن الربّ، وهو مدّعو للسّعي إلى الاتحاد بالله، عبر إشباع نفسه من كلمته ومن محبّة الآخرين، فَيَروي شوقه للقاء الربّ.
إنّ زمن الصّوم هو زمن الارتداد والتّوبة إلى الله. إنَّ نفوسَنا تنمو كلّما اقتربنا من الله، وما مسيرة الصّوم إلاّ مسيرة يقوم بها المؤمِن مع الربّ، فيسير معه درب الجلجلة، ويعيش معه ومع الصّليب، ليتمكّن في النّهاية من الوصول إلى عيش مجد القيامة. إنّ مسيرة الصّوم، ويُطلق عليها أيضًا “الصّوم الاربعينيّ”، لأنّها تتألّف من أربعين يومًا. إنّ زمن الصّوم هو زمن الانتظار: فكما أنّ الجنين يعيش في حشا أمّه مدّة أربعين أسبوعًا قبل أن يُولَد للحياة، كذلك المؤمِن فإنّه يُولد مع المسيح في نهاية الصّوم، ولادةً متجدّدة. إنّ زمن الصّوم هو زمن العودة إلى الربّ. إنّ الربّ موجودٌ في قلبِكَ فلا تنسَ أن تعود إليه، لتعيش حياتك معه، وفي ملكوته، له المجد إلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَ التأمّل بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.