عظة للأب بنوا ريشا الكرمليّ،
دير سيّدة الكرمل-الحازميّة.
تشبّه بمعلّمه المسيح فتمجّد،
في هذا اليوم نحتفل بعيد القدّيس مارون أبي الكنيسة المارونية، الّذي على اسمه بُنيت، وامتَدَّت عبر التّاريخ منذ وفاتِه سنة 410، واستمرّت إلى اليوم. لقد قرأنا اليوم في الإنجيل عن يسوع الّذي كان يُخاطِبُ الآب ويقول له: “مَجِّد اسمك”، وقد أتاه الجواب: “قد مَجَّدتُ وسأُمَجِّد أيضاً”. إنّ الكنيسة المارونيّة تقرأُ على مسامِعنا هذا النّص لتقول لنا إنَّ مارون كان في حياتِه يَقرأُ الإنجيل، ويُحاول التشَّبه بمُعلِّمِهِ المسيح، لذلك تمَجدَّ مارون: تمجَّد بأبنائه، وبكنيسته عبر التّاريخ. وقد أصبح مارون معروفاً في العالم كلِّه على أنّه أبو الكنيسة المارونيّة. ومجدُ مارون لم يكن عندما كان حيّاً على الأرض.
كما نقرأ أيضاً مِن رسالة مار بولس إلى تلميذه تيموتاوس، وفيها يُعدِّد القدّيس بولس الآلام والصعوبات التّي عاشها. ويمكننا القول إنّ كاتب هذه الرسالة هو أيضاً مار مارون، يكتبها إلى أبنائه في الكنيسة المارونيّة، وهو يُخبرهم فيها بما عاشه. سأقرأ من جديد الآية التّي كتبها بولس وتكلَّم فيها عن عذاباتِهِ: “لقد تَبِعْـتَ تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأنّاتي ومحبّتي واضطهاداتي وآلامي كالتّي أصابتني في إنطاكية”. إنّ مار مارون كان مِن مدينة إنطاكية، تَنَسَّكَ في حَلَب وعاش كلّ هذه الصُعوبات التّي عاشها بولس، لذلك كافأهُ الله، وأعطاه المجد الإلهيّ لا المجد الأرضيّ. فصحيح أنّه عندما كان القدّيس مارون حيّاً كان يتقاطر إليه النّاس مِن رُهبان وعلمانيين طالبين الشفاء، غير أنّ المجد كان أكبر بعد وفاتِهِ. وهنا أُشَجِّعُكم على قراءة كتابٍ كتبه الأسقف تيودوريتوس القورشي الّذي خَلَفَ مار مارون، وفيه تستطيعون قراءة حياة العديد مِن القدّيسين الّذين عاشوا في قورُش، ومِن بينِهم القدّيس مارون. وهذا الكتاب يُخبِرُنا أنّه بعد وفاة القدّيس مارون، تحاربت مدينتان مِن أجل الحصول على جُثمانه، وقد احتفظت به المدينة التّي غلبَتْ في هذا الصراع.
خلال حياة القدّيس مارون كان يتقاطر إليه النّاس مِن كلِّ مكان طالبين الشفاء مِن أمراضٍ عديدة ومتنوعة. وقد كان مارون بوجوده على الجبل مثل ذلك العمود الحديد الّذي يُوضع ضِدَّ الصواعق para-tonnerre، وقد كان وجود مارون يَرُدّ الضربات عن شعبِهِ ويَرُّد الحروب. وقد أصبح مارون كذلك بفضل صلواتِهِ وعيشه للإنجيل بحذافيره. وعندما تَنَسَّك مارون، زَهَدَ بكلِّ شيء، وترك كلَّ شيء، وعاش على الجبل يقتاتُ ممّا يتوَفَّر له مِن الطعام. ويُقال أيضاً عن مار مارون إنّه عاش تحت المطر والبرد، تحت الشمس، بدون بيت أو سقف. وهذا ما يُسمّى بالعيش في العراء. وبعد مار مارون، خَلَفَهُ تلميذه، سمعان العموديّ، الّذي عاش على العمود كمار مارون. وكأنّ هذه الطريقة التّي اختارها مارون أصبحت طريقة واضحة، يعيش من خلالها فقط مِن نعمة الله، أكان بالأكِل أو بالشُرب أو مِن خلال صِحَتِهِ، أو مِن خلال ممارساتِهِ، ومِن خلال صُمودِه بالرّغم مِن صعوبات الطبيعة. وبهذه القوّة التّي أفاضها الله عليه إستطاع أن يُبَشِّر الوثنيين في المدُن أو في القرى. وقد أرسل مارون رُسُلاً إلى لبنان ليبشِّروا، ومنهم ابراهيم، أحد أبنائه الّذي بشَّر في منطقة نهر إبراهيم، ومنطقة جبل لبنان. وفي هذا الوقت الّذي كان قد بدأ بناء الكنائس على الساحِل، بَشَّر رُسل مار مارون القُرى التّي كانت ما زالت تُحافِظ على وثنيتها، وهناك أُسِّسَ تلاميذ مار مارون. ونحن نعلم اليوم أنّ الموارِنة هم أبناء الجبال، يُفتّتون الصَّخر، أي أنّهم يعملون في الأرض. وبالتّالي هم يتمتعون ليس فقط بِبُنية جسديّة قويّة، وإنّما أيضاً يتمتعون بإيمانٍ قويّ، إيمان ثابت، قادر على الصمود. وهذا الصمود في الإيمان كان وما زال يُرافِقُهم أينما وُجِدوا في لبنان، وفي العالم بأسرِه.
مِن المؤكد أنّ ما عاشه مارون، عاشه بولس وأخبر عنه تلميذه تيموتاوس. فتوَّجه بولس في رسالته إلى تيموتاوس قائلاً له ومُذَّكراً إيّاه أنّه قد نال الإيمان منذ طفولته، ولكن هذا الأمر لا يكفي. وشَجَّعه على هذا الإيمان وقال:”إنّك منذ الطفولة تَعرِف الكُتُب المقدَّسة القادرة أن تُصَيِّرَك حكيماً في سبيل الخلاص”. إنّ هذا الكتاب يُعوِزُكَ عندما تكون مسؤولاً في الكنيسة وأسقفاً، إنّه كتاب مُفيد للتّعليم. على تيموتاوس أن يَتَعَلَّم ويُعَلِّم، أن يُوَبِّخ، وأن يُؤدِّب وأن يُقَوِّم المعوَّج.كلّ هذه السلطة التّي أعطاها بولس لتلميذه تيموتاوس، سبق أن أخذَها بولس نفسه مِن الله. إنّ هذه السلطة يُعطيها الله لكلّ مَن يتبعونه وخاصّةً إلى النّساك وإلى كلِّ الّذين يحفظون كلمة الله في الإنجيل حرّفيّاً ويسيرون بحسب تعاليمِه. وهذه السلطة حَصَل عليها مارون وأَلهمَ أجيالاً وأجيالاً من الرُّهبان، وأَلهمَ الكنيسة المارونيّة.
نحن نقول أنّنا أبناء الكنيسة المارونيّة. لكن إن وَعى كلٌّ منّا، ليس فقط تاريخه الشخصيّ القديم، بل كلَّ التّاريخ ودروسَه، لأَدرَك كم أنّ الكنيسة مَرَّت باضطهادات وحروب، مآسٍ، وشهود واستشهادٍ. فإنّ الكنيسة عاشت حروباً مباشرة، ومجازر قبل عهد الأتراك وفيه وبعده، وما زالت حتّى اليوم، تُعاني وتعيش في وسط الاضطهادات. ولكنَّ إيمان الكنيسة ما زال صامِداً في أبنائها، أساقفتها، كهنتها، رهبانِها وراهِباتها، وكافة المؤمنين المنتشرِين في كلِّ العالم. ولكننّا نَعلَمُ أيضاً أنّ هناك بعض المؤمنين الّذين يسعون إلى عصرَنَةِ إيمانِهم، حسب الجوِّ الحديث والظرف الحديث المليء بالعجائب والغرائِب. إنّ التَمَسُّك بالإيمان يَحفَظُ المؤمِن. إنَّ الله، مِن خلال صلاة رئيس الطائفة وشفيعها، مِن خلال صلاتهِ عندما كان حيّاً، يُعطيه النِّعمة للمحافظة على كنيسته وأبنائه.
لذلك عندما ننسى هذه الحياة التّاريخيّة، نعتقد أنّ كلَّ شيء سوف ينتهي مع الوقت وينطفئ، وأنّ الحديث سيَحُلّ محلّ القديم بينما المثل الشائع يقول:”حافظ على قديمِك، فجديدك لن يدوم لك”. كذلك عندما يُعصرِن الإنسان إيمانه، سيكتشف فيما بعد أنّ كلّ النظريات والأخلاقيات الحديثة لن تؤدي إلاّ إلى الخراب النّفسي، الشخصيّ، العائليّ وحتّى إلى خراب الكنيسة.
إنّ الرّبّ أعطى هذه الأرض وهذا الشعب، مارون، إنساناً متمسِّكاً بالإيمان، وهو سيكون دعامة عبر القرون ليحمِل غيره.كما هي الحال مع مار بطرس الّذي حمل على أكتافِهِ كنيسة روما وما تعنيه كنيسة روما. وذلك ليس لأنّ اسمُه بطرس، وليس لأنّه عبر التّاريخ قد وجدوا نظريّات وحلولاً ليُحافظ الرّسل على ذاتهم، بل لأنّ الرّبّ أراد أن يُحافِظَ على بطرس وقال له: “أبواب الجحيم لن تقوى عليكَ”. أبواب الجحيم لن تقوى على بطرس، هذه الصخرة التّي بنى المسيح عليها كنيسته. لذلِك أرسل الله مارون وبنى عليه كنيسته.
وهذه الكنيسة المارونيّة لن تزول ولن تُدَّمَر، لكن المطلوب أن يُدرِك أبناؤها قيمة هذا البناء الّذي أعطاهم إيّاه الله، وثبَّتَهم بإيمانٍ صلبٍ. نحافِظ على إيماننا عندما نعيشُه في صِغَرِنا كما في كِبَرِنا، لكي نثبت نحن، ولكي نكون مثالاً لأولادِنا ليَرَونا ثابتين. فإن ضاع أولادنا في مرحلةٍ معينة، أو في فترة مُعينة، عادوا ليكتشفوا بعد انقضاء تلك المرحلة الثبات في الإيمان، فيعيشوه من جديد، ويعرِفوا أنّهم أبناء هذا الشعب، هذه الكنيسة، أبناء المسيح الّذي ثَبَّتَنا في هذه الأرض، فنثبُت ويثبت أولادنا ويثبت مستقبل الكنيسة. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.