محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،

  الجمود الروحيّ،

إنّ موضوعَنا اليوم، يتمحوَر حول الجمود الرّوحي، أي حول الإنسان الّذي يعيش حالةً مِنَ الجمود على صعيد العمل والعاطفة والتّطور. إنّ الجمود الروحيّ لا يعني الفتور الروحيّ، غير أنّه يؤدي إلى فتورٍ روحيّ. إنّ الجمود الروحيّ في حياة الإنسان يدفعه إلى الشعور بالضَّجر والـمَلل وفُقْدانِ الفرح والرّجاء في غدٍ أفضل، لذا تُصبح جميع أيّامه متشابهة دون أن يكون لها أيُّ رونق، فيَتَمنّى الموت معتقدًا أنّه بهذه الطريقة يضع حدًّا لتلك المرحلة. إنّ البشريّة مُعرَّضة للوقوع في هذه الحالة، غير أنّها قد تطول عند البعض، أو تَقصُر عند البعض الآخر، استنادًا إلى نظرة الإنسان إلى تلك المرحلة. كما أنّنا نتفاجأ حين نجد أن البعض يتمنّون عيش تلك الحالة وإطالة مدّتها، بينما الكثيرون يرغبون بتقصير فترتها. إنّ عيش تلك الحالة تختلف بين إنسانٍ وآخر إذ إنّ الأمر يتعلّق بِنَفسِيَّة الإنسان الداخليّة.

إنّ الإنسان موجود في داخل العالم، والعَالَم موجودٌ في داخله: إنّ عالَمنا اليوم هو بمثابةِ غرفةٍ مغلقة لا باب لها، تضمّ كلّ البشريّة. إنّ المؤمن الّذي يتمتّع بعلاقة متينة وقويّة مع الربّ، لا يستسلم لِوَضْعِه بل يسعى إلى إيجاد حلٍّ للخروج مِن تلك الغرفة، مِن خلال علاقته بالربّ، فالسّماء هي الحلّ الوحيد لخروجه مِن تلك الغرفة. إنَّ المؤمن ينجح في مواجهة تلك الصعوبات والحواجز وتَخَطِّيها لأنّه يُدرِك من خلال علاقته بالربّ، مفهوم الحبّ الحقيقيّ، ولذا هو يتمتّع بالرّضى النفسيّ، والقناعة أنّ الله هو الدّاء لكلّ صعوبة في هذا العالم. 

إنّ المؤمن الحقيقيّ يستطيع أن يرى كلّ الإشعاعات الفكريّة والروحيّة الّتي يمدّه الربّ بها لمواجهة حالة الجمود فيتخطّى كلّ الحواجز الّتي تعيق طريقه صوب السّماء، أمله الوحيد في الخلاص مِن تلك الحالة. أمّا الإنسان الّذي لا يسعى لبناء علاقة مع الربّ، فإنّه لن يجد أيّ حلٍّ أو مخرجٍ له مِن تلك الغرفة، لذلك سَتَزدادُ حالتُه كآبةً، كما تزداد نظرته إلى الحياة سوداويّةً، لذا تطول مرحلة الجمود الّتي يُعاني منها. إنّ الإنسان لن يتمكّن مِنَ التغلُّب على حالة الجمود الّتي يعيشها إلّا مِن خلال وَضعِه الروحيّ والنفسيّ، لا مِن خلال انتظاره لِتَغيُّر الأوضاع الخارجيّة. إنَّ انتظار الإنسان تَحَسُّنَ الأوضاع الخارجيّة، سيزيده إكتئابًا وحُزنًا، أمّا إنْ سعى إلى تَخَطي تلك المرحلة مستندًا إلى وَضعِه الروحيّ المبنيّ على قناعته بأنّ الله لن يتركه، وأنّه سيمنحه السّماء، فإنّه سيجتاز تلك المرحلة سريعًا.

إنَّ حالة الجمود تترافق مع فتورٍ روحيّ، إذ تتحوّل صلاة الإنسان إلى تمتمة كلمات كما يفقد كلّ حبٍّ للحياة وكلّ رغبةٍ لمواجهة صعوباتها. إنّ هذا الجمود يُعدي الآخرين، إذ إنّ الكآبة الّتي يعيشها الإنسان تنتقل إلى الآخرين مِن خلال تصرّفاته، وكلماته الّتي تخلو مِن حبّه للحياة. إنّ اليائس يرفض سماع أيّ حديث عن الإيمان والرّجاء والتفاؤل، ويجعل مِن وَضعِه البائس محور الحياة بأسرها، طالبًا مِنَ الجميع مساعدته للخروج مِن هذا الوَضع دون أن يقوم بأيّ مجهود يُذكَر لمواجهة تلك الأزمة. إنّ هذا الإنسان اليائس ينظر إلى كلّ حديث عن الإيمان والفرح الدّاخليّ، على أنّه مجرّد نظريّات لا يَسَعُها مساعدتَه على النّهوض مِن حالة الجمود الّتي يعيشها. لا يمكن للإنسان أن يبني بناءً جديدًا على بناءٍ قديم، لذا عليه أن يهدِمَ كلّ بناءٍ قديم ليتمكّن مِن أن يُشيِّد بناءً جديدًا صالحًا. وبالتّالي لا يمكن للإنسان النّهوض مِن أزمة الجمود الّتي يُعاني منها، والانتقال إلى حالةٍ أخرى دون تحطيم كلّ المفاهيم القديمة، واعتماد مفاهيم أخرى جديدة. 

إنّ بعض البشر يُحوِّلون هذه الحالة مِنَ الجمود إلى هوايةٍ، فيزرعون الكآبة واليأس في النّفوس، وهذا ما يصعب إزالته منها. إنّ الأدوية الّتي يلجأ إليها الأطبّاء للتَّخفيف مِن حدّة الكآبة عند النُّفوس لن تكون نافعة إلّا عند النّفوس الّتي تُعاني مِن كآبةٍ خارجيّة أي تلك الناتجة عن صدمة خارجيّة معيّنة. إنّ الأدويَة المضادّة للكآبة غير قادرة على تحويل نظرة الإنسان السَّوداويّة في الحياة إلى نظرة إيجابيّة تفاؤليّة، ولذا فإنّ الّذين يُعانون من كآبةٍ داخليّة يحتاجون إلى طبيب نَفسِيّ. ولكن استنادًا إلى خبرتي في هذه الحياة، فإنّي أجد أنَّ كلمة الله أي الإنجيل هي الدّواء الشَّافي لكلّ كآبةٍ داخليّة، فيسوع المسيح هو الطبيب القادر على شفاء كلّ البشر مِن كلّ مرضٍ نَفسِيّ وروحيّ. 

على الإنسان ألّا ينظر فقط إلى وَضعِه الاقتصاديّ ويَتَذمّر منه، بل عليه أن ينظر أيضًا إلى الآخرين وأوضاعِهم الاقتصاديّة، فيجد أنّ الضِّيقة الاقتصاديّة الّتي يعاني منها تُصيب أيضًا كلّ مَن حوله، ولذا لا ضرورة للتَّذمُر لأنّه لن يُجدي نفعًا. ليس المقصود استسلام الإنسان لوضعِه واليأس منه، إنّما المقصود هو محاولة تَقَبُّل هذا الوضع، والسَّعي للنّهوض مِنه كما يفعل الآخرون. لا ضررَ مِن أن يتعلّم الإنسان الّذي لا يتمكّن وحده من مواجهة حالة الجمود الّـتي يُعاني منها، مِنَ الآخرين كيفيّة مواجهة تلك المرحلة بِصَبرٍ. على الإنسان أن يتذكَّر دومًا أنّه مهما طالت الأزمات الاقتصاديّة والصّعوبات الحياتيّة، فهي ستزول يومًا ما، إذ لا شيء دائمٌ وخالِدٌ سوى الله.

إنّ الشيوعيّة الماركسيّة تَعتبر أنَّ الدِّينَ هو أفيونٌ للشعوب، على حدّ قول فلاسفتها، فالدِّين بِنَظرِهم يُخرِج وهميًّا الإنسان مِن واقع هذه الحياة ومشاكلِها، دافعًا إيّاه للتفكير في الحياة الثانية. إنّ هذه النظريّة لا تُعبِّر عن حقيقة المسيحيّة، فالإنجيل لا ينقل الإنسان وهميًّا إلى عالمٍ آخر ريثما تنتهي الأزمات الحياتيّة الّـتي يُعاني منها ثمّ تُعيدُه إلى الحياة الأرضيّة، كما وأنَّ الإنجيل لا يملك حلولاً سحريّة فوريّة لكلّ مشاكل الإنسان. ولذا لا يمكن للإنسان أن يمنح المحزون على فقدان أحد الأحبّة تعزيةً إنسانيّة بإعلانه أنّ الحلّ لمشكلته هو التفكير في الحياة الأبديّة، فالمحزون لا يستطيع أن يرى هذا الحلّ لمشكلته طالما أنّه في عمقِ الأزمة. كذلك الأمر بالنسبة إلى العاطل عن العامل، إذ لا يمكن تعزِيَته عبر الطلب مِنه أن يُصلّي عِوضَ أن يبحث ويُضاعف جهوده في البحث عن وظيفة. إنّ الله لا يستطيع أن يجد حلّاً لمشاكل الإنسان إنْ لم يُرِد هذا الأخير ذلك، أو لم يقبل بِتَدَخُّل الله في حياته.

“إنّ الله قادرٌ على كلّ شيء” مقولةٌ تطرح صعوبةً في فَهم المؤمن لها، فالإشكاليّة لا تكمن في فَهمِ المؤمن لكلمة “قادر”، إنّما في فَهمِه لكلمة “كلّ شيء”. قد يتفاجأ البعض إن قُلتُ إنّ الله ليس قادرًا على كلّ شيء، إذ إنّ هذه المقولة تتطلّب شرحًا لمفهوم “كلّ شيء” في نظر الإنسان، كي نستطيع الجَزِم إن كان الله قادرًا على كلّ شيء أم لا. إنّ بعض المؤمِنِين يتذّرعون بهذه المقولة للتكاسل والاستقالة مِن مسؤوليّاتهم، قائلِين إنّ الله قادر على كلّ شيء، إنّهم قَدَريِّون يَنْسِبُون مسؤوليّة الأخطاء الناتجة عن إهمالهم إلى الله. وإليكم مَثلاً مِن واقع الحياة يُوضِح لكم تلك المسألة: إنْ لم يتمكّن أحد العاطلين عن العمل من إيجادِ وظيفةٍ، فإنّه يَنسِبُ ذلك إلى الله قائلاً إنّ الله لم يُوَفِّقه، غير أنّ الحقيقة هي أنّ هذا الإنسان لم يبحث بما فيه الكفاية كي يجد وظيفةً له، أي أنّ لا علاقة لله في ذلك. 

إنَّ هذا الإنسان، العاطل عن العمل، قد استسلم لِوَضعه. إنّ عدم إيجاد هذا الإنسان لوظيفةٍ لا يعني بالضرورة عدم وجود وظائف شاغرة، أي أنّ الأمر الّذي لم يتمكّن الإنسان من إيجاده، لا يعني بالضّرورة عدم وجوده، إنّما يعني أنّ هذا الأخير لم يبحث بما فيه الكفاية. لا يجوز للإنسان أن يُعمِّم خبرته الخاصّة على البشريّة، كأَنْ يقول في هذه الحالة، أنّ لا وظائف شاغرة، بل عليه أن يقول إنّه لم يتمكّن بعد مِن إيجاد وظيفة له.

إنّ الإنسان الّذي يُعاني مِن جمودٍ روحيّ، يسعى إلى أن يجعل مِن وَهْمِه حقيقةً، لذا هو يُعمِّم خبرته الشخصيّة، كأنْ يقول إنّه لا وفاء عند البشر، أو أن يقول إنّه لا وجود للحبّ. فمثلاً قد يُعمِّم أحدهم خبرته الخاصّة فيقول إنّه لا نفع مِن الإحسان إلى أحد في هذا العالم، إذ لم يُقدِّر أحدٌ عملَ الخير الّذي قام به. إنّ مِثل هذا القول هو نتيجة خبرة هذا الإنسان الخاصّة، وبالتّالي لا يجب تعميمها لأنّ في ذلك تَعميَةٌ للآخرين عن رؤية الحقيقة. إنّ مِثل تلك الخبرات الخاصّة السلبيّة تنبع مِن داخل الإنسان ولا تُعبّر عن الحقيقة، لذا لا يستطيع الإنسان تقديم البراهين عنها وإقناع الآخرين بها على أنّها حقيقة عامّة. 

إنّ كلمة الله قد انسكبت في قلوب جميع البشر، غير أنّ الإنسان الّذي ينجح في النّظر إلى مشاكله بإيجابيّة هو إنسانٌ قد تفاعل مع كلمة الله المزروعة في داخله، أمّا الّذي لم يتمكّن مِن رؤية الأمور الّتي يُعاني منها بإيجابيّة، هو إنسانٌ لم يتفاعل مع كلمة الله في داخله، بل سَمِعَها وحوَّلها إلى صَنَمٍ، غير قادرة على النّمو وإعطاء ثمارٍ في حياته. إنّ المؤمِن هو كسائر البشر يتعرَّض للحزن والألم والوجع والضِّيق والوِحدة، ويسوع المسيح هو أعظم دليل على ذلك. 

إنّ يسوع المسيح قد اختبر الوحدة حين كان مُعلَّقًا على الصليب، إذ لم يجد قربه سوى يوحنّا الحبيب مِن بين رُسُلِه الاثني عشر. إنّ بولس الرّسول قد عانى هو أيضًا مِنَ الوحدة، إذ لم يتبَقَّ له سوى تلميذه طيموتاوس. قلائل هم الّذين يستمرُّون برفقة الآخرين حين يُعاني هؤلاء من الأزمات والضِّيقات. إنّ أكثر الأشخاص الذين يُعانون مِن الوِحدة هم الزّعماء، الـمُحاطون بجماهير غفيرة. إنّ الزّعماء يُدرِكون تمامًا أنَّ تلك الجماهير تُحاوطهم مِن أجل مصلحة شخصيّة خاصّة لا حبًّا بهم، لذا عندما تنتهي المصلحة، يتوارى جميعهم عن نظر الزّعماء، فيعيش الزّعماء حالة مِنَ الوحدة القاتلة.

لا ترتبط سعادة الإنسان بالأوضاع الخارجيّة إنّما في نظرته إلى السعادة والتعاسة وللحياة. إنّ السّعادة لا ترتبط بنظرة الإنسان الإيجابيّة إلى الحياة: فأن يكون الإنسان إيجابيًّا لا يعني بالضَّرورة زوال الأمور الصّعبة في الحياة، إنّما يعني أن يتحلّى الإنسان بالطاقة الّتي تجعله يسعى لإيجاد حلولٍ لمشاكله. إنّ الإنسان هو المسؤول عن مشاكله، ولذا عليه أن يحاول أن يجد لها حلّاً، فالحلول لن تأتيه من السّماء نتيجة ظهوراتٍ إلهيّة، لأنّ الله لا يملك حلولاً سحريّة. 

نّ الله لا علاقة له بفشل الإنسان بمشاريعه، ولذا هو لا يملك حلولاً لها. إنّ الله لا علاقة له بالموت، فهو ليس المسؤول عن موت البشر، إذ إنّ إلهنا هو إله الحياة لا إله الموت. غالبًا ما ينسب المؤمن كلّ نجاحٍ يختبره إلى الله، وبذلك يُعبِّر عن إيمانه بالربّ وشكره ومحبّته لله، غير أنّ الله لا يتدخّل مباشرةً في الحَدَث إنّما يتدخّل في قلب الإنسان وعقله، فيُنير له عقله وقلبه بواسطة كلمته الإلهيّة، فيتمكّن المؤمن مِن إيجاد الحلول الفاعلة لمشاكله. إنّ الله ليس مسؤولاً عن تفاصيل حياة الإنسان الصّغيرة، إذ إنّ الله قد أعطى الإنسان حريّة التصرّف، غير أنّه يهتّم بالإنسان ويتدخّل حين يطلب الإنسان ذلك مِن خلال الرّوح القدس. لا يجب أن نسمح للّذين يُعانون من الكآبة نتيجة الأوضاع الاقتصاديّة الّتي تعصف في البلاد من نَقْلِ الكآبة إلينا، لذا علينا أن نقول لهم عندما يبدأون بالتشكّي من تلك الأوضاع أمامنا إنّنا جميعنا نُعاني من تلك الأزمة الاقتصاديّة، والطلب منهم التوقّف عن التشكّي لأنّ كلّ إنسان لديه ما يكفي مِن الهموم. في ظلّ تلك الأزمة، نرى أنَّ الفرح والسلام والتفاؤل قد فُقِد مِن قلوب البشر.

إنّ كلّ الأزمات الّتي يُعاني منها الإنسان في هذا العصر، عانت منها الأجيال السّابقة أيضًا، غير أنّ حاجات أولئك لم تكن بمقدار حاجاتنا اليوم، فَمَع ازدياد حاجات الإنسان تزداد همومه، وكذلك سَعْيه إلى العمل لأجل توفير حاجاته، وقد لا يتمكّن مِن توفيرها بسبب قلّة العمل، ولذا تُسيطر عليه الكآبة. إذًا لا تكمن مشكلة الإنسان الّذي من الجمود الروحيّ، في الأزمة الاقتصاديّة فحسب، إنَّما في ازدياد حاجات الإنسان الّتي لا يستطيع هذا الأخير في ظلّ تلك الأزمة من إيجاد موارد ماديّة كافية لإشباع كلّ تلك الحاجات، ولذا فالحلّ يكون في العمل على ذهنيّة الإنسان وتحسين بعض المفاهيم فيها. 

وإليكم مِثال على ذلك: حين يكون الإنسان في منزله، نراه يتكبَّر على بعض الأمور، فيرفض تناول الطّعام إلّا ساخنًا ولا يشرب إلّا في كوبه الخاصّ، أمّا عندما يكون في نزهةٍ في البريّة، فإنّه يتناول ما لا يقبل بِتَناوله في حياته اليوميّة، ويشرب في الآنية المتوفِّرة لديه دون أن يتذَّمر بل تتحوَّل نزهته إلى مدعاة لفرحه. كذلك مع الأطفال الفقراء المحتاجين الّذين يقبلون الثياب القديمة ويمتلئون بهجةً لحصولهم عليها، أمّا أبناء العائلات الميسورة فإنّهم لا يقبلون بارتداء الألبسة الّتي يمتلكونها أكثر من مرّة واحدة. فما سرّ هذا الفرح الموجود عند الأطفال الفقراء، وغيابه عند الأطفال الميسورين؟ إنّ حاجات الأطفال المحتاجين متواضعة جدًّا، لذا يفرحون كثيرًا حين يتمّ تلبيَتها، فهم لا يملكون لا أحذية ولا ألبسة لولا عطاء البعض. أمّا الأولاد الميسورون، فَهُم لا يُعانون من الحرمان نفسه الذي يُعاني منه أولئك الفقراء، بل إنّهم يجدون أنّ عدم امتلاكهم لكلّ ما هو موجود في السّوق هو حرمان. إنّ الفقراء يُعانون مِن حرمان حقيقيّ، أمّا الميسورون فَهُم يُعانون من أوهام حِرمان، أي أنّهم لا يُعانون في الحقيقة مِن الحرمان، إنّما حاجاتهم قد كثُرت لأنّهم أغنياء، غير أنّ تلك الحاجات ليست ضروريّة للعيش.

إذًا، إنّنا لا نعيش جمودًا روحيًّا بسبب الأوضاع الاقتصاديّة الصّعبة، إنّما سبب هذا الجمود هو انتشار ثقافة البطر،”ثقافة وَهْم الحاجة”، في أوساطنا المسيحيّة إذ ما عُدنا نكتفي بما هو متوفِّر لنا، بل حوَّلنا الكماليّات إلى حاجةٍ ماسّة لنا، لا نستطيع التخلّي عنها. قَبْل أن يقتني الإنسان سيّارةً، لا يجد مشكلةً في التنقّل مستخدمًا وسائل التنقّل الجماعيّ كسيّارات الأُجرة والباصات، بل ويشكر الله لأنّه وَفَّقه بوسيلة تَنَقُّلٍ سريعة تُوصِله إلى المكان الّذي يقصده. ولكنّه ما إن يقتني سيّارة خاصّة به، حتّى يبدأ بالتذمُّر إن اضطُرَّ إلى استخدام وسيلة تَنَقُّل جماعيّ بسبب عِطلٍ في سيّارته أو لسببٍ آخر. 

إذًا، المشكلة لا تكمن في حاجتك إنّما في قناعتك، وطريقة إدارتك لأمورك الخاصّة. إنّ القناعة وطريقة الإدارة السليمة للأمور، لا يمكن للمؤمِن أن يتعلَّمها إلّا مِن خلال الإنجيل أي حين يحتلّ المسيح المركز الأساسيّ في حياته. إنّ الله يتدخّل في حياة المؤمن عبر الإنجيل فيُنيرُ له عقلَه مِن خلال الكلمة الإلهيّة. إنَّ المسيح يُعلِّمنا كيفيّة مواجهة كلّ صعوبةٍ نتعرَّض لها: فعلى المؤمن إمّا إزالة تلك الصّعوبة، وإمّا تَجاوُزِها، وإمّا بالصبر إلى أن تزول تلك الشِّدة، فالإنجيل يُذكِّرُنا بأنّ مَن يصبُر إلى النهاية يَخْلُص.

إذًا، أزمة الجمود الروحيّ الّتي يُعاني منها الإنسان لا ترتبط بالأوضاع الخارجيّة إنّما بالأوضاع الداخليّة للإنسان، أي في ذهنيّته: لقد أصبح الإنسان يستعبد كلّ الأمور المحيطة به ويستغلُّها مِن أجل خدمته، دون أن يُفكِّر بالآخرين؛ فَبِسَبب ضجيج هذا العالم ما عاد الإنسان يستطيع الإصغاء إلى حاجات الآخرين، وأصبحت الحريّة حجّته لعدم الاكتراث للآخرين. إنّ الحريّة لا يجب أن تَدفع الإنسان إلى عدم الاهتمام بالآخرين، فإنّ فرح الآخرين يندرج ضمن حرّيتك. يُخبرون عن شابّ لبّى دعوة أصدقائه لمشاركتهم الفرح في لقاءٍ حضّروه له، فتلقّى في أثناء هذا الاحتفال اتِّصالاً يُعلن له خبرَ موت والده، غير أنّ هذا الشابّ تابع اللّقاء مع أصدقائه. وعندما استغرب أصدقاؤه هذا التصرُّف سألوه عن السبب، فأتاهم الجواب: إنّ أبي قد مات وَعَودتي إلى المنزل لن تُفيده شيئًا، غير أنّها ستكسر قلوبكم وتُدخل الحزن إلى قلوبكم إذ قد حضَّرتم هذا اللّقاء كي نفرح معًا، وفي الغد عند عودته شارك في الصّلاة على نيّة والده. كما يُخبرون عن شابّ خاف من إزعاج طبيب الأسنان إن صرخ في وجهه بسبب وجعه. إذًا، إنّ شعور المؤمن بالآخر يندرج ضمن إيمانه باللّه، فاللّه لم يطلب من الإنسان الصّلاة والسّجود له، إنّما أعطاه إنسانًا محتاجًا له، فيخدم الله من خلاله. ما دام الإنسان في هذه الحياة، فإنَّ حياته لن تخلو من المشاكل الّتي تحتاج إلى معالجة. على الإنسان ألّا يسمح للمشاكل الّتي تعترضه في هذه الحياة بأن تكون سببًا في دخوله في حالةٍ من الإحباط واليأس. على الإنسان أن يسعى لِتَخطِّي مشاكله، ساعيًا إلى القيام بما يُفرِح الآخرين.

إنّ كلمة الله قادرة على إلهام المؤمن على الحلول الّتي يجب اعتمادها لحلّ المشاكل الّـتي يواجهها. على المؤمن عدم الاستسلام لوَضعه، بل عليه التخلُّص مِن “ثقافة النَّق”، أو التشكّي مِنَ الوَضع الاقتصاديّ السَّييء، وإدراكه أنّ كلمة الله هي الحلّ لكلّ المشاكل، إذ تمنح الإنسان طريقة تفكير جديدة تساعده على مواجهة الصّعوبات وتَخَطِّيها، دون أن تتمكّن تلك الأخيرة مِن زرع الإحباط واليأس في نفسِه. إنّ الصّلاة ليست فقط من أجل التضرّع إلى الله، وطلب الاحتياجات منه، سائلين الربّ الاستجابة لها، فالصّلاة تمنح الإنسان طريقة تفكيرٍ جديدة. لقد توقّف الكثيرون عن المشاركة في ألعاب الحظّ لأنّهم أمضوا وقتًا طويلاً في الصّلاة لله كي يمنحهم الجائزة الكبرى ولم يستجِب الربّ سُؤْلَهُم. غريبٌ هو أمر الإنسان إذ يتصرّف كشيخٍ كهلٍ وهو لا يزال في عمر الشباب، وتتَّسِم حياته بالموت على الرّغم مِن أنّه لا يزال على قيد الحياة. 

وبهذا ينطبق فيه قول المسيح في الإنجيل: طبَّلنا لكم فلم ترقُصوا، نُحْنَا لكم فلم تبكوا. على الإنسان أن ينظر إلى الحياة بإيجابيّة، ويسعى إلى تدبير أموره بنفسِه حتّى ولو اضطَّر في بعض الأحيان إلى طلب المساعدة من الآخرين، فإنّ في ذلك تواضعًا مِن الإنسان. لا يوجد ضررٌ في لجوء الإنسان إلى شخصٍ آخر يختلف عنه في رؤيته للأمور الحياتيّة، فإنّ ذلك مِن شأنه المساعدة على حلِّ المشاكل، لأنّه متى التقى اثنان في هذه الحياة، يعتمدان “ثقافة النَّق” فإنّهما لن يتمكّنا من حلّ الأمور، بل إنَّ نظرتهما إلى المشاكل ستتعاظم. وغالبًا ما يرفض الإنسان الّذي يُعاني مِن أزمة الجمود المساعدة مِن الآخرين، متَّهمًا الآخر بأنّه غير قادر على فَهْم المشاكل الّتي يُعاني منها الإنسان اليائس. إنّ سائر البشر قادرون على فَهْم ما يُعاني منه إخوتهم البشر، فالمشاكل متشابهة، غير أنَّ الإنسان الّذي يُعاني من الجمود ينظر إلى الأمور بطريقة سوداويّة وهو يرفض تغييرها، لذا يعتقد أنّ الآخرين غير قادرين على إدراك ما يعيشه: إنّ أحد الكهنة قد تعرَّض إلى تشويه سُمعَتِه لأنّه كان ينظر إلى عيون سامعيه عند إلقائه العِظة، ليُدرِك مدى تفاعلهم مع الكلمة. إنّ النَّظرات السوداويّة والاتّهامات ترافق جميع المؤمِنِين، إذ قد لا تُفهَم تصرّفاتهم مِن قِبَل الّذين يُعانون من أزمة الجمود الروحيّ.

إنّ العين البسيطة تمنح الإنسان حياة داخليّة نيِّرة. إنّ العين البسيطة هي تلك العين الّـتي تنظر إلى الأمور بكلّ بساطة، دون أن تُفلسِف الأمور وتُعقِّدها، أو تُسيء الظنّ. إنَّ العين البسيطة تدفع الإنسان إلى إيجاد حلولٍ بسيطة وسهلة للمشاكل الّتي تعترِضُه. لا يمكن للإنسان أن يتمتّع بتلك العين البسيطة دون معاشرةٍ لكلمة الله بكلّ أبعادها: قراءة الإنجيل، الصّلاة، التراتيل، الأيقونات، الموسيقى والهدوء. على الإنسان أن يكتشف حضور الله في حياته، غير أنَّ هذا الاكتشاف لن يُزيل المشاكل، إنّما ستدفع الإنسان إلى إيجاد حلول لها وِفقَ تعاليم المسيح. 

على الإنسان أن يضع تعاليم الله قيد الاختبار، فإن وجَد أنّ تلك التعاليم فاعلة لحلّ مشاكله، اعتمدها منهجًا له في كلّ حياته. إنّ المطلوب إذًا، هو استعمال “عِدَّة الله” لا “عِدَّة البشر” لحلّ المشاكل الّتي تعترِض الإنسان. إنّ الإنجيل يدعو المؤمن إلى عدم استعمال الثوب القديم لإصلاح الثوب الجديد، والعكس صحيح، لذا على المؤمن التخلّي عن الذهنيّة القديمة، واعتماد ذهنيّة المسيح في حلّ المشاكل، ثمّ يستطيع المؤمن أن يحكم إن كانت طريق الإنجيل نافعة لحلّ المشاكل الإنسانيّة أو لا. كُثُرٌ هم البشر الّذين اعتمدوا ذهنيّة الإنجيل على الرّغم من كونهم غير مسيحيّين، فوجدوها فاعلة، فاعتنقوا المسيحيّة. إنّ كلّ لقاءٍ لك مع إنسان يخلق لك ذهنيّة جديدة من خلال تعامله معك ولطفه، وطريقة تعبيره. لذا عليك أن تعتمد الذهنيّة الأنسب لك، لأنّ المشاكل لن تنتهي أبدًا.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp