تأمّل للأب جوزيف بو رعد الأنطونيّ،
رعيّة مار الياس -أنطلياس.
الطريق الضَيِّق،
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين
إنجيل اليوم، الطويل والغنيّ والمتنوِّع، هو في الواقع خاتمة العظة الأولى للرّبّ يسوع، الموجودة في إنجيل متّى والتّي تبدأ بالتّطويبات وتنتهي فعليّاً بهذه الكلمات التّي سمعناها اليوم. إنجيل اليوم هو إنجيل مُركَّب من عِدَّة أمثلة تُشَكِّل تعليم يسوع لنا. فتعليم يسوع يطال نواحي عِدَّة مِن حياة المؤمِن. إنّ هذا النّصّ الإنجيلي يُقسم إلى ثلاثة أقسام. في القسم الأوّل يستخدم يسوع في تعليمه صورة “الباب”و صورة “الطريق”: الباب الرَحِب، والباب الضَيِّق، الطريق الرَحِب والطريق الضَيِّق. في القسم الثاني مِن النّصّ الإنجيليّ، يتكلَّم عَن الأنبياء الكذابين، الذّين هم حِملان مِن حيث الظّاهِر أمّا في الباطِن، فهم ذئاب خاطفة. وفي القسم الثالث، ينتقل إلى موضوع آخر، من الممكن أن لا يعنينا في حياتنا اليوم بشكلٍ مباشر، وهو عن الدينونة. ويُعالج مسألة الدّخول إلى الملكوت، ونيل السعادة الأبديّة: هل الإنسان الذّي يعترف أنّ يسوع هو الرَّبّ ويؤمن به، هو من يدخل الملكوت؟ أم المطلوب لدخول الملكوت أكثر من ذلك؟ في القسم الأوّل، نرى أنّ الصورة عامّة وتشمل كلّ حياة الإنسان، وكلّ خياراته الأساسيّة في الحياة. لقد انطلقت من سفر الاشتراع فكرةٌ أساسيّة، طبعت كلّ الكتاب المقدَّس في ما يخصّ الخيارات الأساسيّة الحياتيّة، ترتكز على أن يرى المؤمن في الحياة طريقين عليه الاختيار بينهما: طريقاً يؤدي إلى الهلاك وطريقاً يؤدي إلى الحياة. ونجد هذه الفكرة أيضاً في المزمور الأوّل من سفر المزامير.
وفي هذا الإنجيل أيضاً، نرى يسوع يتكلّم عن بابين: الأوّل رَحِب وواسع والآخر ضيّق، وكذلك عن طريقين الأولى رحبة وواسعة والثانية ضيِّقة. وهنا يُشبِّه يسوع، في كلامِه وبشكلٍ عامّ، حياة الإنسان بالطريق، فإنّ حياة الإنسان ترتكز على سلوكه ومسلكه. هذه هي النقطة التّي تحبُِك الإنجيل كلّه، وهي مسألة المسلك. فالأمور، لا تُحَدَّد لا بهويتنا ولا بإيماننا ولا بأقوالنا وإنّما، تُحَدَّد بما نقوم به، أي بمسلكنا الأخلاقيّ. فالأخلاق تعني بالتّحديد علاقتنا مع الآخرين، تصرّفاتنا معهم ومسلكنا معهم. ونحن نجد سهولة في الانجرار نحو إختيار الأسهل دائماً، وهذا هو الخطر الأوّل الذّي يُنبّهنا إليه الإنجيل، ويقول لنا إنّ الطريق الأسهل هو الطريق الواسع التّي يسلك فيها الكثيرون.
ومِن حيث المبدأ، غالباً ما نتأثر بما يفعله الجميع، وما يقومون به وخاصّة في لباسِنا. فنحن نتقيّد بما يلبسه الآخرون وهذا ما يُسّمى بالموضة. فهل سنقبل ونسمح للموضة بأن تتحكّم بمسلَكنا؟ إليكم مثل عن ذلك: عندما نقول إنّ الجميع يفعل هذا الأمر المعيّن، فنفكِّر قائلين إنّ الأمور لا تقف عندي، فهل تُراني أنا من سيُقوِّم كلّ ما هو معوَّج؟ إنّ مثل هذا الحديث، يجعلنا نفكِّر مثل الجميع، ونقوم بما يقوم به الجميع، ونتصرّف كالجميع، وفي أغلب الأحيان نعتقد أنّنا “إكتشفنا البارود”. وإليكم مثلٌ آخر، فعندما تتحادث مجموعة من النّاس، وتتعصّب لفِكرَةٍ ما، نرى الحديث يبدأ، ويطول حول سيئات الفكرة التّي يرفضونها. وعندما يعترض أحدهم، ويلفت نظر الحاضرين إلى حسنات الفكر الآخر المختلف، يُخوَّن، ويتعرَّض هذا الأخير إلى سَيْل من الانتقادات الهدّامة (من الممكن أن يكون هذا الآخر المختلف عنّا: حزب ما، طائفة، عائلة ما أو فكر ما)، فيضطّر إلى الدّخول في الحديث معهم، ومجاراتهم فيما يقولونه حتّى وإن كان خاطئاً. فهذا ما يفعله الآخرون وهذه هي الموضة السائدة، وعليك أن تتحدّث مثل الجميع وإلاّ تُنبَذ منهم. لكن نحن كمسيحيّين، على خيارنا أن يكون اختيار الطريق الضيّق والباب الضيّق. فهذا الطريق هو الّذي سيُوصِلنا إلى الحياة وسندخل من خلاله إلى الملكوت. فإنّ دخول الكثيرين من الباب الواسع والرَحِب، لا يعني أبداً أنّ هذا هو الباب الصحيح الذّي علينا دخوله، إذ إنّه يمكن أن يؤدي إلى الهلاك.
وفي القسم الثاني، ينتقل يسوع إلى تحذيرنا من الإنبياء الكذبة، الذّين يأتون إلينا بشكل حِملان. من المتعارف عليه عموماً، أنّ الخروف مُطيع ولا يؤذي، دوماً رأسه منخفض صوب الأرض، صُوفه أبيض عموماً، وكلّ ما يُوحي به هو الوداعة والطاعة والطيبة. أمّا الأنبياء الكذبة، فيقتربون من القطيع لابسين ثياب الحملان، لكن لا يلبث أن يكتشفَهم القطيع على حقيقتهم وهي أنّهم ذئاب كاسرة، ويريدون تبديد القطيع والقضاء عليه. إنّ هؤلاء يُشكِّلون خطراً كبيراً جدّاً على القطيع. ويجدر بنا الانتباه إلى أنّ كلام الإنجيل هذا، هو صُوَر مجازية، فنحن بشر، ولسنا بخراف. فعندما يقول لنا أحدهم إنّه يسوقنا كما تُساق الخراف، ننتفض ونعترِض قائلين إنّ لكلّ فردِ منّا رأيه الخاص وتفكيره الخاصّ ولا نقبل بأن يسوقنا أحد. ولكن المسألة الملفتة هنا التّي يعرضِها علينا الإنجيل هي، ألا نُغَشَّ بالظاهر وألاّ نسمح لأحد بأن يَغِشَنا. وهذا ما يُسَّمى بالمنطق النبويّ. فما هو المنطق النبويّ؟ المنطق النبويّ يقوم على عدم التّوقف عند الظاهر. فقد كان الأنبياء في العهد القديم، يتكلّمون بعنف وبقسوة شديدة مع الأشخاص الذّين كانوا لا يُبارحون الهيكل، مع النّاس الذّين هم من حيث الظاهر يُطبِّقون الشريعة، لكنّهم لا يسلكون بموجبها في حياتهم، فهؤلاء يُطبّقون من الشريعة ما يحلو لهم.
وفي هذا الإنجيل، الذّي يشّكل ختام عظته على الجبل، يتكلَّم يسوع عن ثلاثة أمور ترتكز عليها العبادة: الصلاة، الصّوم والصدقة. ويقول لنا يسوع في هذا الإنجيل إنّ ليس كلّ مَن صلّى قد صلّى حقّاً، وليس كلّ مَن صام قد صام حقّاً، وليس كلّ من تصدّق قد تصدّق حقّاً. إنّ كلّ هذه الأعمال هي أعمال خير، وأعمال تطلبها الشريعة. لكنّ الإنجيل يُلقي الضوء على مثل تلك الأعمال، ويدعونا لكي نكون حذرين منها. فالإنجيل يدعونا إلى أن نكون حذرين من الأمور التّي تُحرِّمها الشريعة، والتّي يتعارف عليها الجميع على أنّها خطايا مثل الكذب والسرقة والزنى وغيرها، فهذه كلّها علينا تجنُبها لأنّها خطايا. إنّ كلام الأنبياء لم يكن يطال مباشرة الذّين يرتكبون الخطايا، بل أولئك الذّي يقومون بأعمال خير وجيّدة ظاهريّاً، لكنّها تخفي نوايا سيئة ومرفوضة. لذلك من صلّى كي يراه النّاس فهذا الإنسان لا يُصليّ، والإنسان الذّي يقوم بالصدقة من أجل أن يُصفّق له النّاس، فإنّ أعماله غير مقبولة عند الله، ومَن يصوم لكي يقول للنّاس إنّه صام، ويقول لله إنّه يتمّم واجباتِه الدينيّة، فإنّ صومه غير مقبول وحرِيٌّ به ألاّ يصوم.
فالموقف النبويّ يتطلّب منّا أن نبقى صامدين في إيماننا في وجه هؤلاء الذّين يحاولون خداعنا، وعلينا أيضاً أن نحذر منهم. فليس كلّ من يقف أمامنا طالباً منّا أن نصلّي، يكوم مُرسَلاً من الله. وليس لأنّ الكاهن طلب منّا القيام بأمر معيّن فعلينا تصديقه، والقيام بما طلبه منّا من دون تفكير بذلك، متخلّيِن عن ثقاقتنا الدينيّة، وما تعلّمناه. علينا أن نكون يقظين، فنحن لا نستطيع أن نكون خرافاً. فعلينا أن ننظر إلى كلّ من يأتينا كمرسل من عند الله، ونميّز إن كان راعياً حقيقيّاً أم راعياً مُزَيَّفاً يريد إيصالنا إلى الهلاك. إنّ كلام يسوع في هذا الإنجيل لا يُقدِّم إعفاءً للرعيّة من مسألة التمييز هذه، بل على العكس إنّه يدفعها لكي تكون حذرة وتتحلّى بالتمييز الضروريّ لمن يأتيها راعياً من عند الله ومُرسلاً. إنّنا لا نستطيع التعرّف إلى هؤلاء الأنبياء الكذبة من خلال تعاليمهم بل من خلال أعمالهم، فمن الأعمال اليوميّة البسيطة الأساسيّة نميّز ونعلم هل هم يكذبون علينا؟ وهل هم أصوليّون؟ وما هي الغاية من كلامِهم؟ هل هم سبب شرخ في الجماعة أم يسعون إلى توحيدها؟ ما الغاية من أعمالهم؟ هل يسعون لكي يظهروا هم أم يسعون لكي يظهر الله من خلالهم، ويسعون لخدمة الجماعة؟ إنّ على المؤمنين طرح كلّ هذه الأسئلة وغيرها على الشخص الذي يأتيهم راعياً. فليس كلّ من تكلَّم بكلمة الله هو بالضرورة مرسل من عند الله. أريد أن أُذكّركم أنّه في نصّ تجارب يسوع، جرَّب الشرير يسوع مستشهداً بالكتاب المقدّس. وبالتّالي ليس كلّ من تكلّم بكلام الكتاب المقدّس فهو يتكلّم بروح الله، هذا الروح الذّي به كُتب الكتاب المقدّس. ما المقصود إذاً؟ المقصود أنّه يجب علينا ألاّ نستريح، وألاّ نستسلم، وألاّ نندهش أمام كلّ ما يُقال لنا، بل علينا أن نتساءل حول كلّ ما نراه أو نسمعه، وعلينا بكلّ بساطة أن نميِّز. علينا بالسهر وعدم السماح لأحد بأن يَغِشَنا بالكلام أو بالفعل، علينا تمييز الخراف من الجداء. فليس كلّ من قال لنا صوموا، صلّوا، تصدّقوا يكون إنساناً مرسلاً من عند الله. فالكتاب المقدّس يتكلّم عن يوم الدينونة ويقول إنّه
في ذلك اليوم، كثيرون سيقولون ليسوع إنّه باسمه تكلّموا وقاموا بالأعاجيب، ولكننا أيضاً نقرأ في الكتاب، أنّ الرّبّ نظر إليهم وقال لهم إنّه لا يعرفهم. لذلك علينا إعادة النظر في المقاييس التّي نتبعها للحكم على إنسان إذا كان مؤمناً
أم لا. فنحن حين ننظر إلى إنسانٍ مؤمن، هل ننظر إلى أقواله وعجائبه، أم إلى أقواله والغاية التّي تكمن خلفها؟ إذاً وبكلّ بساطة، يختتم يسوع تعليمه في الإنجيل بهذا القول إنّه ليس كلّ من يقول له يا ربّ يا ربّ يدخل ملكوت السّماوات، بل يدخله كلّ إنسان يسمع كلمة الله ويعمل بها، أي أنّ من يدخل ملكوت السّماوات هو الإنسان الذّي تكون كلمة الله نوراً لسبيله، كلّ من تكون خطواته ومسلكه في النّور. فالظلمة، التخبئة، الحزن، التقسيم، الكآبة، هذه الأمور بالتأكيد ليست من روح الله. فروح الله يُنير، يعطي الحياة والفرح والبركة حيثما حلّ.
إخوتي، إنّ كلام يسوع هذا موجّه لنا اليوم. من المهمّ جدّاً أن يكون لدينا أباء روحيّون في حياتنا، نتّخِذهم مثالاً لنا، نسمع لهم، ولكن علينا التذّكر دائماً أننّا لسنا خرافاً. وفي هذا الإنجيل لا يلقي يسوع المسؤوليّة على الرعاة إنّما على الرعيّة. فيسوع يدعونا ويقول لنا إنهّ على كلّ مؤمن أن يستمع هو بنفسه لكلام الله يخاطبه، وذلك من خلال قراءته للكتاب المقدّس. عندئذِ يستطيع أن يميّز الأصوات، فلا يعود ينقاد لهذا الصوت أو ذاك، إذ صار يعرف صوت الله جيّداً. علينا أن نكون أشخاصاً مؤمنين ثابتين في الإيمان، بانين بيتنا على الصّخر الذّي هو كلام الله الذي يظهر من خلال سلوكنا وقيمنا الأخلاقيّة، وفي تعاملنا مع بعضنا البعض.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.