محاضرة للأب ابراهيم سعد،
خادم رعيّة السيّدة – راشيا الوادي، البقاع،
“أمّا البارُّ فإِنّهُ وَإِنْ تعَجَّله الموت…” (حك 4: 7- 18)
النصّ الإنجيليّ:
“أَمّا البارُّ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَجَّلَهُ الموتُ يَستَقِرُّ في الرَّاحةِ، لِأَنَّ الشَّيخوخةَ المُكرَّمةَ لا تَقومُ على كَثرَةِ الأَيَّام وَلا تُقاسُ بِعَدَدِ السِّنِين. وَلَكِنَّ شَيْبَ الإِنسانِ هو الفِطنَةُ وَسِنَّ الشَّيخوخةِ هِيَ الحَياةُ المُنَزَّهةُ عَنِ العَيْب. أَصبَحَ مَرْضِيًّا عِندَ الله، فَكَانَ مَحبوبًا، وَكَانَ يعيشُ بَينَ الخاطِئينَ، فَنُقِل. خُطِفَ لِكَي لا يُفسِدَ الشَّرُّ بَصيرَتَه، ولا يُغوِيَ الغِشُّ نَفْسَه. لِأَنَّ سِحْرَ الباطِلِ يُغَشِّي الخَيرَ وَدُوَارَ الشَّهوةِ يُفسِدُ العَقلَ المُنَزَّهَ عنِ الشَّرّ. بَلَغَ الكَمالَ في أَيَّامٍ قَليلةٍ فَاستَوفى سِنِينَ طَويلة. وَكَانَتْ نَفْسُه مَرْضِيَّةً عِندَ الرَّبّ، وَلِذَلك فَقَدْ خَرَج سريعًا مِن بَينِ الشُّرور. وَأَبصَرتِ الشُّعوبُ وَلم تَفْقَهْ، وَلَم يَخطُرْ لَها أَنَّ النِّعمةَ والرَّحمةَ لِمُختارِيه وَافتِقادَهُ لِقِدِّيسِيه. لَكِنَّ البارَّ الّذي قد ماتَ يَحكُمُ على الكافِرِينَ الباقِين، وَالشَّبيبَةَ الّتي انقَضَتْ بِسُرعة تَحكُمُ على شَيخُوخةَ الأَثيمِ الكَثيرَةِ السِّنِين. فَإِنَّهم يُبصِرونَ آخِرَةَ الحَكيمِ وَلا يَفقَهُون ماذا أَرادَ الرَّبُّ في شأنِه وَلِماذا جَعَلَه في أَمان. يُبصِرون ويَزدَرونَ، وَلَكِنَّ الرَّبَّ يَهزَأُ بِهم.” (حك 4: 7-18).
التأمّل في النّص الإنجيليّ:
إنّ هذا المقطع الكِتابيّ مِن سِفر الحِكمة يَدفعُنا إلى طَرح السُّؤال التّالي: لماذا يخاف الإنسان من الموت؟ إنّ الموتَ، شِئنا أَم أبَينا، له رهبةٌ على الإنسان. فالإنسانُ يَخافُ مِن الموت:
أوّلاً: لعدم استعداده لِلِقاء الربّ، إذ إنّه لم يتمكَّن من ترتيب أموره بِالتَّوبة؛
ثانيًا: لاعتباره أنَّ الموتَ يُفقِدُه مَلذَّاتِ هذه الحياة الدُّنيويّة الّتي قد اعتاد عليها، إذ إنّه غيرَ قادرٍ على التخلِّي عنها.
إخوتي، إنّ الإنسان المؤمِن لا يَسمح لنَفسِه بالتّعلُّق بأمور هذه الحياة الفانية، فَيَجِد ذاتَه مُستَعدًّا للقاء السِّيِّد، عند موته؛ ولذَلِكَ، هو لا يخاف مِنَ الموت.
إنّ هذا النَّص مِن سِفر الحكمة، يشرح لنا وَضعَ الإنسانِ البارّ بعد الموت. إخوتي، إنّ الإنجيل يُقدِّم لنا مِثالاً عن الإنسان البارّ، هو يسوع المسيح. وهنا، نَطرح السُّؤال: ما هو البِرّ؟ عندما جاء يسوع للاعتماد في نَهرِ الأُردنّ، رفض يوحنّا المعمدان أن يُعمِّدَه إذ إنّه هو الّذي يحتاج إلى الاعتماد من يسوع. عندئذٍ، أجابه الربُّ: “دَعني الآن وما أُريد، فهكذا يَحسُن بِنا أن نُتِّمَ كُلَّ برٍّ” (متى 3: 15). إذًا، البِرُّ هو رِضى الله، إنّه إتمامُ مشيئةِ الله. وبالتّالي، الإنسانُ البارّ هو الّذي يُتمِّم مشيئة الله، أي يسعى إلى رِضاه، فيَتحققّ فيه قَولُ الآبِ في يسوع المسيح: “هذا هو ابني الحبيب، الّذي به سُرِرت.”(مر 1: 11). إنّ البِرّ هو مَسرَّةَ الله في الإنسان المؤمِن. إنّ الإنسان الّذي يسعى إلى إرضاء الله، يَشعُر بِمَسرَّةِ الله فيه، مِن خلال الفرح الدّاخليّ الّذي يَختبرُه والنَّاتج عن العلاقة الطيِّبة الّتي تَربطُه بالله. حين يَكونُ الإنسانُ مُحتارًا، لا يعرف إذا كان الله راضيًا عنه أَم لا، فهذا يَدلُّ على أنّ هذا الإنسان يَقومُ بأعمالٍ تُرضي الله مِن جهةٍ، ولكنّه يَقومُ مِن جِهةٍ أُخرى بأعمالٍ لا تُرضيه، وهذا الأمرُ يُسبِّب له تأنيبَ الضَّمير ويَدفَعُه إلى عَيشِ صِراعٍ داخليّ حول مدى رِضى الله عنه. إنّ البارّ يسعى طيلة حياته إلى إرضاء الله في كُلِّ عملٍ يَقوم به، وهو يَشعُر بِرِضى الله عليه.
“أَمّا البارُّ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَجَّلَهُ الموتُ يَستَقِرُّ في الرَّاحةِ”. إنّ عبارة “وإن تعجَّلَهُ الموت” تُشير إلى أنّ هذا البارّ قد مات وهو لا يزال شابًّا، أي أنّ “الحياة كانت لا تزال تَليقُ به”، إذ كانت لديه مسؤوليّاتٌ كثيرةٌ مُلقاةٌ على عاتقه. إنّ كلَّ الأعذار الّتي نَضعها لِمَوت أحبّائنا الّذين لا يزالون في عُمرِ الشّباب، تُعبِّر عن رَفضِنا لِمَوتِهم.
إخوتي، إنّ حِساباتِ الله في الموت مُشابهةٌ لِحِسابات البارّ وَهيَ مُختَلِفَةٌ كُليًّا عن حِساباتِنا، نحن البشر: إنّ حسابات البارّ تُشير إلى أنّه قد حقَّق كلّ ما يَشتَهيه بالموت، لأنَّه أصبحَ مع الله؛ أَمَّا حِساباتُنا نحن البشر فَهي مُرتبطةٌ بالشَّوق والافتقاد والفُقدان. هذا ما عبَّر عنه بولس الرَّسول في إحدى رسائله، حين قال لنا: “لي اشتهاءٌ أن أَنطلِقَ وَأكونَ مع المسيح”، غير أنّ القدِّيس بولس كان مُدرِكًا مِن جهةٍ أُخرى لمسؤوليَّتِه في البشارة، لهذا أوضَح قائلاً إنّ شهوةَ قلبِه أن يكون مع الربّ، ولكنْ إذا كانَتْ مشيئةُ الربّ أن يبقى على هذه الأرض لِفَترةٍ من الزَّمن، فإنَّ ذلك سيَكون نافعًا للمؤمِنِين إذ سَيَستمرُّ في خِدمته لهم. “وإن تعجَّله الموت، يستقرُّ في الرَّاحة”: إنّ هذه الرَّاحة الّتي يتكلَّم عليها سِفر الحِكمة، هي الرَّاحة الأبديّة، وهي تَبدأ في اللَّحظة الّتي تَلي موتَ الإنسان. إخوتي، إنّ الله “يَستَريح في قدِّيسيه”، وهذه العبارة تَدلّ على أنّه ليس فقط الإنسان مَن يرتاح في الله، بل إنّ الله أيضًا يرتاح في الإنسان البارّ، وهذا الأخير يَشعُر بأنّ اللهَ يَسكُنُ فيه.
“لِأَنَّ الشَّيخوخةَ المُكرَّمةَ لا تَقومُ على كَثرَةِ الأَيَّام وَلا تُقاسُ بِعَدَدِ السِّنِين”: في العقليّة اليهوديّة وأيضًا في العقليّة المسيحيّة غير الـمُعمَّدة، يُشير طُولُ عُمرِ الإنسان إلى رِضى الله عليه. إنّ هذا الاعتقادَ خاطئٌ تمامًا، بِحَسب كاتب سِفر الحِكمة، إذا إنّ رِضى الله على الإنسان لا يُقاس بِعُمرِه الطَّويل على الأرض، إنّما يُقاس بِمَدى برارة الإنسان، أي بِمدى سَعيه إلى إرضاءِ الله في حياته.
“وَلَكِنَّ شَيْبَ الإِنسانِ هو الفِطنَةُ وَسِنَّ الشَّيخوخةِ هِيَ الحَياةُ المُنَزَّهةُ عَنِ العَيْب”: بِحَسب كاتب هذا السِّفِر، هناك ارتباطٌ بين الشّيخوخة والحِكمة: فالشّيخوخة تُشير إلى خِبرة الإنسان، وكذلك الحِكمة فهي تأتي نتيجة خُلاصة خُبراتٍ حياتيّةٍ مُتَواتِرة. هنا، نَطرح السُّؤال: ما هي الحِكمة؟ مِن الصَّعب على الإنسان أن يُعطي تحديدًا للحِكمة، لذا يَقوم بِوَصفها؛ والوَصف الّذي أَقترحُه عليكم هو التّالي: الحِكمة هي المحافظة على استمراريّة الحياة، وأنْ تَكون الحياةُ أفضل.
إنّ الشَّيب في رأس الإنسان يُشير إلى أنّه إنسانٌ حَكيمٌ، فالشَّيب يَدلُّ على أنّ هذا الإنسان هو شخصٌ غَير مُتَهوِّرٍ في تصرُّفاته، ولذا هو يُساهم في استمراريّة الحياة، واستمرارِها بشكلٍ أفضَل. إليكم مِثالٌ عن الإنسان الحَكيم: إنّ الإنسان الحكيم هو الإنسان الّذي يَعمل مِن أجل تأمينِ حَياةٍ أفضلَ لِعائلَتِه، فيَعيش معها بِكَرامةٍ. إنّ الإنسان الحَكيم هو الّذي لا يَتسَّرع في اتِّخاذ القرارات، فلا يُساهِم في افتعالِ المشاكل مع الآخَرين، بل يسعى إلى اتِّخاذِ القَراراتِ الّتي تؤدِّي إلى حياةٍ أفضل له وللآخَرين. وفي هذا الإطار، قال بولس الرَّسول عن يسوع المسيح إنّه “حِكمةُ الله”، لأنّ يسوعَ يحافظُ على استمراريّة حياةِ الإنسان ويُساهم في جَعلِها حياةً أفضل. إنّ أبهى صورة للحياة الأفضل من دون مُنازِعٍ، هي الحياة الأبديّة الّتي لا أحد يستطيع أن يمنَحها للإنسان إلّا الربّ يسوع؛ ولهذا السّبب، يسوع هو “حِكمةُ الله” الكاملة. في الإصحاحات السّابقة مِن سفر الحِكمة، صوَّر لنا الكاتبُ الحِكمةَ كأنّها شَخصٌ يَطوفُ في الطُّرقات والـمُدُن؛ غير أنّها أيضًا مِن جهةٍ أُخرى إلهيّة. إنّ كلَّ حِكمةٍ تَنطبِقُ في كلِّ زمانٍ وَكلِّ مكان. فعلى سبيل الِمثال، إنْ أَتَتْنا حِكمةٌ مِن الصِّين وكانت قديمةً جدًّا، فإنّه لا بُدَّ لها من أنْ تَنطَبِق علينا نحن اليوم الّذين نعيش في الشَّرق الأوسط، لأنّ الحِكمة لا تَتغيّر لا مع مرور الزَّمن ولا مع تَغيُّرِه، لا مع تغيُّر المكان أو هَدمه أو إلغائه.
إنّ الأمثال الـمُتداولة في مجتمعِنا اليوم هِي حِكَمٌ وَرِثناها مِنَ الأقدَمِين، وهي حِكَمٌ صالحةٌ لكلِّ زمانٍ وَلِكُلِّ مكان. إنّ كلامَ الكِتاب المقدَّس هو حِكمةٌ أزليّةٌ وأبديّةٌ، إذ تَنطبِق على كلِّ إنسان في كلِّ مكانٍ وزمانٍ، حتّى نهاية الأزمنة. إذًا، إنّ شَيبَ الإنسان هو الفِطنة لا العُمر. إنّ الشَّيبَ يُعطي فِكرة للآخرين أنّ هذا الإنسان هو صاحبُ خِبرةٍ في الحياة، وبالتّالي هو إنسانٌ حَكيم. ولكن، ليس كلُّ مَن يَملِكُ شَيبًا هو إنسانٌ حَكيم. فَقَد يكون الإنسانُ صاحبَ شيبٍ في رأسِه ولكنه متَّهوِّر في قرارته، وبالتّالي هو ليس حَكيمًا. كما قد يكون الإنسانُ، على الرُّغم مِن صِغَر سِنِّه، يَمِلكُ من الخبرة الحياتيّة ما يجعله مُساويًا لإنسانٍ صاحبَ شيبٍ في رأسه؛ فالحِكمة إذًا ليست مُرتبطةً بالشَّيب، إنَّما بِخبرة الحياة.
“أَصبَحَ مَرْضِيًّا عِندَ الله، فَكَانَ مَحبوبًا، وَكَانَ يعيشُ بَينَ الخاطِئينَ، فَنُقِل. خُطِفَ لِكَي لا يُفسِدَ الشَّرُّ بَصيرَتَه، ولا يُغوِيَ الغِشُّ نَفْسَه”: مِن خلال هذا الكلام، حاوَل الكاتِب أن يُعطي تَفسيرًا للموت المفاجئ والـمُبَكِّر للإنسان البارّ، قائلاً: إنّ البارّ الّذي تُوفيّ وهو لا يزال شابًا، هو إنسانٌ مَحبوبٌ من الله، لأنَّه تمكَّن من المحافظة على برارته على الرُّغم مِن عيشِه بين مجموعةِ خاطئِين؛ ولذلك، اختار الله أن يُنقِذَه من الشَّر مِن خلال مَوتِه الأرضيّ، قَبْل أن يَقع فيه في لَحظةِ ضُعفٍ. قد يعتَرِض البَعضُ على هذا التَّفسير إذ لا يعتبرونه مُقنِعًا لِمَوتِ إنسانٍ لا يزال شابًا. إخوتي، لم يَقصِد الكاتِبُ بِكَلامِهِ القَول بأنّ الله هو المسؤول عن موت البشر في سنٍّ مبَّكرة؛ بل ما قصده الكاتب بِكلامه هذا هو إعطاءُ تَحليلٍ لِمَوت المؤمِنِين وهُم لا يزالون في سِنٍّ مُبكِّرة. فَعِندَ مَوتِ عزيزٍ، يُصاب الإنسان بالحُزن على فقدانه، وَخُصوصًا إذا كان الفقيد شابًا. لذا، يقول لنا الكاتب، في محاولةٍ مِنه لِتَعزية الأشخاص الحزانى على موت عزيزٍ لا يزال في سِنّ الشَّباب، إنّ الله قد اختاره ليُخلِّصَه فَلا يتمكَّن الشَّرُ من أن يُعمِيَ بَصيرتَه، في لَحظةِ ضُعفٍ.
“لِأَنَّ سِحْرَ الباطِلِ يُغَشِّي الخَيرَ وَدُوَارَ الشَّهوةِ يُفسِدُ العَقلَ المُنَزَّهَ عنِ الشَّرّ”: إخوتي، إنّ الباطِل، أي الشَّر، يَملِكُ سِحرًا على الإنسان. إنَّ الشَّيطانَ لا يُجبِرُ الإنسان على ارتِكاب الخطيئة، إنّما يَقوم بإغرائه بها، إذ يَعرِضُ عليه امتيازاتٍ باطِلَةً سيَحصل عليها متى ارتَكب الخطيئة. إخوتي، لو لَم تكن الخطيئةُ مُغريةً، لما ارتكَبها الإنسان. إنّ كلَّ خطيئةٍ يرتَكبها الإنسان، تُخفي في طيّاتِها خَوفَه من الموت. وفي هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول في رسالته إلى العبرانيِّين: “ويُحَرِّرَ (يسوع) الّذينَ كانوا طِوالَ حَياتِهِم في العبوديّة خَوفًا من الموت”(عب 2: 15). إنّ صُوَر الموت كثيرة: فالإنسان يخاف مِن العُزلة لأنَّه يخاف مِن أن يتعامل مَعَه الآخَرون وكَأَنّهُ غَيرُ موجود. ويخافُ الإنسانُ مِن الموت، لذا يقوم بالسَّرقة لأنّه محتاجٌ إلى الطَّعام.
إنّ الإنسان الّذي يبدأ بِالسَّرقة أوًّلا انطلاقًا مِن حاجته إلى الطَّعام، ثم مَع مرور الوقت تتحوَّل إلى عادةٍ سيئة لا يستطيع الإنسان التخلُّص منها بِسُهولةٍ. عندما تتحوّل السَّرقةُ عند الإنسان إلى عادةٍ، يكون الشَّيطان قد نجح في إغرائه واستمالَتِه إلى ارتكاب الخطيئة. ومِن صُوَر الموت أيضًا، الكَذِب، فالإنسان يلجأ إلى الكَذِب ليُخفي أمرًا قام به يَخجَل في التَّعبير عنه أمام الآخَرين، مخافةَ استبعادِه مِنَ المجموعة نتيجةَ عَمَلِه هذا. وهنا أيضًا، يكون الشَّيطان قد نجح في إغراء الإنسان مِن خلال حثِّه على الكذب، وتحويلِه، مع مرور الوقت، من خلال ارتكابه المستمرِّ لهذه الخطيئة، إلى إنسانٍ كاذِب. وأيضًا، قد يتجرّأ الإنسان على الزِّنى مخافة الشُّعور بالعزلة عن الآخَرين، ثمّ يتحوَّل مع مرور الوقت مِن خلال ارتكابه المستمرِّ لهذه الخطيئة إلى إنسانٍ زانٍ.
هنا، أريد التوقُّف عند أمورٍ ثلاثة: التَّصرُّف والعادة والطَّبع. حين لا يتمكَّن الإنسان من ضَبطِ تَصَرُّفِه الخاطئ، فإنَّ هذا التَّصرُّف سيتحوَّل إلى عادةٍ سيئة. وإذا لم يتمكَّن الإنسان مِن ضبط عادَته السيئة، فإنّها ستتحوّل مع الوقت إلى طَبعٍ مُتَجذِّرٍ فيه. وعندئذٍ، سيُصبِح مِنَ الصَّعب على المحيطين بهذا الإنسان التَّمييز في ما إذا كان هذا التَّصرُّف الخاطئ الّذي صَدر عن هذا الإنسان هو موجودٌ فيه منذ ولادته، أم أنّه طَبعٌ اكتَسبَه مع الوقت. إخوتي، إنّ الله لم يَخلق فينا أمورًا سيئة، بل إنّ تصرُّفاتنا الخاطئة الّتي ارتَكبناها خلال مسيرة حياتنا الأرضيّة، والّتي لم نتمكَّن مِن ضَبطِها في حينها، قد تحوَّلَتْ مع الوقت إلى عادةٍ سيئةٍ، ثمّ إلى طَبعٍ سيئٍ لا نستطيع تغييره بِسهولة. وهنا، أودُّ أن أقول لكم إنّه في رِعايتنا للمؤمِنين، علينا التَّمييز ما بين الخاطئ والخطيئة. فالخطيئة هي مكروهةٌ ومَنبوذةٌ ومَرفوضةٌ بِكَافّةِ أَشكالِها؛ غير أنّنا نُحبّ الخاطئ، لأنّه إذا كَرِهنا الخاطئ ونَبَذناه، كما نفعل مع الخطيئة، فإنّنا نُساهِم بِتَصَرُّفنا هذا في قطع الطّريق أمام الخاطئ لليَقَظة الرُّوحيّة؛ أمّا إذا أحببنا الخاطئ، فإنّنا نكون قد ساهمنا في خَلقِ فُرَصٍ كثيرةٍ أمامه لليَقَظة الرُّوحيّة والتَّوبة.
“وَدُوَارَ الشَّهوةِ يُفسِدُ العَقلَ المُنَزَّهَ عنِ الشَّرّ”: إنّ سِحر الباطل يقوم على غَشِّ الخَير، فيَقوم الإنسان بِعَملٍ شريرٍ معتقدًا أنّه يقوم بِعَملٍ صالح. وهنا في هذا الإطار، نتذكَّر الـمَثلَ الّذي أعطاه يسوع عن الإنسان الّذي كان فيه رُوحٌ شريرٌ: فحين قرّر هذا الإنسان التَّوبة وطَردِ الرُّوح الشِّرير مِن داخله، قام بِكَنسِ بيته الدّاخليّ ولكنّه لم يَقم بِمَلء حياته بأمورٍ صالحة، فبَقيَ بيتَه نظيفًا وخاليًا، لذا نَجد أنّ الرُّوح الشِّرير يَعود إلى هذا البيت الخالي والنَّظيف بعد أن يَكون قد طافَ الأرض، وهو لا يأتي وَحده بل يَصطَحب معه سبعة أرواح أكثر منه شرًّا، فتَعبَثُ في حياة الإنسان. إخوتي، لا يُمكِن للمؤمِن أن يتخلَّى عن الخطيئة، ويَطرُدَها خارجًا عنه، مِن دون الاستعاضة عنها بأمورٍ صالحةٍ تَملأ حياتَه وتُبعِد تفكيره عن الانشغال بالخطيئة. إنّ الأمور الصّالحة الّتي يقوم بها الإنسان تُشكِّل قوّةَ الله الّتي سَتُرعب الشَّيطان وتَمنَعُه مِن الاقتراب مِن الإنسان المؤمِن مُجدّدًا.
“بَلَغَ الكَمالَ في أَيَّامٍ قَليلةٍ فَاستَوفى سِنِينَ طَويلة”: إنّ العُمرَ القَصير الّذي عاشَه هذا البّار على هذه الأرض، يُساوي السِّنين الطويلة الّتي كان سيَعيشها على الأرض. فما كان مطلوبٌ منه القيام به في سِنين طويلة على الأرض، قد أَنجَزَه في سِنينٍ قصيرة.
“وَكَانَتْ نَفْسُه مَرْضِيَّةً عِندَ الرَّبّ، وَلِذَلك فَقَدْ خَرَج سريعًا مِن بَينِ الشُّرور”: إنّ البارّ قد ارتاح مِن جميع الشُّرور بِمَوتِه الأرضيّ.
“وَأَبصَرتِ الشُّعوبُ وَلم تَفْقَهْ، وَلَم يَخطُرْ لَها أَنَّ النِّعمةَ والرَّحمةَ لِمُختارِيه وَافتِقادَهُ لِقِدِّيسِيه. لَكِنَّ البارَّ الّذي قد ماتَ يَحكُمُ على الكافِرِينَ الباقِين”: عندما يَموتُ الإنسان البارّ، فإنَّه يُصبح نموذجًا أي typos، يَستعين به الله في مُحاكمتِه للكافِرين. وبالتّالي، إذا سأل أحدُ الكافِرين الله عن الّذي فَعلَه ليَستَحِقَّ أن يكون بعيدًا عنه؛ سيُجِيبه الله عندئذٍ أنّه كان عليه أن يعيش على مِثال أحد الأبرار. وبالتّالي، سيَكون البارّ الّذي تُوفِيَّ “canon” مِقياسًا للكافِرين. إنَّ أعمال البارّ هي مِقياسٌ لنا لنَحذو حَذوها.
“وَالشَّبيبَةَ الّتي انقَضَتْ بِسُرعة تَحكُمُ على شَيخُوخةَ الأَثيمِ الكَثيرَةِ السِّنِين. فَإِنَّهم يُبصِرونَ آخِرَةَ الحَكيمِ وَلا يَفقَهُون ماذا أَرادَ الرَّبُّ في شأنِه وَلِماذا جَعَلَه في أَمان. يُبصِرون ويَزدَرونَ، وَلَكِنَّ الرَّبَّ يَهزَأُ بِهم”: إنّ البّار الّذي مات في سِنٍّ مُبَكِّرَةٍ بالنِّسبة إلى البشر، يَستطيع أن يَحكم على الّذين عاشوا سِنينَ طويلةً في هذه الحياة مُعتَبرين أنفسَهم حُكماء، غير أنَّهم ليسوا كذلك أمام الله.
بعد هذا الشَّرح الـمُسهَب لهذا النَّص الكِتابيّ من سِفر الحِكمة، لا يُمكِن إلا أن يَخطر على بالِنا يسوع المسيح، الّذي عاش حياته على الأرض بِرِضى كاملٍ مِن الله عليه، وقد مات وهو لا يزال شابًّا، مِن دون أن يتمكَّن الشِّرير منه في البَرِيّة حين جرَّبه، كما لم يتمكَّن الأشرارُ الـمُحيطون به مِن تغييره على الرُّغم من كُلِّ الإغراءات الّتي قدَّموها له، لأنَّ مَسرَّة الله كانت عليه، وهو تَمكَّن بعد انتقالِه من هذا العالَم من الحُكم على الكافِرين. إنّ الربَّ يسوع الّذي كانت سنِينُه قليلة على هذه الأرض قد استوفى العُمر الطَّويل كما يقول لنا هذا المقطع الكِتابيّ مِن سِفر الحِكمة. كان الربُّ يسوع فريدًا في برارته، لذلك كانت مَسرَّةُ الله عليه.
إنّ هذا المقطع الكِتابيّ له مَنحَيان:
المنحى الأوَّل: هو منحى الإنسان البارّ العاديّ،
أمّا المنحى الثّاني: فَهو الصُّورة الـمِثاليّة للبارّ والّتي جسَّدها يسوع الإنسان الّذي أطاع الله حتّى الموت على الصّليب.
إنّ قراءتنا لهذا النَّص، تدفعنا إلى:
أوّلاً: الاستعجال في التَّوبة، الاستعجال في الحصول على رِضى الله، الاستعجال في التخلُّص مِن حبال الشَّر وغِشّ الشَّيطان وذلك من أجل المحافظة على بَصيرَتِنا موجَّهةً إلى الربِّ يسوع.
ثانيًا: السَّعي إلى التَّشبُّه بِيَسوع المسيح الّذي لم يتمكَّن منه أيُّ ترغيبٍ أو ترهيبٍ، فَبَقيَ طائعًا لأبيه حتّى النِهاية. إنّ الربّ يسوع يُشكِّل مِثالاً وَسَندًا وقوَّةً تُحفِّزنا على السَّير على خُطاه في طاعتنا لله الآب، حين قال لنا: “بِدُوني لا تستطيعون شيئًا”. هذه هي الحقيقة! مِن دُون الله لا نستطيع القيام بأيٍّ شيءٍ. ولكن هذا لا يعني أنّه علينا البقاء مَكتوفي الأيدي، بل هذا يعني أنّه علينا القيام بِنَوعٍ من الإنعاش ليَومِيَّاتِنا “refresh”. حين نقوم بإنعاش يوميَّاتنا، فإنّ هذا يَخلق فينا نوعًا مِن اليَقظة الرُّوحيّة، ممّا يُساهم في حصولنا على نِعمة التَّمييز، فنُدرِك ما يُرضي الله وما لا يُرضيه.
في القدَّاس الإلهيّ، الّذي تَعتمِده الكنيسة الشَّرقيّة، صلاةٌ نتلوها تَقول: “لكي يكون (جسد ودَمِ الربّ) للمُتناوِلِين لِنَباهة النَّفس ويَقظَتِها”، وهذا يعني أنّ جَسَدَ الرَّبّ ودَمَه يَمنحان على الفَور الّذي يتناولَهما نَباهة النَّفس ويقظةً روحيّةً. فعندما يتناول الإنسان المؤمِن، يتكوَّن في داخلِه “رَدَارٌ” يجعله يُدرِك إذا كان العمل الّذي ينوي القيام به يُرضي الله أَم أنّه مِن فِخاخ الشَّيطان له، الّذي يسعى من خلال وسائل التّرهيب والتَّرغيب إلى دَفع المؤمن إلى ارتكاب الخطيئة. إخوتي، إنَّ أَهمَّ تَلاميذِ يسوع، أي بُطرس الرَّسول، قد وَقَع في فِخاخ الخوف الّذي هو مِن الشَّيطان، عندما تَمَّ إلقاء القبض على يسوع: فالرَّسول بُطرس قد أنكَر الربَّ ثلاث مرّات في باحة المحكمة، بِسَبب خَوفِه. لقد عبَّر يوحنّا الرَّسول عن هذا الأمر، حين قال لنا في إحدى رسائله: “المحبّة تَطرد الخوف خارجًا”، ممّا يعني بِتَعبيرٍ آخر أنَّ “الخوف يَطرد المحبّة خارجًا”. عندما تُحبُّ شخصًا، فإنّه مِن غير الممكن أن تخاف منه؛ وعندما تخاف من شخصٍ، فإنّه من غير الممكن أن تُحِبَّه. إذًا، هذا الصِّراع بَين المحبَّة والخوف قد وَضع له الربُّ يسوع نهايةً، لأنّه هو المحبّة الكاملة الحقيقيّة، لذا لم يَخَف من الموت. هنا، قد يعترض البَعض على ما أقول قائلين: إنّ الربَّ يسوع قد خاف من الموت، لأنَّه عندما كان في الجِسمانيّة صلّى إلى أبيه قائلاً: “أُعبُر عنِّي هذه الكأس”.
إخوتي، إنّ الربَّ يسوع لم يَخَف مِن الموت أبدًا: فالربَّ يسوع كان يُدرِك أنّ أُجرَة الخطيئة هي الموت، وكذلك كان يُدرِك أنّه عاش حياةً تُرضي الله فهو لم يرتَكب خطيئةً، ممّا يعني أنّه لا يستحقّ الموت أي الوقوف أمام أبيه وَقفة الإنسان الخاطئ، لذا طَلب من الله أبيه أن يُبعِد عنه هذه الكأس. إنّ الربَّ يسوع لم يَخف مِن الموت، بل خاف مِن أن يَظهر أمام أبيه كخاطئ، فالربّ يسوع كان حريصًا للغاية على إخلاصه لله أبيه وطاعته له، لذا قال له: “إن أمْكَن أن تَعبُر عنِّي هذه الكأس”. لقد رددَّ الربُّ يسوع هذه العبارة ثلاث مرَّات، ولكنَّه في الأخير رَضخ لـمَشيئة أبيه السّماويّ، فَذَهب إلى الموت بإرادته، واضعًا كلَّ حياته بين يَدي أبيه. عندما عُلِّق الربُّ على الصَّليب لَم يَظهر أنّه خائف، بل ظَهر أنّه الـمُحِبّ الأوَّل، بِدَليل أنّه تمكَّن من المغفرة لصالبيه، قائلاً لأبيه: “يا أبتاه، إغفِر لهم لأنّهم لا يَدرون ماذا يَفعَلون”. إنّ الربَّ يسوع قد أعطى أسبابًا تخفيفيَّةً لِصَالبيه أمام أبيه، إذ اعتبرَهم أنّهم غير مُدرِكين لِما يفعلونه به، مع عِلمه أنّهم كانوا يَعلمون ماذا يفعلون. والدَّليل على عِلمِهم بما يَفعلون هو قَول رئيسِ الكهنة في ذلك الحين، قِيافا، والّذي ينطَبِق عليه هذا المقطع الكتابيّ من سِفر الحِكمة، “خيرٌ أن يموتَ واحدٌ عن الأُمَّة”. كان رئيس الكهنة يخاف مِن أن تتلاشى الأُمَّة اليهوديّة وتَفقد سُلطَتَها على شعبها متى آمن هذا الأخير بالربّ، لذا قرَّر مع بقيّة رؤساء الـمَجلس القضاء على الربّ، من أجل بقاء الأُمّة.
لقد أدرَك اليهود أنّ يسوع هو المسيح المنتَظر، ولذلك قتَلوه، والدَّليل هو قَول رئيس الكهنة آنذاك إنّ دَم هذا البارّ الصِّديق هو عليهم وعلى أبنائهم. إنّ انتظار اليهود اليوم لـمَجيء المسيح يُشكِّل خطيئتهم، الّتي ما زالت مستمرّة إلى يَومِنا هذا. إنّ المسيح يسوع، بِمَوته على الصَّليب، قد جعل الموتَ بلا رَهبة. إنّ الربَّ يسوع قد حوَّل الموت إلى تحدٍّ للبارّ للمحافظة على برارته، فيَكون مستعدَّا، حين تأتي السّاعة، للقاء السَّيِّد. أمّا أمور الافتقاد الّذي يُسبِّبه موتُ أحبّائنا، فيُعبِّر عن مدى تعلُّقنا بهم. إنّ الموت يأتي لكي يقطع حَبلَ الصُّرة بيننا وبين أحبّائنا، وهذا ما يُوجِع في الموت؛ أمّا ما عدا ذلك، فلا شيء يُوجِع في الموت. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.