محاضرة للأباتي سمعان أبو عبدو،
الرهبنة المارونيّة المريميّة،
“لذلك كونوا انتم أيضاً مُستعدّين” (متى44:24)
“فاسهروا إذاً، لأنّكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة” (متى25/13).
يقول لنا يسوع المسيح إنّه علينا أن نكون مستعدّين للذهاب اليه. وغالباً ما نكون مُنهمكين في شؤون الدنيا التي تصرفنا عن الاستعداد ليوم الآخرة.
المسيح يلفت نظرنا الى وجوب الاستعداد لمجيئه الأخير، الى ساعة يدعونا اليه لنكون الى جانبه إذا كنّا من الصالحين في هذه الدنيا. ولمّا كنّا لا نعرف في أي وقت سيأتي، نميل ان نشغل ذواتنا بأمور ملحّة ومستعجلة. وهناك الكثير من الأمور الملحّة، لكنها لا تتقدم على الأمور المهمّة: مثلاً الإعداد لمجيء المسيح، وهو أمر لا نشعر دائماً بأنه ملحّ.
يحثنا الرّبّ على السهر، ويشجّعنا على الثبات في الايمان والسهر الدائم على الهوية والرسالة. فالموت حتمي لكل بني البشر، لكنه عبور الى الحياة الجديدة بالمسيح الذي قام من بين الأموات. “فكما انه بآدم يموت الجميع، كذلك في المسيح سيحيا الجميع، هو الذي قام من بين الأموات، وكان باكورة الراقدين” (اكور 15/20و22).
يدعو القدّيس بولس الرسول في رسالته إلى فيليبي 3/17-4/1 لحسن الاستعداد أو للنهاية الشخصية التي “سيغيّر فيها المسيح مخلّصنا”، عند مجيئه الثاني بالمجد، “جسد هواننا، فيجعله على صورة جسد مجده وفقاً لعمل قدرته”(فيل3/21). اما الاستعداد فيقتضي في الاساس ان ننظر الى الغاية الأخيرة من وجودنا أي “مدينتنا التي في السماوات” (فيل 3/20)، وبطريقة غير مباشرة يدعو الى الاستعداد بتجنّب مسلك الذين “يسلكون كأعداء لصليب المسيح، أولئك الذين إلههم بطنهم، ومجدهم عارهم، وفي امور الأرض همّهم، هؤلاء عاقبتهم الهلاك”(فيل3/11-12).
في ضوء هذا الكلام، يكون الاستعداد للنهاية الشخصية دخولاً دائماً في الشركة مع المسيح، عبر مراحل الحياة على الأرض، لكي تتواصل هذه الشركة عند الموت، “فنكون في اتحاد مع المسيح”(فيل 1/23).
إنّ الكنيسة تقدّم وسائل الاتحاد بالمسيح: كلمة الانجيل والتقليد الرسولي والتعليم، ونعمة الاسرار والقوانين التي تنظّم حياة المؤمن وتقوده الى خلاص نفسه.
انتظار مجيء الربّ، في نهاية حياتي الشخصية، هو الذي يضيء مسيرتي الوجوديّة، ويدفعني الى المسلك الصالح، والى اتمام الواجب اليومي بحكمة وامانة. كلّ مسؤولية في العائلة والمجتمع والكنيسة هي وكالة من الله، بحسب نظام الخلق، لتوزّع عطاياه لشعبه. بل الحياة الشخصيّة بحدّ ذاتها وكالة لحفظها في بهاء صورة الله، ولجعلها في خدمة الأخوة بما قسم الله لها من “مواهب وخدم وأعمال”، على ما يقول بولس الرسول. ثمة مثلّث لا ينفصم ولا ينقسم هو السيّد أي الله، والوكيل، والجماعة.
هذا السيّد لا يتحكّم ولا يتسلّط، بل يوفّر خيراته لجميع الناس، “الطعام لأهل بيته”.
الوكيل هو صاحب ثقة سيّده، وقد جعله وسيطاً بينه وبين أبنائه البشر. لا يسعه إلاّ ان يكون حكيماً وأميناً. الوكيل الحكيم هو الذي ينظر من منظار الله الى مسؤوليّته وواجبه، فيحسن تمييز الحاجات واختيار الوسائل الافضل لتلبيتها. والوكيل الأمين هو الذي يحافظ على وعده الاوّل وديناميته الاولى، تجاه سيّده وواجبه والجماعة ، متخطيّاً تجربة الرتابة وصعوبات الحياة والمسؤولية.
الجماعة هي شعب الله، كلّ انسان أيّاً كان لونه وعرقه ورأيه. إنّه موضوع عناية الله الذي “رتّب كلّ خيرات الدنيا لجميع الناس”، كما تعلّم الكنيسة وآباؤها.
هذا الوكيل الحكيم الأمين، إذا ظلّ في حالة انتظار لسيّده في يوم مجيئه، أي لساعة موته، فلا يسيء استخدام مسؤوليته وطاقاته وعطايا الله له، ينال ثوابه، يوم الدينونة، “فيقيمه سيّده على جميع خيراته”(متى47:24). أمّا اذا استغيب سيّده، وخرج من حالة انتظاره والامانة له، يفاجئه السيّد ويحكم عليه بالهلاك الأبديّ . الوكيل الحكيم والامين، حسب رسالة القدّيس بولس، هو الذي “يسلك في النور”. يسهر على مسؤوليته وواجباته، ويصحو أي يظلّ في حالة انتظار دائم لمجيء سيّده، فيعيش في الايمان والرجاء والمحبّة (1 تسا 8:5). فالإيمان هو القاعدة التي تنظّم تصرّفاته، والرجاء هو مبدأ الثبات والتقدّم في المسؤولية والواجب، والمحبّة هي الديناميّة التي تدفعه الى الأمام في التفاني والبذل.
“مجيء الرّبّ” المعروف “بساعة الموت” هو مفاجئ، لكنّه حتميّ “يوم الربّ ياتي كالسارق ليلاً. مهما كان من أمر يبقى الموت مكروهاً. ولكن، يجب قبوله بروح التوبة والتكفير، لأنّه “ثمن الخطيئة”، كما يقول بولس الرسول (روم23:6). فلو لم يخطأ الانسان، لما كان عليه أن يموت. الانسان يتألّم من الموت ويحزن. يسوع نفسه بكى لعازر صديقه عندما مات (يو35:11). لكنّ الايمان والرجاء يكشفان لنا وجهاً آخر من الموت. المسيح تحمّل “الخوف من الموت في ضوء ارادة الله ابيه” (مر36:14). مات “ليحرّر كلّ الذين كانوا مدى الحياة خاضعين لعبوديّة الخوف من الموت”(عبرانيين 15:2). إنّ السبيل الأفضل لتخطّي الخوف من الموت هو الاستعداد الدائم له بعيش كلّ لحظة من حياتنا في الحقّ والخير والجمال، وباعتباره مجرّد عبور من هذا العالم لملاقاة الآب بالمسيح في الروح القدس.
رسالة القدّيس بولس إلى أهل روما (9:12-12) تصف “المحبّة التي سنُدان عليها في مساء الحياة” كما قال القدّيس يوحنا الصليبي.
– هي المحبّة الأخويّة الصادقة التي لا غشّ فيها، والتي تلازم الخير، وتتجنّب الشّر.
– تبادر الآخر بالاكرام، باجتهاد وحرارة، وبروح العبادة لله، وبالرجاء والصلاة.
– تساعد الاخوة في حاجاتهم، وتستضيف الغرباء، وتشارك بروح التضامن المسؤول الفرحين والحزانى.
– تعيش الاتفاق مع الجميع، بتواضع وحكمة. فلا تبادل شرّاً بشرّ، بل تعتني بعمل الخير مع الجميع، وتسالم الجميع، ولا تنتقم من أحد، بل تترك كلّ شيء لحكم الله.
قراءة على ضوء لاهوت الانتظار،
زمن الصّليب في الكنيسة المارونية معروف بزمن الانسان في انتظار المسيح، مع اختبار عدم كفاية (insuffisance) الانسان لتحقيق مستقبله بحثاً عن حلّ يقود إلى المسيح. الانتظار هو البحث الجديّ عن حلّ لعدم الكفاية بأمل الوصول إليه. نجد عند الفيلسوف الفرنسيّ blondel في كتابه الشّهير L’action ) سنة 1893) تحليلاً فلسفيّاً لواقع الانتظار الّذي يعبر مراحل هي بمثابة تسع مَوجات: في الأولى يسعى فعل الإنسان إلى تحقيق علاقة متناغمة مع العالم الماديّ؛ في الثانية يبني الإنسان حياته الداخليّة؛ في الثّالثة يبحث عن اكتمال حياته الشخصيّة بحبّ الآخرين، في الرابعة يصبح الحبّ عنده ينبوعاً للحياة العائليّة؛ في الخامسة يعزّز ويغذّي الحياة في جماعة؛ في السادسة يتوق إلى تحقيق جماعة أكثر شموليّة؛ في السابعة يندفع إلى ما وراء آفاق الزمان والعالم، إلى تحقيق القِيَم الخلقيّة؛ في الثامنة يتشوّق دوماً إلى تجاوز حدود المكان والزمان؛ في التاسعة والأخيرة يبلغ الفعل إلى بعده الدينيّ، حيث اللقاء بنعمة المسيح الّذي هي الحلّ.
في كلّ “مرحلة” من المراحل التّسع يصبح فعل الإنسان نبعاً لكمال جديد نسبيّ يظهر في المرحلة اللاحقة، يُغني الحياة، ويبلغ إلى قيَم جديدة، في مسيرة تدريجيّة نحو تحقيق المصير. ولكن قلّما تحقّق أي مرحلة الكمال، فيبقى الإنسان “كائناً غير مكتمل” في كلّ مرحلة وفي المراحل بأجمعها. إنّ اختبار “عدم الاكتمال” و “عدم الكفاية” يصبح مقياس الأصالة والصّدق، ويجعل الإنسان في رحلة حجّ يريد استكشاف عالم جديد، هو بمثابة “الفردوس” الّذي يجيب على رغباته غير المحدّدة. غير أنّه لا يلقى في مسيرته الطويلة إلاّ الصّحراء، ويظلّ في عطش لا يروى: “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ” (متّى 5/6).
لن يقع الإنسان، عبر هذا المسعى، في حالة تشاؤم أو يأس، بل هو مدعوّ للانفتاح الدائم على الرّجاء والانتظار، ولو كانت الدعوة قاسية ومؤلمة بسبب عدم الكفاية وعدم الارتواء: “ظمِئَت نفسي إلى الله، إلى الإله الحيّ” (مز42 م 3). وبذلك يجد نفسه مرغماً على اختيار الانتظار: فهو لا يستولي على المستقبل، بل ينتظر حلاً له. إنّه الطّوق إلى “عالم جديد ينبع من قلب المسيح، عالم جديد يصنعه حبّ المسيح”.
السّهر والترقب:
السّهر والتّرقب، عنصران أساسيّان في الحياة الرّوحيّة يُظهران لنا معنى الإيمان المسيحيّ. يعطي الرّب هذا المثل لتلاميذ كان يحترقون رغبة في معرفة “متى يحدث هذا”، “متى يكون دمار الهيكل”، “متى تكون نهاية الأزمنة”، ومتى يكون المجيء الثاني!
هي أسئلة نطرحها نحن أيضاً اليوم، ولكننا لن نحصل إلاّ على هذا المثل كجواب لتساؤلاتنا.
فالإيمان هو جواب من الإنسان على مبادرة إلهيّة. إنّه الدخول في علاقة مع إله بادر الى الإنسان بنعمة مجّانيّة، وأراد أن يجعل منه صديقاً له ويعطيه الحياة. وبالإيمان يجيب الإنسان على هذه الدعوة. الله لا يعطي ضمانات حسيّة ملموسة، بل يعطي مبادرة ويطلب ثقة الإنسان به وقبوله له. منطق الله هو منطق الأب لا منطق التاجر، كالأب يقدّم لنا حبّه، وحنانه، وحمايته، يعدنا بميراثه إن إلتزمنا بمنطقه، يطلب منّا مشاركته حياته. أبونا الإلهيّ قدّم لنا الدخول في علاقة حبّ أبوّي، أعطانا معنى لوجودنا، رفعنا من مستوى الوجود الماديّ المائت، وأفهمنا أن وجودنا يتخطّي الحياة الحيوانيّة الماديّة البحتة. لقد خلقنا ووضع في داخلنا الرغبة بالحياة الأبديّة، ووضع في قلبنا التوق الى ما يتخطّى حدود بعدنا الجسديّ. لقد خلقنا كائناً يسعى الى الحبّ الأبديّ.
إنّ جوابنا لهذه الدعوة لا يمكن أن يكون جواباً عقليّاً مبنيّاً على المنطق وعلى الحسابات، بل على الإيمان. والإيمان بالمنطق المسيحيّ هو ثقة بالله الذّي يدعونا لأن نكون أبناء له، واستسلاماً مطلقاً لمخطّطه ولمشروعه الخلاصيّ في حياة كلّ واحد منّا. الإيمان قد تبدو بهذا المعنى قفزة في المجهول، فالله لا يعطينا الضمانات الحسيّة والمنطقيّة، ولكنّه يعطينا ضمانة الحبّ والثقة. كالطفل بين يدي والده يطلب الله منّا أن نكون: الطفل لا يفكّر في إمكانة سقوطه من بين يديّ والده، لا يتساءل حول مدى قوّة أبيه وكم يمكنه أن يستمرّ في حمله، جلّ ما يفعله الطفل هو الإستسلام لحبّ أبيه، واثق أنّه بين أيدي أمينة، لا يستعمل قوّة المنطق والعقل، بل يستسلم لثقة الحبّ المخلّص.
هكذا هو إيماننا باللّه، هو استسلام وجودنا بين يديّ من أحبّنا فخلقنا، ودخل في عهد حبّ معنا، غفر لنا خيانتنا، أعادنا الى صداقته من جديد، أعطانا بدم ابنه الحياة الأبديّة، وفتح لنا طريق الملكوت. وحده الإيمان يمكنه أن يعطينا الضمانات: ضمانة الحبّ لا ضمانات العقل والمنطق.
من هوَ الخادِمُ الأمينُ العاقِل ؟
الأمانة والعقل ميزتان لا بدّ أن يتحلّى بهما كلّ خادم للمسيح، كلّ معمّد: الأمانة هي صفة روحيّة أخلاقيّة، هي الوفاء المطلق للعهد الّذي قدّمه الله والتزمنا به بإرادتنا وبكامل حرّيتنا. الأمانة هي الوفاء لقيم الإنجيل، والعمل على تطبيقها في حياة كلّ يوم وأينما كنّا. دعوتنا هي أن نكون أوفياء لله الّذي أحبّنا في كلّ لحظة من لحظات وجودنا. حياتنا المسيحيّة لا يمكننها أن تتلخّص بساعة يوم الأحد أذهب فيها للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة. انتمائي المسيحيّ لا يمكنه أن يتلخّص بعبارة موجودة على هوّيتي أو في سجلاّت الأحوال الشخصيّة. إنتمائي المسيحيّ هو قناعة يوميّة ودائمة، هي حالتي الدائمة لا بدّ أن ترافقني أينما كنت وفي أي وقت من أوقاتي، فأنا، كخادم أمين، وفيّ لوصايا الرّب في حياته، يجب أن أعلن هذا الإيمان بطريقة عمليّة في كلامي، في أفكاري، في صداقاتي، في تصرّفاتي، في أحاديثي ومشاريعي، في معاملتي للآخرين، في إنسانيّتي، في وقوفي إلى جانب من هو محتاج للمادّة أو للسند أو للرفيق أو للحبّ. حالتي المسيحيّة هي مثل كياني، مثل إنسانيّتي، مثل إسمي، مثل ضميري، ترافقني في كلّ لحظة، وأعلنها بفخر، وأحيا بأمانة لمستلزماتها، ليرى العالم ما معنى الوفاء للإنجيل، وما معنى الصداقة الوفيّة للمسيح الوفيّ الدائم.
والعقل هي صفة ترتبط لا بالبعد الرّوحيّ الأخلاقيّ، بل بالبعد العاقل العقلانيّ الّذي يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات كلّها. حين قلنا أن الله لا يعطينا الضمانات الحسيّة والمنطقيّة، ولكنّه يعطينا ضمانة الحبّ والثقة، وقلنا أن الإيمان ليس قوّة عقليّة منطقية، فإننّا لم نعنِ أن لا دور لعقلنا في البحث عن معرفة الله. المسيحيّ هو ليس كائن مدعوّ الى خنق عقله، والإيمان ليس مرتبطاً بالمشاعر فقط، وإلا يصبح الإيمان تعصّباً وطائفيّة وإرهاباً وانغلاق. المؤمن، كخادم عاقل، هو مدعوّ لأن يبحث كيف ينمّي معرفته بالرّب أكثر فأكثر، والعقل يقدر أن يحمله الى التقدّم أكثر نحو هذه المعرفة. لا نخدعنّ أنفسنا: لن يكون العقل قادراً أبداً على إستيعاب سرّ الله بأسره، فالمخلوق لا يحدّ خالقه، والإناء لن يقدر على استيعاب سرّ جابله، ولكن العقل هو عطيّة من الله ميّزت الكائن البشريّ، وعلينا أن نضع كلّ أمكانيّاتنا وطاقاتنا، الرّوحيّة طبعاً، والعقليّة أيضاً، في خدمة التعرّف على الله الّذي يدعونا.
وهكذا يصبح الإنتماء الى الله روحيّاً وكيانيّاً، ويصبح مستنيراً بنور العقل، فنقدر أن نميّز بين ما هو حسن وما هو سيء، بين ما يعطينا الخلاص وبين ما يمكنه أن يقودنا الى الهلاك.
خياراتنا بأسرها يجب أن تكون مستنارة بعقلنا المؤمن، فنعرف ماذا نقرأ، وماذا نشاهد، وماذا نختار، وأين نذهب، ومن نعاشر، والى أي جماعات ننتمي. لا بدّ لنا، إن كنّا نريد أن نكون خدّاماً أمينين وعاقلين، أن نعرف التميّيز بين ما يُرضي الله وما لا يرضيه، بين ما يبنينا وما يهدمنا، بين ما يعطينا الخلاص وما يعطينا الهلاك.
بحرّيتنا نختار خدمة الرّب وبحرّيتنا نرفض صداقته، وعلى حرّيتنا أن تتحمّل مسؤوليّتها أمام سيّد البيت حين يعود. فالمشكلة مع هذا الخادم غير الأمين ليس فقط أنّه أساء استعمال خيور سيّده، فاستثمرها للذّته الشخصيّة، ولكن، يقول الرّب، أخذ يضرب الخدّام الآخرين. لقد جعل الإنسان نفسه أعلى من إخوته، وجعلهم عبيداً لرغباته: هي خطيئة الكبرياء وقلّة العدالة، لقد خلق الله البشر متساوين، يتميّزون بكرامة إنسانيّة كونهم أولاد الله، وجعل الخليقة في تصرّفهم ليتعاملوا معها بما يليق بالكرامة المعطاة لهم. الإنسان، بجشعه، قادر على إلحاق الظلم بأخيه الإنسان، والظلم هو خطيئة ضدّ عدل الله. قلّة العدالة هي قتل لمن هم أضعف منّا، وعقاب الله الّذي يتكلّم عنه الإنجيل معبّر جدّاً: فيُمزِّقُهُ تَمزيقًا ويَجعلُ مصيرَهُ معَ المُنافِقينَ. فعل مزّق تعني الإنسان المقسّم الى أجزاء عدّة، هي نتيجة الخطيئة التي تمزّق حياتنا الرّوحيّة وتجعلنا نحيا في حالة من الفصام بين قناعاتنا وما نقوم به، بين ضميرنا الّذي يسمع صوت ربّ البيت ولذّتنا التي تجذبنا الى استغلال غيابه وظلم الآخرين واستعبادهم، هو الإنقسام والتمزّق الّوحي الّذي يقود الإنسان الى الموت الرّوحيّ إن لم يتب. هي دعوة لنا أن لا نكون بين المنافقين: بين الّذين يؤمنون بالله بالعقل أو باللّسان، وهم في الفعل أبعد ما يكون عن درب الإيمان وعن بنّوة الله، هو المنافقون لأنّهم يظنّون أن بخداعهم الآخرين يقدرون أن يخدعوا صوت الله في ضميرهم وشخص المسيح في حياتهم. من يحيا التمزّق بين الإيمان والعمل هو منافق، مصيره الإنفصال عن المسيح لأنّه قد اختار بنفسه هذا الإنفصال، حين اختار أن يحيا في حياته طريق الظلمة والضلال.
” كونوا متيقظين”، هو نداء لنا لنكون على حجم دعوة الله في حياتنا، فنعي أنّ حياتنا لا بدّ أن تكون مرآة تعكس حبّ الله، وأن حضورنا في هذا العالم بين الإخوة هو حضور يخدم نمّو الآخرين ويجذبهم نحو شخص المسيح، وأن الهدف الأخير لوجودنا هو أن نحيا بكلّيتنا كسفراء للسيّد وكوكلاء لكلمته، نحمل إنجيله الى الآخرين، ننطق بكلماته، نحافظ على إخوته وننتظر بشوق وترقّب عودته لنصبح معه شركاء في الحبّ الثالوثيّ، ونرث ملكوت السماوات، لا، بل نحوّل عالمنا هذا الى صورة مسبقة لهذا الملكوت الّذي أعدّه الله للّذين يحبّونه.