القداسة هي عيش المؤمِن مع الربّ ،
عظة الأب موريس معوّض في كنيسة مار تقلا – المروج.
في هذا المساء، نحتفل بالذكرى التّاسعة لانطلاقة جماعة “أذكرني في ملكوتك”، في هذه الرعيّة. ونحن لا نزال في إطار تساعيّة القدِّيس مار شربل، قدِّيسنا العظيم، الّذي يفيض الربُّ من خلاله نِعَمًا إلهيّة على المؤمِنِين كما على غير المؤمِنِين.
إنّ إنجيل الصديق اللّجوج الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، يُلقي الضوء على المعاني الروحيّة الّتي نعيشها في هاتَين المناسبَتَين المقدَّستَين، من خلال تركيزه على أهميّة الصّداقة. إنّ الصديق يتمتّع عادةً بِدالَّةٍ على صديقه، لذا يبادر إلى طلب المساعدة من صديقه، عندما يحتاج إليها، وفي أيّ وقتٍ كان، حتّى في منتصف اللّيل. يأتي هذا النّص الإنجيليّ بعد تعليم الربّ يسوع تلاميذه صلاة الأبانا استجابةً لطلبهم أن يعلِّمهم الصّلاة؛ كما يلي هذا النصّ الإنجيليّ قولُ الربّ لتلاميذه:”إسألوا تُعطَوا، أُطلبوا تَجِدوا، اِقرعوا يُفتَح لكم”. في هذا النصّ الإنجيليّ الّذي نتأمّل فيه، يدعونا الربّ إلى اللّجاجة في الطلب من أجل الحصول على ما نريد، إذ يقول لنا في هذا النصّ: “وإن لم يقم ويُعطِه لكونه صديقه، فإنّه ينَهَضُ للجاجته، ويُعطيه كلَّ ما يحتاج إليه” (لو11: 8)، أي أنّ الصديق لم يستجِب لصديقه باسم الصّداقة، إنّما بسبب لجاجته. وهذا ما نختبره على الصعيد البشريّ، إذ قد نتغاضى عن تلبية احتياجات إخوتنا المحيطين بنا، لعدم رغبتنا في مساعدتهم في الوقت الحاضر، إذ نجد في خدمتهم مصدر إزعاجٍ لنا،كما أنّنا نتحجّج بعدم امتلاكنا للوقت الكافي، وما هذا إلّا دليل على فتور المحبّة بين البشر وانعدام الصداقات فيما بينهم، إذ أصبح الإنسان في عصرنا يتطلّع إلى تلبية حاجاته وحاجات عائلته الصَّغيرة دون سواهم من البشر.
فإن كانت هذه طريقة تعامُل البشر مع بعضهم البعض، فكيف يتعاملون مع الله من خلال الصّلاة؟ لقد كرّس القدِّيس شربل حياته، سواءٌ أكان في الدَّير أم في المحبسة، للصّلاة. ولم تكن صلاة القدِّيس شربل مقتصرة على الأوقات الّتي حدَّدها قانون الدَّير أو قانون المحبسة، بل كانت حياته تُعبِّر عن حالة الصّلاة الّتي كان يعيشها، أكان في وقت الصّلاة أم في العمل. لقد عاش القدِّيس شربل حياته في الدَّير أي أنّه كان قريبًا من الربّ، من خلال اشتراكه في الصّلوات مع الإخوة، إلّا أنّه كان يطلب من الربّ على الدّوام أن تكون حياته مطابقة لمشيئته القدُّوسة. إنّ ما يميِّز القدِّيسِين عن سائر المؤمِنِين هو حالة صلاة دائمة كانت ترافق أعمالهم: فعلى سبيل المثال، لقد تمكّن الأخ اسطفان من خلال عمله في الحقل من الوصول إلى القداسة، كما كانت جولات الأب يعقوب الكبوشي في المناطق لتأسيس الجمعيّات سببًا في قداسته. لا يصِل المؤمِن إلى القداسة، أو إلى حالة الصّلاة، كَمن يضغط على زرٍّ كهربائيٍّ ليُشعل النّور في الغرفة، بل يصِل إليها من خلال لجاجته في الصّلاة وصبره المتواصل للحصول على مطالبه من الله. ليست القداسة مستحيلة ولا هي صعبة المنال بالنسبة للمؤمِن الّذي يرتاد الكنيسة باستمرار ويشارك إخوته المؤمِنِين الصّلاة، بل إنّ تلك المشاركة تساهم في نقل جوّ الصّلاة من الكنيسة إلى بيت المؤمِن وإلى مكان عمله وإلى كلّ مكان يرتاده، فتتحوّل أفعاله وأقواله إلى صلاةٍ مستمرّة، وهذا بالتحديد ما يطلبه منّا الرّسول بولس حين يقول إنّه مهما أكلنا أو شربنا فليكن ذلك لتمجيد الله. إنّ القداسة هي أن يعيش المؤمِن مع الربّ، فيكون واعيًا لحضوره في حياته، فيبتعد عن الخطيئة، الّتي لا تكمن في الأعمال بحدِّ ذاتها إنّما في ذهنيّة المؤمِن عند قيامه بها. فكما أنّه لا يستطيع المؤمِن المحافظة على نظافته الشخصيّة إن لم يستحمّ بشكلٍ يوميّ، كذلك لا يستطيع المؤمِن المحافظة على حالة النِّعمة فيه من دون مثابرته على الصّلاة طالبًا من الربّ المساعدة لتخطّي ضعفه البشريّ.
إنّ الربّ لا يهدأ ولا يستريح، لذا علينا بالإلحاح عليه في الصّلاة ليساعدنا في التخلّص من نقائصنا، فنتمكّن من الوصول إلى حالة الصّلاة الدائمة، أي القداسة. هذا ما اختبره قدِّيسونا العظماء: القدِّيس شربل في محبسته، والقدِّيسة رفقا على فراش الألم، والقدِّيس الحردينيّ في مسؤوليّاته الرّهبانيّة، والقدِّيس يعقوب الكبوشيّ في انطلاقه للرّسالة في قلب مجتمعه، إضافةً إلى جميع القدِّيسِين، فَهُم جميعهم اختبروا حالة الصّلاة، الّتي أوصَلتهم إلى القداسة.
نسأل الله أن يجعلنا في حالة صلاةٍ دائمة، فنكون قدِّيسِين له على مثال مار شربل، الّذي عاش بمعيّة الربّ في هذه الأرض، وأكمل الحياة معه بعد انتقاله من هذه الفانية، فنال الفرح الحقيقيّ الّذي لا يزول بلقائه بالربّ يسوع المسيح، وهذا هو الفرح الّذي تختبره باستمرار جماعة “أذكرني في ملكوتك”.
إخوتي، لا يتحقّق الملكوت فقط في السّماء، إذ إنّه يبدأ من هذه الفانية، لذا على كلّ مؤمِن أن يتحضّر له من خلال أعماله الأرضيّة الصّالحة ليتمكّن من الحصول عليه في الحياة الثانية. إنّ لصّ اليمين شكّل حالةً استثنائية إذ تمكّن من الدّخول إلى الملكوت، بلقائه بالربّ يسوع في اللحظة الأخيرة من حياته، على الصّليب. أمّا نحن، المؤمِنِين بالربّ يسوع، والـمُنتَمين إلى جماعة “أذكرني في ملكوتك”، فعلينا أن نذكر الربّ في كلّ لحظات حياتنا، كي نتمكّن من رؤيته في الملكوت بعد انتقالنا من هذه الفانية. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.