محاضرة للأب ألبير عساف المريميّ،
لقاء تنشئة في مرافقة المرضى،
معنى الجسد والألم – القسم الأوّل،
إن اخلاقيات المرافقة تفترض علينا التأمل بالإنسان وكرامته واحترامه وهذا ما يُدخلنا الى تحليل لماهيّة هذا الكائن ومكوّناته خصوصاً عندما نتكلم عن المريض فمن الطبيعي أن يأخذنا الحديث الى جسده المثخن بالألم وأعضائه الموجودة والمضروبة بالمرض. عندما نتكلم عن هذا الجسد نجد أمامنا تقليد مزدوج :
1 – الأول ويعكس التقليد اليوناني – اللاتيني وأعني تأثير فلسفة أفلاطون عليه حيث نجد وباختصار أن الجسد مفصول عن الإنسان.
2 – والثاني وهو التقليد اليهودي السامي الذي يعتبر كلمة الجسد أو حتى الجسد هو مرادف للإنسان.
هذا التقليد المزدوج يدفعنا الى تحديد مزدوج للجسد :
ا – عندنا الجسد الموضوعي objectif
2 – عندنا الجسد الشخصي subjectif
وبعبارة أخرى :
1 – عندي جسد(j’ai un corps l’ordre d’avoir)
2 – أنا جسد (je suis un corps l’ordre de l’être)
بعبارة أخرى :
صورة إزدواجية dualiste
صورة أو فكرة توحدية للجسد unitaire
سنحاول شرح كل ما سبق وطرحنا
1 – الجسد الموضوعي : يجد أساسه في أفلاطون وفلسفته، ويعتبر أن الجسد هو كناية عن حدود مفروضة على النفس أثناء عبورها على الأرض، ومن المفضل – بالنسبة له – أن تتحرر بقدر الإمكان منه لكي تلبي -أي النفس – دعوتها الأساسية وهي التأمل بالمثل والإتحاد بها.
لذلك فالموت هو ليس إلاّ التحرير الأكمل والأعظم للنفس. والحياة على الأرض يجب أن تساهم بتحرير النفس من الجسد المادي والزائل حتى جعله “لا شيء” بالتطهير التصوفي.
• اتباعه اعتبروا أن الجسد هو “تابوت النفس” والنفس سجينة في سجن الجسد.
• باختصار هذه الفلسفة تجعل الجسد مختلف عن الانسان، “جسداً غريباً”.
• المعاصرون من أتباع أفلاطون ك René Descartes الذي اعتبر ان الجسد هو كناية عن آلة مكوّنة من قِطع تعمل بطريقة ميكانيكية مترابطة، هو خاضع للتحليل بكل قطعه وهو مختلف. وجملته الشهيرة “جسدي ليس بالحقيقة أنا” Mon corps n’est pas vraiment moi””
هذه الفكرة المزدوجة للجسد فتحت أبواب الإختبارات العلمية عليه (من دون تعليق).
وجعلت مرادف الجسد ” قطع وأعضاء وخلايا وأجهزة ودمّ… جعلته مادة خالصة.
2 – الجسد الشخصي : تقدمت به الحضارة العبرية أو بالأحرى الثقافات السامية والتي اعتبرت الجسد كثير الإتحاد بالإنسان.
لغوياً أي ايتمولوجيةEthymologie لا يوجد كلمة جسد corps بل توجد كلمة بشر أو لحم la chair، وهذا البشر اللحمي هو المكوّن من قبل الله في الأحشاء الأمومية وما يقال “كل بشر” حتى في لغتنا العامية يعني “كلّ إنسان” ويعكس هذه الثقافة السامية.
لهذا أتقدم منكم بمقارنة بين ثقافتين يونانية وسامية لندرك أكثر معنى الجسد وأقصد المعنى الحقيقي له.
أ – كلاهما مرتبط بالخير والشر ولكن بطريقة مختلفة
ب – بالنسبة لليونان الشر هو الجسد
بالنسبة لليونان الخير هو التحرر من الجسد
ج – بالنسبة للعبريين الجسد هو الوجود والشر هو الكذب
بالنسبة للعبريين الخير هو الحق
د – سبب المآسي هو الجسد عند اليونانيين
سبب المآسي هو الكذب عند العبريين
3 – الجسد إذاً يمكن أن يكون هدفاً للأبحاث البيولجية ويمكن أن يكون أداة تعكس التصرفات الشخصية المعبرة.
الألم سرّ مرتبط بالجسد؟ وأين هو الله من الألم؟ هل لأن الجسد ينحل ويتفكك؟
إلهنا رحوم قدير محبّ ولماذا التاريخ يُطبع بالحروب والكوارث والإضطهادات؟
الله موجود والشرّ موجود؟ هو الخالق لماذا سمح بوجوده؟
وإذا كان يريد الخير ولا يستطيع تحقيقه، إذاً هو غير قدير
وإذا كان يستطيع عمل الخير والحد من الشر ولا يريد إذاً هو لا يحبنا.
وإذا كان لا يستطيع ولا يريد…إذاً هو ليس الله
يتلازم وجود الألم والوجع مع وجود الوعي والضمير، وما العوامل الطبيعية مثلاً :
الهزة الأرضية phenomene naturel (لا خير ولا شرّ)، فهي مجرد حدث طبيعي لا صلة له بالخير أو بالشر. تصير شراً إذا ما أوقعت ضحايا بشرية لأن هناك آلام وحسرات
فالألم مرتبط بالوعي، وبقدر ما يكون الوعي والضمير حييّن بقدر ما يكون الألم أكبر.
أنواع عديدة للألم :
• بعض أنواع الآلام ايجابي وضروري للنمو ونقول أن هذه الآلام كانت بنّاءة – كما الباحث أو الرياضي أو المتصوف “Se donner de la peine”.
• بعضه إيجابي طبياً مثل Psychotherapie أو المدمن على كحول أوعلى مخدرات.
• ولكن بعضه يجرّح ويفكك – ويشرح المفكرون هذه الفكرة بحجة أن الإنسان كائن محدود.
والآخر لأن الإنسان يستعمل حريته بطريقة سيئة فيقدم مثلاً على “العنف” الذي يسبب أنواع آلام عديدة.
• بعض الآلم غير مطاق ولا يُحتمل من الماضي، الى الحاضر، الى المستقبل المشكوك به، حتى يُعتقد بأن الله غائب أو حتى غير موجود وهذا النوع من الألم يدفع الى الثورة.
• بعضه هو نتيجة الشرور في الإنسان المائل إلى ما هو شرّ ! وهل نستطيع تحديده؟
– هو غياب الخير
– أو هو عدم وغير موجود
– أو هو حقيقة واقعية ولو كانت سلبية
الشرّ الوجودي والآخر مرتبط بالإنسان وحريته
“اللي خِلِق عِلِق”
الألم ملاصق للوجود لأن الإنسان كائن متطور وهذا ما يحتم عليه الآلام un être en devenir بالرغم من تطور الطبّ لا يستطيع إلغاءه. ولكن هناك ألم مرتبط بهوية الإنسان الواعي والحرّ، وأعماله الحرّة واستعماله السيء لحريته (أمثال عديدة منها جرائم الحروب والنازية…)
ما هي أسباب الشرّ والألم :
1 – التطرف في الجهد، العمل المضني والمهلك، المخدرات… كما يزرع الإنسان يحصد.
2 – خربطة تقنية – مثل الطائرة التي سقطت
3 – الكوارث الإقتصادية
كل هذا لا يكفي…
مار بولس (روما 7/19) “لا أفهم ما أعمل فالشر الذي لا أريد إياه أصنع، والخير الذي أريد إياه لا أعمل”
كلها تبقى شروح غير مقنعة.
شروح بنظرة ميتولوجية :
1 – كان الإنسان يعيش بسلام وفرح مع الآلهة في عالم مثالي لا يوجد فيه لا ألم ولا وجع ولا موت لأسباب عديدة حصلت قطيعة بين الإنسان والآلهة فانكسرت العلاقة وانتهى الإنسجام مما حتّم خسارة الإنسان للخلود وظهر فيه الألم والوجع والموت وتغيرت حالة الإنسان رأساً على عقب وبقي عنده الحنين الى الحالة التي فقد ساعياً للهروب من صعوبات الحياة ليجد ما فقده يوماً.
2 – العالم هو عالم illusions- أوهام- ولهذا لا يستطيع أن يخلق ويعطي إلا الآلام… والحقيقة هي في عالم آخر ما ورائي. الرفض لهذا الواقع دائم من أجل تبديد الآمال المزيفة والسعادة الكاذبة والهرب من عالم مادي وهمي للوصول الى عالم روحاني بواسطة التقمص حيث الحقيقة والسعادة الحقة NIVANA
3 – أفلاطون يعتبر أن الجسد هو سبب لكلّ الآلام، وعظمة الإنسان وقيمته تكمنان في نفسه، لهذا ينصح برذل الجسد والعالم للوصول الى السعادة في عالم آخر ما روائي
ازدواجية : فصل راديكالي بين النفس والجسد dualism
4 – المانوية : نسبة الى مانس أو ماني manès يقول أنه يوجد في العالم قوتينّ متناقضيّن وأبديتين : من ناحية هناك قوّة الخير والروح والنّور ومن ناحية أخرى قوة الشرّ والمادة والظلمات هناك بينهما تضارب مطلق وقتال دائم. ومانس يعتبر القوتين “آلهة”. وهو يعتبر على الناس التحرر من سلطة الشر والتقرب من الخير بممارسة الفضائل المعطاة بواسطة رسائل الآلهة من قبل : ابراهيم، بودا، يسوع ومانس لهذا توجد الإنسانية مقسومة الى شقين : “الكاملون” الذين يرفضون العالم بالطهارة والتصوف والآخرين، مثلاً (“Cathares“ “ purs“ 12 et 13ème siècle)
والشر مصدره هذه القوة
أغسطينوس يحارب هذه البدعة ويعتبر ان هناك إله واحد يحذر المسيحيين من تصديقها لئلا يقعوا في القدرية والتشاؤم بحيث يصبح الشرّ واقع حقيقي ونهائي لا مجال لحل لغزه.
آخرون يعتبرون الخير والشر شيء واحد كالتعب لأجل الراحة والجوع لأجل الشبع Héraclite
Le maximum du bien et le minimum du mal (Leibniz)
والله خلق الشرّ لأنه لا يستطيع خلق عالم بدونه فيصبح كاملاً أي اله آخر، ومن غير المنطقي أن يوجد كامِلَين أو إلَهَين، ولهذا هناك إله واحد وعالم واحد محدود وغير كامل أي مع وجود شر وألم.
هكذا يمكن تبرير الألم بالله (Théorie rejetée)
5 – “Supporte et abstiens-toi” (Le stoicien) تحمل – واحمِ نفسك
6 – اليهود يربطون الآلام بالقصاص الإلهي لعمل شريرولكن هذا التفسير يصطدم بأبرار تألموا مثل أيوب الذي كان غنياً باراً لا يخالف الله ويعمل خيراً لكن الله كافأه في الآخر لأنه يكافىء الأبرار وهذا هو جواب الله.
• ان ربط السعادة بالإيمان والشر بالخطيئة غير صحيح، والله يكون دوماً مع الإنسان حتى في ألمه.
• إذاً الألم والشرّ ليسا قصاصاً من الله
7 – آخرون يفكرون أن الآلام هي علامة من علامات حبّ الله للإنسان ولكن هذا التفسير يجعلنا نصطدم بما قاله يوماً أحد المرضى رداً على هذه المقولة : ” قل له أن يتوقف عن حبه لي.”
8 – حبّ الألم le dolorisme، هذا مرض نفسي، ربما متأثر ببعض سير القديسين الذين سلكوا طريق القداسة من خلال آلامهم… وهذا ما دفع أحد الملحدين إلى القول :
“إذ ما رأيت الله كيف يعامل أصدقاءه فهمت أنه ليس إله”
9 – الله لا يريد عذاب الإنسان ولا هدايا المه، الله يريد فقط خلاص الإنسان منذ الخلق وحتى اليوم.
الله يريد العدالة والحبّ والسعادة للإنسان.
“جئت لتكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر” (يو 10/10).