لأن خلاصه قد اقترب،

عظة الخوري يوحنا داوود في كنيسة سيّدة العناية – البوشريّة

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين

في هذا النّص الإنجيليّ، ينقل يسوع إلينا بُشرى سارّة، وهي أنّ خلاصه قد اقترب. إنَّ هذه البشرى تحمل الرّجاء إلى كلّ إنسان حزينٍ ومتألِّم، خاطئٍ ومُتعبٍ من أثقال الحياة.
إنّ إدراك المؤمنين بأنّ خلاص الربّ أصبح قريبًا، مِن شأنه أن يُولِّد فيهم الرّجاء، الّذي يمنحهم نعمة الصّبر والتحمُّل لانتظار مجيء الربّ الّذي أصبح قريبًا. إنَّ مشكلة الإنسان تكمن في كونه يلجأ إلى الزّمن الحاضر ليقيس اقتراب الخلاص أو بُعْدِه: فمثلاً حين يقول الإنسان إنّ هذا الأمر سيتمّ قريبًا، فهو يعني أنّه سيتمّ الآن، أو بعض لحظاتٍ قليلة. ولكنّ الله هو خارج الزّمن، وبالتّالي فإنّ زمن الله مختلف عن زمننا الحاضر.

وهنا السؤال يُطرَح: أمام اختلاف زمننا عن زمن الله، ما الّذي سيشجِّعنا على الاستمرار بالتمسُّك بالرّجاء؟ إنّ ثقتنا بوعد يسوع الّذي قال لنا إنّ السّماء والأرض تزولان وكلامه لا يزول، هو دافعنا للاستمرار بالتمسُّك برجائنا المسيحيّ. إنّ صدى كلمات يسوع سيبقى حاضرًا في قلب المؤمن، فيمنحه الصَّبر ليتحمّل كلّ الضِّيقات الّتي تواجهه في هذه الحياة، ويذكِّره بوعد الله للمؤمنين به باقتراب الخلاص. لذا، على المؤمن أن يجدّد ثقته بالله وبوعده له، فيسترجع في فكره خبرة الخلاص في الكتاب المقدَّس، ومن ثمّ خبرة الآباء والأجداد القدِّيسين.

من خلال قراءته خبرة شعب الله وحصوله على الخلاص في الكتاب المقدَّس، يكتشف المؤمن أنّ الله صادقٌ في مواعيده، إذ قد حقّق لشعبه كلّ ما وَعَدَهم به. وبالتّالي، عندما يَعِدنا الله بأمرٍ ما، فهذا يعني أنّ ذلك سيتحقّق فعلاً. إنّ الله يعدنا اليوم أنّ خلاصه قريب، وبالتّالي هو سيحقّق هذا الخلاص في المكان والزّمان اللّذين يحدِّدهما هو وحده. إنّ الإنسان لم يُعطَ أن يعرف لا الوقت ولا المكان الّذي سيتمّ فيه هذا الخلاص، لذا عليه أن يكون مستعدًّا على الدّوام وحاضرًا له في كلّ زمان ومكان. إنَّ الاستعداد للخلاص، يكون حين يضع المؤمِن ذاته بكليّتها في حضرة الله دائمًا قائلاً له: هاءنذا يا ربّ في انتظار وشوقٍ لخلاصك. على المؤمن أن ينتظر خلاص الربّ بفرحٍ ورجاء، لا في حالة من اليأس، فاقتراب خلاص الربّ هو مدعاة للفرح. إنّ رجاء المسيحيّ ثابتٌ، لا يتزعزع، لأنّه مبنيّ على أساسٍ متينٍ هو الربّ يسوع. وحين يتعرَّض المؤمن للشكّ، عليه أن يُسارِع إلى الله قائلاً له: “أعِن يا سيِّدُ قلّة إيماني، فأنا إنسان ضعيف”.

نحن على ثقة تامّة بالربّ أنّه سيُحقّق كلّ ما وَعَدنا به، لذا فَنَحْنُ نترجم هذه الثِّقة من خلال اجتماعنا في الخميس الأوّل من كلّ شهر لنُقدِّم الذبيحة المقدَّسة الطاهرة، لأجل راحة نفوس كلّ الراقدين من بيننا على رجاء إيمانهم بالربّ، أكنّا نعرفهم أم لا. إنّ ذبيحتنا تكون مستجابة عند الربّ ومقبولة، إن قدَّمناها بفرحٍ من أجل موتانا، لا بحالة من اليأس والحزن على فراقهم لنا، فنحن نعلم أنّهم لا يزالون أحياء مع الربّ، لأنّنا نؤمن بأنّ الله صادقٌ في ما وَعَدنا به حين قال لنا: إنّ مَن سمِع كلامي وآمن بِمَن أرسَلني له الحياة الأبديّة، ولا يأتي إلى دينونةٍ، بل ينتقل إلى الحياة الأبديّة. عليّ أن أشارك في هذه الذبيحة الإلهيّة الّتي نذكر فيها جميع موتانا، لنذكُرَهم بفرح، لأنّهم انتقلوا من بيننا ليكونوا في حضرة الله، ولكن لا يمكننا أن نُنكر أنَّ طبيعتنا البشريّة ضعيفة، لذا هي تحزن لأنّها ما زالت على المستوى العاطفيّ البشريّ. فلنطلب من الربّ في صلاتنا أن يساعدنا على ضبط حزننا البشريّ على فقدان أحبّائنا، وأن يُوجّهه توجيهًا إيمانيًّا فنتمكّن من أن نكون شهودًا حقيقيّين على قيامة الربّ يسوع من بين الأموات.
إخوتي، إنّ الربّ يدعونا اليوم، إلى التجذّر أكثر فأكثر في رجائنا به، كي نتملئ فرحًا وابتهاجًا. إنّ المسيحيّ لا يستطيع أن يكون إنسانًا حزينًا، إذ عليه أن يشهد للبشرى السّارة، أي الإنجيل، أمام الآخرين. إذًا، إنّ الإنجيل هو بشرى سارة، وبالتّالي على المؤمِن أن يؤكِّد على ذلك قولاً وفعلاً، أمام الآخرين. إنّ الإنسان يتعرَّض لخسائر كبيرة ومتنوعة في حياته اليوميّة، غير أنّ الربّ يدعو المؤمِن في وَسطِ هذه الـمِحَن إلى الشّهادة لإيمانه، حين يُجابِه حزنه بالفرح النَّابع من رجائه بالقائم من بين الأموات والمنتصر على الشّر.
أمام فقدان الأعزّاء، يُقسَم البشر إلى نوعَين: مِنهم مَن يسعى إلى التغلُّب على حزنه من خلال تجذّره في الرّجاء النّابع من إيمانه بيسوع المسيح، ومنهم مَن يغرق في حزنه على الفقيد، فيعيش هذه المرحلة الصَّعبة على المستوى البشريّ العاطفيّ، دون التسلُّح بإيمانه. إنّ بولس الرّسول حذَّرنا من التوقّف عند الحزن أمام هذه الخسارة البشريّة قائلاً لنا إنّه يحقّ لنا أن نبكي إثر فقدان أحد الأحبّاء، ولكن على حزننا ألّا يكون كَمَن لا رجاء لهم، بل كَمن لهم رجاءٌ، فرجاؤنا هو يسوع المسيح، وهذا الرّجاء لا يخيب أبدًا.
إخوتي، إنّنا نحن المؤمنين بالمسيح، طينةٌ ضعيفة كما سائر البشر، غير أنّ الله في يوم معموديّتنا، يجعلنا ذَوي طينة أخرى، طينة غير فاسدة، هي طينة المسيح يسوع. إنّنا في المعموديّة، نلبسُ المسيح، فحذارِ إخوتي، أن تجرَّنا صُعوبات هذه الحياة إلى خلع هذا الثوب، ثوب المسيح الّذي لبسناه في يوم عِمادِنا. إنّ يسوع قد حذّرنا مِن أن يتحوّل هذا النُّور الّذي فينا إلى ظلام، لأنّه حينها سيكون ظلامًا دامِسًا.
في زمن ميلاد الربّ يسوع، نتحضّر أسبوعًا بعد آخر، لاستقبال السيِّد الربّ في وَسَطنا. وهنا نطرح السؤال: كيف نستعدّ نحن المؤمنين بالمسيح، لاستقباله في وَسَطِنا؟ على كلّ فردٍ منّا أن يُعطي جوابه الخاصّ على هذا السؤال. لا يجب أن يكون استقبالنا للمسيح يسوع بالزِّينة الخارجيّة، أي من خلال صُنعِ المغائر ووضع أشجار العيد المزيّنة، إذ إنّ غير المؤمنين يفعلون ذلك أيضًا. ويبقى السؤال: كيف أستعدّ أنا كمؤمِن لهذا الحدث الخلاصيّ؟ إنّ حدث الميلاد، ليس حدثًا تاريخيًّا تَمَّ في قديم الزّمان، بل هو حدثٌ يتمّ اليوم والآن. في هذا الزّمن أنا مدعوّ أكثر فأكثر إلى الإصغاء لصوتِ الله، والعمل بحسب مشيئته القدُّوسة. لذا إخوتي، فلنفتَح آذاننا، وقلوبنا وأفكارنا ونقدِّمها جميعها للربّ، فيتمكّن من مَلئها بنِعمِه ومواهبه. أمام لحظات الحزن والخسائر الموجعة، علينا أن نتذكَّر على الدّوام أنّ اتِّكالنا هو على الربّ الّذي يُقوِّينا، ويساعدنا على تحمّل كلّ الآلام ومواجهتها، فَنُرتّل مع صاحب المزمور قائلين” أنا عالِـمٌ على مَن اتَّكلتُ”. إنّنا نتَّكل على الربّ، إذ إنّنا نؤمن بوعوده لنا، ولذا علينا أن نوجِّه حزننا أمام كلّ خسارة توجيهًا إيمانيًّا، فنشهد على أنّنا أبناء الله في طريقة مواجهتنا لهذه الصُّعوبات.
إخوتي، بهذا الرّجاء المسيحيّ، نتابع احتفالنا بهذه الذبيحة المقدَّسة الطّاهرة، ونرفع الصّلاة بفرح من أجل راحة نفوس كلّ الراقدين المنتقلين من بيننا إلى الحياة الأبديّة. آمين.

 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp