سِرّ الموت،

عِظة للأب ميلاد أنطون المريميّ،  خادم كنيسة سيّدة الورديّة – زوق مصبح، كسروان.

باسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في هذا المساء، نحتفل بالذبيحة الإلهيّة مع جماعة “أذكرني في ملكوتك”، فنصلِّي معًا من أجل راحة أنفس جميع الموتى المؤمِنِين الراقدين على رجاء القيامة؛ كما نقدِّم هذه الذبيحة تعبيرَ شكرٍ لله على الذكرى السنويّة الأولى لانطلاقة الجماعة في رعيّتنا.

إنّ سرّ الموت لا يُفهَم إلّا في ضوء سرّ القيامة. في الذبيحة الإلهيّة، على اختلاف ليتورجيّاتنا الكنسيّة، نصلِّي إلى الله قائلِين إنّنا نتذكَّر موته وقيامته مِن بين الأموات. إذًا، إنّ هذين السِّرَّين يكمِّلان واحدهما الآخر إذ لا يمكننا الكلام عن القيامة من دون الكلام عن الموت. في كلامه عن موته وصلبه، قال الربّ يسوع: “لقد حانت السَّاعة الّتي يُمجَّد فيها ابن الإنسان” (يو12: 23). يتمجَّد الله حين يُحقِّق الإنسان مشيئة الله الآب في حياته، حتّى ولو قادَه ذلك إلى بَذلِ حياته، فلا يعود الموت حينها موتًا بل رُقادًا.

في ليتورجيّاتها، تُطلِق الكنيسة على الموت أسماءً عديدةً، ومنها: أوّلاً، الرُّقاد. في كتاب الجنّازات المارونيّة، تُصلِّي الكنيسة إلى أبنائها المنتقلِين من هذا العالم إلى الملكوت، مستخدِمةً عبارة: “إخوتِنا الراقدين على رجاء القيامة”. كما ينتقل النَّائم من الواقع إلى الأحلام، من خلال نومِه ولا يعود إلى الواقع إلّا بعد استيقاظِه، كذلك يَنتَقِلُ المؤمِن الرَّاقد على رجاء القيامة من حالةٍ إلى حالةٍ من خلال الموت الجسديّ، وكأنَّه في حُلمٍ ينتهي عند موته الجسديّ. في هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول، إنَّ الإنسان في هذه الحياة هو “كَمَن ينظُر في المرآة”، ولن يتمكَّن من رؤية الحقيقة إلّا حين يُعاين وجه الله وجهًا لوجه في الملكوت، أي بقيامته من الموت.

كما تُطلِق الكنيسة على الموت اسمًا آخر، وهو “النِّياح”. هناك عدَّة كنائس بُنِيَت واتَّخذت العذراء “سيِّدة النِّياح” شفيعةً لها، كما أنّ هناك عدَّة قرى لبنانيّة تُدعى “نيحا”؛ وفي صلواتنا السُّريانيّة، في رُتبة وَضع البَخور، نقول: “نيُوحو لَعَنيدِه مَهَيِمْنِه”. إنَّ النِّياحة تعني الراحة والرُّقاد، وبالتّالي فإنّ أمواتنا الرّاقدين قد ارتاحوا مِن عذاب هذا العالم، مِن وادي الدُّموع.
كما تستخدِم الكنيسة أيضًا تعبيرًا آخر للدَّلالة على الموت، وهو “العبور الفِصحيّ”: فكما عَبَرَ المسيح من هذه الحياة الأرضيّة الفانية، إلى الحياة الأبديّة الخالدة، بالموت والقيامة؛ كذلك أيضًا يَعبُر الإنسان من حالة الخطيئة إلى حالة النِّعمة بالعِماد، الّذي هو أحد أشكال العُبور الفِصحيّ. إنَّ الموت هو الفِصحُ الأكبر، ويُعبِّر اللبنانيّ عن هذا العبور من حالةٍ إلى أخرى، من خلال استخدامه بعض العبارات مِثل “فَشَخَ” للتَّعبير عن حالة عبور الإنسان من مكانٍ إلى آخر.

في صلواتِنا لإخوتِنا الراقدِين على رجاء القيامة، نرُكِّز على طلب الغفران من الربّ لأمواتِنا على خطاياهم الّتي ارتكبوها في هذه الفانية. لذلك نُصلِّي في بداية صلاة الجنَّار المسيحيّ، مزمور:”ارحَمني يا الله”. في صلاتها للرّاقدين، تُصلِّي كنيسة الأرض، الّتي تتألّف من المؤمِنِين الأحياء في هذه الأرض، إلى الله طالبةً منه الغفران للمنتقِلين مِن بينها.

اليوم، يُطرَح علينا السؤال: لماذا الموت؟ أو بعبارةٍ أخرى، لماذا الحياة؟ إنَّ الموت هو جزءٌ لا يتجزّأ من الحياة، ولذلك اختبر الربّ يسوع الموت، وإلّا لم يكن هناك من ضرورة ليختبره الربّ. إنَّ الربّ قد شَرِبَ كأس الموت، وأطلق عليها اسم “ساعة المجد”. لماذا الحياة؟ إنَّ الغاية من وجود الملائكة هي خِدمة الله في ملكوته، أمّا الغاية من وجود الإنسان فهي مُشارَكَتُه في المجد في الملكوت، حسب المفهوم اللّاهوتيّ. وبالتّالي فإنّ هذه الحياة، أكانت قصيرةً أم طويلةً من حيث عدد السِّنِين، ما هي إلّا فرصةٌ علينا انتهازها، للوصول إلى الحياة الأبديّة.
في هذا المساء، نصلِّي من أجل جميع الموتى المؤمِنِين ونقدِّم لله الآب، ما يعجز الآب عن رفضه، ألا وهي ذبيحة ابنه الوحيد على الصَّليب، الّتي نعيشها في كلّ قدّاس. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة بامانةٍ من قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp