لتكن أنظارنا متجهةً نحو السماء،
الأب ميشال عبود الكرملي – كنيسة مار يوسف – المطيلب.
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
بدايةً، أتوجَّهُ بالشُّكر إلى الأب جان وإلى جماعة “اذكرني في ملكوتك” الذين قاموا بدَعوتي للاحتفال بالقدَّاس الإلهي في المطيلب اليوم، ونحن نحتفل بعيدِ الصعود. وعيد الصعود هو عيدُ الانتظارِ حتى العنصرة، إذ طلبَ الرَّبُّ يسوع من تلاميذِه أن يمكثوا مُنتظَرين تَلَقِّي الرُّوح الموعود، فانتظَرُوا أيَّاما تسعة حتَّى كانت العنصرة في اليوم العاشر، أي كانَ الاكتمال. لذلك نحنُ نُصلِّي أحياناً الصَّلاة التّساعيّة، نسبةً إلى حالة الانتظار التي عاشها التَّلاميذ لتسعةِ أيَّامٍ حتى الاكتمال. والصَّلاة التّساعيَة تُقامُ على نيَّةٍ مُعيَّنةٍ، ليُدرِكَ المـــُصلِّي أنَّهُ يعيشُ في حالةِ انتظارٍ، وهذا ما نحياهُ في الأعياد الكبرى، كعيد الميلاد وعيد السَّيِّدة وغيرها من الأعياد التي نُقيم فيها التّساعيّات. وعندها نفهمُ أنَّنا دوماً في حالةِ انتظارٍ لنعيشَ مع الآبِ السَّماويِّ الذي هو الحياة الأبدية.
وإذا قلنا إنَّ المسيح قد صعدَ إلى السَّماء، ولكن كيف؟ كلَّما تطوَّرَ الإنسان كلَّما اكتشفَ أنَّ الأرض أشبهُ بحبَّة رملٍ صغيرةٍ تائهةٍ بين مجرَّاتٍ كبيرةٍ، وأنَّ الكون عظيمٌ جدّاً، ولكن إلى أين صعدَ الرَّبُّ؟ وهنا علينا أن نُدرِكَ أنَّ السَّماءَ ليست بمكانٍ، بل هي حالةٌ. وكلمةُ “سماء” مشتقَّةٌ من الفعل “يسمو”، أي “يعلو” وبالتَّالي فإنَّ اللهَ أكبرُ من الأرضيَّاتِ التي حولنا. أي عندما يقولُ لنا الكتابُ المقدَّسُ إنَّ يسوعَ “رفعَ عينَيْه نحو السَّماء”، أو “صَعِد إلى السَّماء”، فهذا يعني أنَّهُ قد خرجَ من الحالةِ الأرضيَّةِ. وهنا نُدركُ أنَّ يسوعَ قد صعِدَ إلى السَّماءِ وسكنَ قلوبَنا التي تحوَّلَت إلى سماء، لأن السَّماءَ هي حيثُ يسكنُ الله وخاصَّةً في قلبِ الإنسان، وعلينا أن نحيا هذا الأمرَ في عيدِ الصُّعود دوماً.
وبالرَّغم من أنَّنا جميعاً سنموتُ يوماً من الأيَّام وسنتحوَّلُ إلى ترابٍ، إلَّا أنَّ الله لم يخلقْنا لنكونَ تراباً في القبور بل خَلَقَنا أولاداً للسَّماء، لأنَّنا أولادُهُ ولذا قال يسوع: “حيثُ أكونُ أنا تكونون أنتم”.
وعيدُ الصُّعود يجعلُنا نُدركُ أنَّنا نحيا للسَّماءِ لا للأرضِ، ويسوعُ عندما نزَلَ إلى الأرض أمضى حوالي ال 33 عاماً كما يُخبرنا الكتاب المقدَّس، وقد بدأَ برسالتِهِ عندما أصبحَ عمره 30 سنةً تقريباً، لكنَّهُ لم يذكرْ لنا سنواتِ الرِّسالة الثَّلاث حرفيَّاً، ولكن – إنجيل يوحنَّا على سبيلِ المثال – يُخبرنا أنَّ الرَّبَّ يسوع قد صعدَ إلى عيدِ الفصح مراتٍ ثلاث، وقُبِضَ عليه وصُلِبَ في العيدِ الثَّالث. وفي مشوار ال 33 سنة، لم يضمحلَّ يسوع، بل صعِدَ بجسدِهِ الممَجَّد أي أخذَ إنسانيَّتَنا، وبالتَّالي بِتْنا نعرفُ أنَّنا سنكونُ معه فوق. ونحن مدعوُّون لنَسمو، وهذا السُّمو هو لئلَّا نتعلَّقَ بأمورٍ صغيرةٍ، لأنَّنا إن تمسَّكنا بها لن نتمكَّنَ من السُّموِّ والوصول إلى ربِّنا، ويسوعُ قال لنا: “لا تعبدوا ربَّين”، وهذا لا يعني ألَّا نستخدمَ المالَ مثلاً، بل أن تبقى قلوبُنا متَّجهةً إلى فوق وألَّا نعبدَ الأمورَ الأرضيَّةَ.
ونحنُ في جماعة “اذكرني في ملكوتك” نُركِّزُ على أمرٍ أكثرَ من غيرِهِ: “اذكرني متى أتيتَ في ملكوتِك”، وفي الصَّلاة الرَّبيَّة نقولُ: “ليأتِ ملكوتُكَ”، أي حيثُ أنتَ الملك، وعندما يكون الله الملك تكونُ الكلمة له. ونحن في كثيرٍ من الأحيان نعيشُ الفصام، إذ يُعلِّمُنا العالمُ البغضَ والحسدَ في حينِ يدعونا اللهُ إلى السُّموِّ والتَّرفُّع والمحبَّة، ونحنُ علينا أن نسمعَ إلى اللهِ مع مريم التي تقولُ لنا في نهايةِ الشَّهر المريمي: “اسمعوا ما يقولُهُ لكم”. وفي كلِّ مرَّةٍ يتوجَّبُ علينا فيها أن نتَّخِذَ قراراً مُحيِّراً لنا، علينا أن نتوقَّفَ ونسألَ أنفُسَنا عن إرادةِ اللهِ وتوجيهِه لنا، وعندها نفهَمُ أنَّ كلَّ خيرٍ هو كلمةُ الله، ونشعرُ بأنَّنا مُترفِّعون.
وعلينا أن نخلقَ قضيَّةَ السَّماءِ في حياتِنا، وقضيَّةُ السَّماء هي كلُّ ما فيهِ خير. فالولدُ يكبرُ على ما يتربَّى عليه، ويبقى في لا وَعيه، إلا أنَّ المشكلة هي أنَّ المجتمع يغرسُ فينا بذوراً وإغراءاتٍ غيرَ مُستحبَّةٍ، ولكي نتخلَّصَ منها علينا أن نتعلَّم أن نختليَ بذواتِنا يوميَّاً، أن نختليَ مع الله السَّاكن في قلوبنا ونتأمَّلَ في كلمتِهِ ونصلِّي، فنشعر أنَّنا ننتمي إلى فوق. وهذه الأمور هي التي نُربِّي عليها أولادَنا ونبني على أساسِها عائلاتِنا ليكونوا للسَّماء. وفي هذا الصَّدد، أودُّ أن أذكر لكم مثلاً عن سيِّدةٍ توفي ولدُها وهو في عامِهِ الجامعيِّ الثَّالث، وكان كلُّ ما يُعزِّيها هو الرَّجاء بأنَّها قد ربَّتِ ابنها للسَّماء (أنطوني). ونحنُ أيضاً علينا أن نُصلِّي، ونسألَ أنفسَنا، هل نرغبُ بأن نكونَ في السِّماء في حين يكونُ أبناؤنا في جهنَّم؟ علينا أن نردَّ أبناءَنا كما ردَّت القدِّيسة مونيكا ابنها القدِّيس أوغسطينوس بصلاتِها، وهكذا عندما نُصلِّي نكسبُ صلاتَنا ونكسبُ أنَّنا نُصلِّي لغيرِنا. ونحنُ نطلُبُ من الأهل باستمرارٍ أن يُعلِّموا أولادَهم الصَّلاة، لأنَّهم في النِّهاية سيكسبون لأنَّ الأبناء يُصلُّون أولاً لآبائِهم، وعندها نحيا السَّماء حقاً، ونحيا عيدَ الصُّعود يومياً لأنَّنا نترفَّع بقلوبِنا لنكونَ مع الرَّبِّ، وهذا ما أطلبُه من الرَّبِّ اليوم، هو الذي صعدَ بنفسِه وجسدِه وبات جسدُه ممجدَّاً.
علينا -كما يطلُبُ مِنَّا مار بولس- أن نُبقِي عيونَنا وأفكارَنا متَّجهةً إلى حيث يجلسُ المسيح عن يمينِ الآب، وأن نُدركَ أنَّنا أبناء السماء، موقِنين أنَّنا عندما نُصلِّي يومياً “السَّلام عليك يا مريم… الآن وفي ساعة موتِنا” نحن نطلُب من العذراء مريم أن تكونَ حاضرةً مَعَنا في ساعةِ موتِنا كما كانت حاضرةً ساعةَ موتِ ابنها يسوع.
وعلينا أن ندرك أنَّ الصَّلاة تسمو بحياتِنا، وتُغيِّرنا داخليَّاً وخارجيَّاً، وبالتالي لن نندمَ على أيَّة لحظةٍ أضعناها مع الله، لأنَّ من يُضيِّع وقتَه مع الله هو الرَّابح لأنَّ الله هو الحياة، لهُ المجد إلى الأبد، آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.