عِظة للمونسنيور رافايل طرابلسي،

الذكرى الرابعة لانطلاقة جماعة “أذكرني في ملكوتك” في كنيسة مار مارون- الحدت.

زمن الصّوم الكبير هو ربيع النّفوس،

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

أيّها الإخوة والأخوات المباركون،

زمنُ الصّوم الأربعيني الكبير، الّذي يدعوه الآباء القدِّيسون المتوشِّحون بالله ربيعَ النّفوس، إنّما هو رَوضةٌ غنّاء نجني منها ثمار الفضائل، ونموت فيها عن ملَّذات الحياة وإنسانِنا العتيق الترابيّ، لنحيا حياةً جديدةً، نافِضين عنّا سُبات الخطيئة والتّهاون.

ومِن منافِع الشَّوط الصّياميّ المبارك، أيّها الإخوة، أنّه يُنعِش في أفئِدتنا ذِكرَ الموت، ليوقظَ فينا التأهُّب الدائمَ لاستقبال خَتنِ النُّفوس، وعروسِ البرايا، يأتي في ميعادٍ لا نخالُه البَتة، ليُجريَ الـحُـكمَ العادل الّذي تستوجِبُه أعمالُنا. وقد أشار إلينا آباؤنا الأبرار بضرورة استِذكار المنايا، وتجنيدِ القِوى لملاقاة الدّينونة الرهيبة بضمائر نقيّةٍ، وقد وَضَعوا في سبيل ذلك الأسفارَ النفيسة كمِثِل كتاب “الاستعداد للموت” للقدِّيس ألفونس دي ليغوري، وميامرِ التعزية الّـتي خلَّفها لنا في غير مكانٍ لؤلؤةُ بلاد الشَّام، قدِّيسُنا الـمُلهَمُ، يوحنّا الدِّمَشقيّ.

ولـمّا كان الصَّوم الأربعينيُّ الكبيرُ تهيئةً لحدثِ استذكارِ وتأوينِ موتِ المخلِّص وقيامتِه الثُّلاثيّةِ الأيّام، فقد حصَل الموتُ الممقوتُ قديمًا، على ما يَرى الدِّمشقيّ، مُحاطًا بالتَّسابيح، ومُعلنًا سعيدًا، إذ إنَّ نهاية حياةِ عبادِ اللهِ الأرضيّة والحَسَنةِ الإرضاءِ لديهِ، تَضمَنُ لهم قَبولَهم في فردوسِ النَّعيم، حيث يتلألؤون كنجومِ الثُريّا في رِياض الخُلد وفردوسِ الغِبطة العادمةِ الذبولِ والفناءِ.

وأمّا القدِّيسُ يوحنّا الذهبيّ الفمّ، فيُذكِّرنا في عظةٍ صياميّةٍ تَحدَّثَ فيها عن يومِ الدينونةِ الـمُخيف، أنّه وَجُبَ علينا أن نتذكَّر حسنًا أنَّ الّذينَ فعلوا الصّالحات يُطوَّبون – دون سواهم – ليُقوموا إلى الحياة الأبديّة، ويرِثوا الـمُلكَ الـمُعدَّ لهم منذ إنشاء العالم. ويُضيف قائلاً: “لا نُضيعنَّ وقتَ الإصلاح، ولنُثبِتّ نفوسَنا بالأعمال الصّالحة والإحسان… ولنُزيِّن أنفسَنا بالعفاف، ولنتمسَّك بالجوهرة الفائقة الثمن، ألا وهي وديعةُ الإيمان، ولنُرضِ الديّانَ القائل بلسان النبيّ حزقيال: “إنّي لا أُسَرُّ بموت الخاطئ بل اِرجِعوا واحيَوا” (حزقيال 18: 32). إنَّ الله – يقول الذهبيّ الفمّ- حين هدَّد أهل نينوى، رحِمَهم، وحين سكتَ عن أهل سادوم، أهلَكَهم…. إنّه يُريد إلغاءَ الجحيم وإقفالَ دياجير الظلمة، موزِّعًا على هامات أحبّائه أكِلّة المجد والظفر، قائلاً لهم: “تَعالوا يا مُباركي أبي، رِثوا الـمُلكَ الـمُعدَّ لكم منذ إنشاءِ العالم”. (متّى 25: 34).

فلنجتنِ يا إخوةُ الفضائلَ، صانعين مِن رحيقِ أزهارِها عسلاً يغتذي به قلبُنا، ولنُلقِ عنّا ثِقل الأدناس، ولنستفِد من زمن الصَّوم لنَجوع إلى الخير والصَّلاح وإلى الله والقريب، مُتسامّين بجناحَي الإمساك والصّلاةِ إلى ذُرى المراقي الروحيّة، وواضِعين نُصبَ أعيُنِنا الباقياتِ والخالداتِ، ومُزدَرين بالفانيِات والوقتِيات، حتّى نحظى بالسّعادة الأبديّة، صُحبةَ الطغَمة القُدسِيّة من الأبرار والراقدين، الّذينَ أتموّا الجهاد الحَسَن، وسبَقونا إلى مراتِع النُّور، ونُصلّي اليوم لأجلهم في هذه الخدمة اللِّيتورجيّة الإلهيَّة.

دُعاؤنا إلى البارئ تعالى، الّذي حطمّ المتارسَ الدهريّةـ وقام ناهضًا من الرَّمس في اليوم الثالث – كما وعدَ وقال- أن يمنحَنا زمانًا مؤآتيًا لتوبةٍ نصوح، وأن يغسِل خطايانا بدمه الذكيّ، نحن الّذين نئِّن تحت وطأة البرصِ الروحيّ، ويُسكن موتانا في مكانٍ نَضِرٍ، صُحبةَ كوكبة القدِّيسين المتمتعِّين معه في الكنيسة المنتصرة، ويُفيضَ شآبيبِ رحمتِه ورضوانه على الرَّهبانيّة الأنطونيّة العامِرة بشخصِ رئيسِها العامّ الساميّ الوقار، وخادم هذه الرعيّة الأكرم المفضال، والآباء الرُّهبان الحاضرين معنا في هذا القُدَّاس، ويُنمِي عمل “أذكرني في ملكوتك” الّتي تحتفل بمرور أربعِ سنواتٍ على نشوئِها في هذه الرعيّة المحروسةِ بالله، وأن يوَسِّع انتشارَها في كلِّ رعايانا، لا بل في اصقاع ِالمعمورة طُرًّا، ويُبلسِم جراحَ الحزانى، ويتفقَّد المرضى والمهجرّين والأسرى، ومَن تكدُّهم أنواءُ هذا الدّهرِ الحاضر، ويتعهدَّ بيمينِه القديرة شرقَنا العربيّ الحزين، بشفاعةِ العذراء مريم، سيِّدةِ الرّجاء، والقدِّيس مارون، ولتَحِلَّ علينا بركاتُ الله القدير، الآب والابن والرّوح القدس، له المجدُ إلى الأبد، آمين.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp