تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“إنجيل القدّيس يوحنّا الرّسول – الإصحاح الثالث”
لا نزال في رِحاب إنجيل يوحنّا وكما قلنا، سنتوقّف عند محطّات من إنجيله لِنرى هدفه إضافةً إلى ما سيُعطينا من دروس في الحياة. سنناقش، اليوم، في الإصحاح الثّالث، حواراً جرى بين يسوع وشخصٍ معلّمٍ في اليهوديّة اسمه نيقوديموس، من كِبار الأحبار في المحفل اليهوديّ وهو فرّيسيّ أيّ من حزب دينيّ مؤلَّف من المُحافِظين والمُتشدّدين، إلّا أنّه يُقيم تطابقاً بين الحكم والدّين.
لذلك كانوا من أصحاب الثّورة المناهضة للامبراطوريّة الرّومانيّة من أجل إعادة حكم داوود وفق المفهوم السّياسيّ وليس فقط وفق المفهوم الدّينيّ فَبَرعوا في التّعليم وفي معرفتهم للتّوراة. على الرّغم من أنّهم كانوا يعرفون، كانت تنقصهم القدرة أو انعدام الرّغبة في الاعتراف بيسوع كمسيح الله، لأنّهم لو قبلوا به لَكانت الأمّة اليهوديّة تفرّقت، فَلا أحد يستطيع أن يُغيّر دينه ويُصبح من هذه الأمّة بسهولة إن لم يكن منها أصلاً. لهذا السّبب كانوا يُسمّون الدّاخلين إليها بالدّخلاء، فهم يقبلونهم ولكنّهم لا يُعطونهم الامتيازات الّتي يحظى بها اليهوديّ، خصوصاً إذا كانت أمّه من أصلٍ يهوديّ.
أكثر مَن حارب يسوع كان من الفريسيّين إلى حدّ أنّهم كانوا مُستعدّين للتّحالف مع أعدائهم فتكون مصيبتهم مشتركة وهي يسوع. لقد تحالفوا مع الصّدوقيّين، وهم من حزبٍ آخر عدوّ لهم، يختلف إيمانه عن إيمانهم. فبالنسبة إليهم الغاية تُبرّر الوسيلة، في هدف إزالة يسوع من طريقهم. وكان نيقوديموس واحدٌ منهم ولكن، لأنّه كان مُتعمّقاً في التّوراة، تأمّل في ما يفعله يسوع ويقوله، فتساءل إن كان من الممكن أن يستطيع أحدهم أن يقوم بهذه الأعمال ويقول هذه الأقوال من دون أن يكون له صلة بالله، إذاً لا بدّ ليسوع من أن يكون له بصمة إلهيّة.
يقول يوحنّا في الإصحاح الثّالث: “كان إنسان من الفريسيّين اسمه نيقوديموس رئيساً لليهود. هذا جاء إلى يسوع ليلاً وقال له: يا معلّم نعلم أنّكَ قد أتيتَ من الله معلّماً لأنّ ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات الّتي أنتَ تعمل إن لم يكن الله معه”، إذاً هو يعترف بارتباط يسوع بالله عندما قال له “معلّم”. “أجاب يسوع وقال له: الحقّ الحقّ أقول لكَ (في إنجيل يوحنّا فقط يقول يسوع “الحقّ الحقّ” مرّتيْن أمّا في الأناجيل الثلاثة الباقية فيقول “الحقّ” مرّةً واحدةً، والتّكرار دليل على تأكيد صحّة القول) إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله.
قال له نيقوديموس: كيف يُمكن للإنسان أن يولد وهو شيخ (تجري مقارنة بين الفكر البشريّ وفكر يسوع، وهذا ما ستتذكّرونه في ما بعد مع السّامريّة في الإصحاح الرّابع عندما بدأ بأسئلةٍ بسيطةٍ ثمّ ارتفع بها إلى الأعلى) أَلَعَلّهُ يقدر أن يدخل بطن أمّه ثانيةً ويولد؟ أجاب يسوع: الحقّ الحقّ أقول لكَ إن كان أحد لا يولد من الماء والرّوح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد والمولود من الرّوح هو روح. لا تتعجّب إنّي قلتُ لكَ ينبغي أن تولدوا من فوق. الرّيح تهبّ حيث تشاء وتسمع صوتها لكنّكَ لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كلّ مَن وُلِد من “الرّوح” سيُصبح مصدره مجهولاً بالنّسبة إليك، لا تُدركه.
أجاب نيقوديموس وقال له: كيف يُمكن أن يكون هذا؟ أجاب يسوع وقال له: أنتَ معلّم إسرائيل ولستَ تعلم هذا؟! الحقّ الحقّ أقول لكَ إنّنا إمّا نتكلّم بما نعلم ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون شهادتنا إن كنتُ قلتُ لكم الأرضيّات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إن قلتُ لكم السّماويّات، وليس أحدٌ صعد إلى السّماء إلّا الّذي نزل من السّماء، ابن الإنسان الّذي هو في السّماء. وكما رفع موسى الحيّة في البريّة هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكن لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة لأنّه هكذا أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة، لأنّه لم يُرسل الله ابنه إلى العالم لِيدين العالم بل لِيُخلّص به العالم.
الّذي يؤمن به لا يُدان والّذي لا يؤمن به قد أدين لأنّه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد وهذه هي الدّينونة، أنّ النّور قد جاء إلى العالم وأحبّ النّاس الظّلمة أكثر من النّور لأنّ أعمالهم كانت شرّيرة، لأنّ كلّ من يعمل السّيّئات يبغض النّور ولا يأتي إلى النّور لئلّا تُوبَّخ أعماله، وأمّا من يفعل الحقّ فيُقبل إلى النّور لكي تظهر أعماله أنّها بالله معمولة”.
في القسم الأوّل من الإصحاح الثّالث، خلال هذا النّقاش بين يسوع ونيقوديموس، تُلا حظون أنّ يسوع أجاب على تساؤلات نيقوديموس. تكمن المسألة في أن تؤمن بيسوع ابن الله. لم يأتِ يسوع لِيدين ولكن لِيُخلّص. إذاً ليست الدّينونة عملاً يقوم به يسوع بل هي نتيجة قرارٍ اتّخذته بنفسك. النّور هو الأساس ولكن مَن يُحبّ الظّلمة لا يستطيع أن يكون في النّور فتكون الدّينونة اختيارك للظّلمة. والدّليل على ذلك، إذا كان أحدهم مسجوناً في مكانٍ لا يدخله النّور وفجأةَ تراءى له نور الشّمس سيُصبح كالأعمى لأنّ الشّمس تُنير للّذين في النّور وتُصبح عدوّةً للّذين في الظّلام. لذلك النّور هو عدوّ الإنسان الّذي يعيش في الظّلمة فليس للنّور طبيعتان أو وظيفتان ولكن المشكلة موجودة في الإنسان.
في بداية يسوع وعمله وكرازته، تكلّم على النّور والإيمان، فإذا أنتَ آمنتَ بيسوع المسيح وقبلت النّور لن تخجل بأعمالكَ إلّا إذا ارتكبتَ ما تُريد أن تخفيَهُ وفي هذه الحال ستشعر بالحنين إلى الظّلمة. وهذا ليس بالموضوع الجديد، فمنذ القرن السّابع قبل الميلاد، حامورابي هو الّذي وضع القوانين ومنها قانون العين بالعين والسّن بالسّن الّذي كان يُعتبر إنجازاً قانونيّاً للعدل. في ذلك الوقت، كانوا يؤمنون بأنّ إله القمر هو أقوى من إله الشّمس لأنّ القمر يظهر في اللّيل، أيّ في الوقت الّذي تتمّ فيه المؤامرات والسّرقات وكلّ الأعمال الشّريرة. إلّا أنّ حامورابي جعل الشّمس هي الإله الأهمّ فهي تظهر في النّهار، ولذلك أصبح القانون يفضح أعمالك.
مشكلة الإنسان الأساسيّة هي في فكرة النّور وفكرة الظّلمة. إذا كان يسوع هو محورك، إذاً أنتَ عاشق للنّور وتنتمي إليه، ولكن إذا كنتَ رافضاً ليسوع فأنتَ في الظّلمة، كائناً من كان إلهك، غير يسوع، ستكون في الظّلمة.
إذا كنتَ تعترف بيسوع فهذه هي الولادة في المأوى الرّوحي أيّ المعموديّة. إذاً، اليوم، في الإصحاح الثّالث شرحٌ لسرّ المعموديّة في الكنيسة. كان النّاس يتعمّدون بنكران إلههم الوثنيّ الّذي كان يُعتبر شيطاناً لأنّه ضدّ الله، والاعتراف بيسوع المسيح ابن الله المخلّص. مَن أخذ الرّوح هو مَن قبِل كلمة الإنجيل والعكس صحيح.
لذلك قال “مَن لم يولد بالماء والرّوح” أيّ مَن لم يولد من صلب الله. إذاً الولادة الجديدة الّتي تأتي من عند الله هي الثّانية ومختلفة عن الولادة الأولى، هي عندما تؤمن بأنّ يسوع المسيح هو المخلّص. دستور الإيمان الأوّل عند المسيحيّين هو الإصحاح الثّالث من إنجيل يوحنّا حيث يتكلّم يسوع في صيغة الجمع “إنّنا نتكلّم بما نعلم ونشهد بما رأينا” هذا كلام الإنجيليّ يوحنّا على لسان يسوع “ولستم تقبلون شهادتنا” أيّ الشّهادة بالإنجيل. هنا، رفع يسوع الحديث إلى مكانٍ آخر.
المولود من الرّوح هو روح: أوّلاً، عليكم أن تتحرّروا من فكرة الرّوح والجسد بحسب الخلفيّة الفلسفيّة اليونانيّة أيّ أنّ الرّوح غير ماديّ وبالتّالي هو حسن، وبأنّ الجسد ماديّ وبالتّالي هو سيّء. أمّا في الإنجيل فالرّوح يعني أنّك صرتَ في عالم الله والجسد يعني أنّكَ في عالم البشر أو الأرض.
إذاً كلّ مَن وُلِد من الرّوح القدس يُصبح من نوعيّة الله نفسها. أنتَ روح إذاً أنتَ تنتمي إلى عائلة الله. من هنا تفهمون أنّ المعموديّة هي التّبني أي أنتَ تُصبح ابن الله. والمعموديّة ليست للتّخلّص من الخطيئة الأصليّة بهذه البساطة فقط، بل هي عملٌ إلهيٌّ لم يشترك فيه أحدٌ فهو إعلانٌ بأنّ الله قرّر، من دون رأيك، أن يجعلك ابنه. فإذا قبلت بذلك ستدخل عالم الرّوح وهو النّور أمّا إذا رفضتَ فستبقى في عالم الظّلمة. الولادة بالمعموديّة هي إعلان بأنّكَ ابن الله أيّ أنتَ تصبح مثل يسوع، فهو ابن الله.
معنى “مثل”، لغةً، أنّك تصبح وريث أبيكَ فترث منه الملكوت. لذلك قال يسوع لِنيقوديموس في بداية الحوار: “إن كان أحدٌ لا يولد من فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت الله”. كلّ فكرة الإيمان بيسوع هي في هذه الآية: “لأنّه هكذا أَحَبَّ الله العالم” وحبّ الله للعالم هو “لأنّه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ مَن يؤمن به”. إذاً لقد حصلتَ على حياةٍ أخرى، مختلفة وجديدة تحياها في هذا الجسد المُهترئ والضّعيف. تكمن خطورة فكر العالم في أنّ هدفه الوحيد هو جذبك إليه إمّا بالتّرغيب والإغراء إمّا بالتّرهيب.
والخطورة الأكبر هي عندما يُمارس عليك الإغراء ويشدّك نحو الأسفل، ولكن مَن وُلِد من فوق، أيّ أنّ فكره وذهنه روحيّان، أيّ أنّه يُفكّر في الانسجام مع فكر الله، لا يخاف ولا يخضع للتّرغيب أو للتّرهيب. يزرع العالم الخوف فيك بالتّهديد بأنّك إن لم تعد من هذا العالم ستُصبح أمام الموت، ولكنّه فعليّاً يُهدّدك كي تبقى في الموت أمّا المسيح فلا يُهدّدك حتّى لو ارتكبت الخطيئة بل يأتيك بالبشرى وأنتَ خاطئ فتكون هديّته لكَ هي النّور. كلّ بشريّ، مهما عظُمَ شأنه في الدّنيا، هدفه أن تبقي معه. لذلك كانت وظيفة اليهود والفريسيّين ألّا يحصل الوثنيّون على ما يحصلون عليه إلّا إذا أصبحوا يهوداً، ولكنّ يسوع قال إنّ الوثنيّين يستطيعون أن يُصبحوا مسيحيّين من دون المرور باليهوديّة، فهو الباب، وغيره لصٌّ سارِقٌ. وهذا هو ما لا يقبله أحد.
على سبيل المثال، إذا قرّر زوجان أن ينفصلا ولم يحصلا على الطّلاق في الطّائفة الّتي ينتميان إليها، يلجآن إلى طائفة أخرى وهذه الأخرى تقبلهما لكي يزيد عددها وليس بهدف حلّ مشكلتهما الزّوجيّة. العلّة الكبرى هي فكرة الأقليّة والأكثريّة. فالأقليّة تجعلك في مواجهة الموت خوفاً من الأكثريّة. يسوع، في إنجيل يوحنّا، هو من الأقليّة إلى حدّ أنّه، وهو على الصّليب، لم يبقَ معه سوى شخصٍ واحدٍ، وهو يوحنّا الحبيب إضافةً إلى أمّه.
إذاً لقد أنهى يسوع فكرة الأقليّة والأكثريّة كما فعل بولس الرّسول أيضاً، لأنّه ليس المهمّ أن تكون من الأكثريّة أو من الأقليّة بل المهمّ هو كيف تُفكّر وماذا تقول وفي من تحيا، ولا تخف أن يُبعدوك، فمعلّمك غرّبوه فقتلوه. لو لم يُقنع النّاس بأنّه غريب لَكانوا دافعوا عنه إلى حدّ أنّ المُقرّبين منه، يخجلون به وينكرونه كما فعل بطرس. وكذلك أنت، يجعلونك غريباً بطرقهم، كي تُطرد من مجتمع الأكثرية.
“هل تركع وتعود إلى العالم أو تتحرّر منهم وتذهب إلى الملكوت؟” قال لهم يسوع: “ثقوا فأنا قد غلبتُ العالم”. الشّرّ لا يستطيع أن يقبل النّور والّذي يعيش في النّور لا يخاف الشّرّ ولا الظّلمة لأنّه يعرف أنّها وَهْمٌ والنّور هو الحقّ. ماذا كان سيحصل لو لم يقتلوا يسوع؟ أجاب رئيس المَجمَع: “خيرٌ أن يموت واحدٌ بدلاً من الأمّة بكاملها” لقد فهم أنّ يسوع هو العدوّ. قال ذلك للّذين أمضَوْا سنيناً يعتبرون أنفسهم تلاميذ الله ولكن عندما جاء النّور الحقيقيّ لم تقبله خاصّته.
إذاً العداوة هي من الدّاخل والعدوّ الحقيقيّ هو النّور. لذلك جمهور الشّيطان هو أكثر من جمهور الله لأنّ الإنسان يبحث دائماً عن الّذي يُفيده وهو موجود في الظّلمة. لقد واجه يسوع نيقوديموس بهذه الحقيقة. ولكن إذا أنتَ قبلت بالنّور، لا ضرورة للخوف لأنّ المحبّة تطرد الخوف خارجاً والعكس صحيح، فالخوف يطرد الحبّ خارجاً.
تلاحظون أنّ هناك عداوةً جديدةً بين النّور واللّا نور أيّ الظّلمة وبين الحبّ والخوف. أتاكم يسوع بالحبّ ولكنّ العالم بادره بالخوف. الحبّ والخوف لا يلتقيان وسيُلغي واحدهما الآخر. استطاع جمهور الخوف أن يقتل، لِلحظات قليلة، وحتّى هذه السّاعة لا تزال العداوة موجودة بين الحبّ والخوف. نتيجة الخوف هي أن تحمل سيفاً، أمّا نتيجة الحبّ فهي أن تُصلب. هذان طريقان مختلفان وهنا الحكمة وصبر القدّيسين. ليس الخوف فقط من أن يقتلك أحدهم بل إنّ الإغراء الموجود فيك يخلق خوفاً من أن تخسره لذلك عندما تشعر بأنّ أحدهم سيحلّ مكانك تخلق عداوةً بينك وبينه.
يسوع المسيح، بحسب بولس الرّسول، يقول: “أمّا نحن فلنا فكر المسيح” يسوع هو الوحيد الّذي لم يخف من أن يحلّ مكانه أحد لذلك وصل إلى الصّليب وإلى ما بعد الصّليب فركعت تحت أقدامه كلّ سلطات هذه الدّنيا. من لا يخاف أن يحلّ أحدهم مكانه يكون مكانه أصيلاً لم يسرقه. كونه ابن الله ومقتنع بذلك، لم يخف من أن يحلّ أحد مكانه، وبذلك ألغى الخوف وحافظ على الحبّ الّذي لا يوصل إلّا إلى الصّليب. كلّ من أحبّ سرى الموت فيه ولكنّ الحياة تسري في مَن أَحبَّهُ.
يقول بولس الرّسول: “الموت يسري فينا والحياة فيكم” أيّ لأنّنا نحبّكم أعطيناكم الفرح وكلمة الله. إذاً من اقتبل الحبّ نهجاً، عانق الصّليب عِناقاً، ولا تستطيع أن تهرب من هذه المعادلة ولا تستطيع أن تحبّ من دون أن تُصلب، فالحبّ جنون لأنّك تقتله ويحبّك، ويطلب من أبيه أن يغفر لك ويجعلك جاهلاً لأنّ الله يُحاكم العارفين ويرحم الجاهلين “لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون”. ارتضى يسوع الصّليب لأنّه يعرف أنّ الحبّ يُوَلّد الصّليب. هذا ليس دين العذاب بل دين الحبّ، فكما أنّ الحبّ وَلَّدَ الصّليب، الصّليب وَلَّدَ القيامة. لذلك الّذين يقبلون النّور لا يخجلون بأعمالهم، فكلّ من يرتكب الخطيئة خطّط لها سرّاً ولكن الّذين في النّور لا يرتكبون الخطيئة عن قصد لكنّهم يصنعون الخير سرّاً. إذاً الّذين يولدون “من فوق” يُغيّرون العالم.
يُعطيك هذا النّصّ نوعيّة تفكير تستطيع أن تُواجه من خلالها المشكلة الكبيرة والمشكلة الصّغيرة ولكنّك تبدأ بمواجهة الصّغيرة حتّى تتمكّن من مواجهة الكبيرة، ولهذا عليك أن تكون يقِظاً ومُنتبِهاً دائماً شرط أن تكون كلمة الله ساكِنة فيك فهي المُنبّه. لذلك إن لم تكن متعلّماً على يد المعلّم يسوع ستكون ذلّاتك لا تُحْصى.
يُتابع يوحنّا: “وبعد هذا، جاء يسوع وتلاميذه إلى أرض اليهوديّة (بدأ بالتكلّم على تلاميذه لإثبات بأنّه معلّم) ومكث معهم هناك وكان يُعمّد (بعد التّكلّم مع نيقوديموس على الماء والرّوح، ذكر يوحنّا أنّه يُعمّد إذاً المقصود هو المعموديّة) وكان يوحنّا أيضاً يُعمّد في عين نون بقرب ساليم (إذاً يسوع ويوحنّا يُعمّدان ولكن سنرى في ما بعد أنّ يسوع لم يكن يُعمّد) لأنّه كان هناك مياه كثيرة وكانوا يأتون ويعتمدون ولأنّه لم يكن يوحنّا قد أُلقي بعد في السّجن.
وحدثت مباحثة بين تلاميذ يوحنّا ويهود من جهة التّطهير. فجاءوا إلى يوحنّا وقالوا له: يا معلّم هوذا الّذي كان معك في عِبْر الأردن الّذي أنتَ قد شهدتَ له هو يُعمّد والجميع يأتون إليه”. هنا يجعل اليهود تناقضاً بين العهد القديم والعهد الجديد على الرّغم من أنّ الإنجيل يقول إنّ يسوع جاء ليُحقّق كلمة الله الواحدة ويُفسّرها، فأراد اليهود أن يخلقوا التّناقض بين كلمة الله في العهد القديم وكلمة يسوع. ونحن وقعنا في هذا الفخ إذ إنّنا اعتبرنا أنّ الله في العهد الجديد هو أفضل من العهد القديم وبهذا انتصر اليهود. قالوا ليوحنّا إنّه يُعمّد كما يسوع يُعمّد وبالتّالي لا فرق بينهما، إلّا أنّهم انتبهوا أنّ كثيرين هم الّذين يأتون إلى يسوع أيّ يؤمنون به.
يُتابع: “أجاب يوحنّا وقال: لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئاً إن لم يكن قد أُعْطِيَ من السّماء. أنتم أنفسكم تشهدون لي أنّي قلتُ لست أنا المسيح. (يسعى اليهود إلى جعل يوحنّا مثل المسيح كي يستقصوه فأجابهم يوحنّا بأنّه هو العهد القديم ويسوع هو العهد الجديد وبالتّالي لا يستطيع أن يحلّ مكان العهد الجديد) بل إنّي مرسَلٌ أمامه. مَن له العروس فهو العريس وأمّا صديق العريس الّذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس إذاً فرحي هذا قد اكتمل. ينبغي أنّ ذلك يزيد وأنّي أنا أنقص.
الّذي يأتي من فوق هو فوق الجميع والّذي من الأرض هو أرضيّ ومن الأرض يتكلّم الّذي يأتي من السّماء هو فوق الجميع. وما رآه وسمعه، به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها. ومَن قبل شهادته فقد ختم أنّ الله صادقٌ (بيسوع المسيح يُعلن صدق الله) لأنّ الّذي أرسله الله يتكلّم بكلام الله لأنّه ليس بِكَيْلٍ يُعطي الله الرّوح. الآب يُحبّ الابن وقد دفع كلّ شيءٍ في يده. الّذي يؤمن بالابن له حياةٌ أبديّةٌ والّذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياةً بل يمكث عليه غضب الله”.
لسنوات عديدة كان اليهود يحتفظون بالتّوراة ويعتبرون أنّ الله هو لهم وحدهم ولكن عندما اكتملت كلمة الله لِيُثبتها بيسوع فهو الختم الحقيقيّ لكلمته، رفضوه لذلك سيأتي عليهم غضب الله. لقد قال يوحنّا الكلام نفسه الّذي قاله المسيح، إذاً كلمة الله في العهد القديم هي نفسها في العهد الجديد. وتكمن المشكلة في أنّ الوجوه تتغيّر ولكن لا شيء جديد تحت الشّمس.
لقد فهمنا، اليوم، كيف تكون أنتَ مُعمَّداً بالرّوح القدس, فالمعموديّة هي معموديّة الفكر والطّريقة لكي يتعمّد الفكر هي في أن تسمع دائماً كلمة الله. معموديّة الفكر هي معموديّة يوميّة بكلمة الله، ولكنّ الّتي تجعلك ابن الله تحصل مرّةً واحدةً. لذلك، خلال القدّاس، يقرأون مقطعاً من الرّسالة وآخر من العهد القديم كما مقطعاً من الإنجيل وآخر من المزامير أيّ من الكتاب المقدّس كلّه. في الكنيسة الأولى، كانت قراءاتهم تشمل مقاطع من العهد القديم ومن العهد الجديد. هذه هي كلمة الله الّتي تُعمّدكَ فتُصبح ابنه. لذلك خلال القدّاس يُقرأ الإنجيل قبل المناولة لكي تقبل به وتُصبح ابن الله فَيحقّ لكَ أن تتناول.
ملاحظة: دُوّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.