محاضرة للأب ابراهيم سعد،
من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،
الصّوم هو الموت لأجل الآخر،
إنّ هذا الأحد، هو أحد “المرفع” عند المسيحيّين الّذين يتَّبعون التقويم الغربيّ، وفيه يُعلِنون بداية صومِهم الأربعينيّ. أمّا المسيحيِّون الّذين يتَّبعون التقويم الشرقيّ، فإنّهم يتحضَّرون لمسيرة الصّوم على مرحَلَتين: تبدأ المرحلة الأولى في أحد “مرفع اللَّحم”،- الّذي يُصادف هذا الأحد- وتنتهي في أحد “مرفع البياض”، أي الأحد المقبل، الّذي فيه يُعلِنون بداية الصّوم الكبير.
لقد سُميَّ الأحد الّذي يسبق الصّوم، “أحد المرفع”، لأنّه يشير إلى رَفْعِ المسيحيّين الطَّعام عن موائدِهم، قبل بداية الصّوم. غير أنّ هذا المفهوم قد تعرَّض للتشويه، إذ إنَّ المسيحيّين في “أحد المرفع”، يقيمون حفلاتِ توديعٍ للمأكولات الّتي سيمتنعون عنها في فترة الصّوم، فيَضَعونها بكميّاتٍ كبيرةٍ جدًّا على موائدهم في هذا النَّهار. إنَّ هذا المفهوم الخاطئ للصّوم قد انتشر في بلدانٍ عديدةٍ، ومنها البرازيل، الّذي يقيم فيه المسيحيّون “الكرنفال”، وهو عبارة عن سلسلةِ حفلاتٍ يتمّ فيها توديع بهجة هذا العالم وشهواته، فيرتكب المؤمِنون في هذا النَّهار كلَّ أنواع الخطايا الجسديّة الّتي تُعطيهم الفرح الزائل. إنّ الكنيسة الشرقيّة تُحضِّر المؤمِنِين للصّوم وتُدرِّبهم على ذلك، إذ تطلب منهم في أحد “مرفع اللَّحم”، الامتناع عن تناول كلّ المأكولات الّتي تحتوي على شتَّى أنواع اللُّحوم؛ وفي الأحد الّذي يليه، تطلب منهم في أحد “مرفع البياض”، الامتناع عن تناول كلّ المأكولات الّتي تتضمَّن منتوجاتٍ حيوانيّة، فيُصبح المؤمِنون على استعدادٍ للبدء بمسيرة الصّوم الكبير. إنَّ الكنيسة الشرقيّة تُحضِّر المؤمِنِين للصّوم، لا فقط من خلال دَفعِهم إلى الامتناع عن تناول بعض المأكولات، إنَّما أيضًا من خلال تلاوة بعض النُّصوص إنجيليّة الّتي تساعدهم على الدُّخول في ذهنيّة الصّوم المسيحيّ، فتقرأ على مسامِعهم في أحد “مرفع اللَّحم”، المعروف ليتورجيًّا، بأحد الدَّينونة، إنجيل الدَّينونة (متى25: 31-48) الّذي يدَفعنا يسوع من خلاله إلى مساعدة المحتاجين، لأنّ كلّ ما نقوم به تجاههم، فإنّنا إليه نفعله.
وفي أحد “مرفع البياض”، تقرأ الكنيسة الشرقيّة على مسامِع الـمُنتَمِينَ إليها، نصًّا إنجيليّا، يدعو فيه الربُّ يسوعُ المؤمِنِين به إلى الصَّفح والغفران لبعضهم البعض. إذًا، تَدفَعُ الكنيسة الشرقيّة المؤمِنِين إلى تهيئة نفوسهم للصّوم من خلال أوّلاً مساعدة المحتاجين، وثمّ من خلال الغفران لبعضهم البعض، كي يكونوا أهلاً لغفران الله لهم. إنّ الصّوم مَبنيٌّ على رغبة الإنسان في العودة إلى حالة الفِردوس الّتي كان عليها قبل وقوعه في الخطيئة. في الفِردوس، كان الإنسان يعيش في سلامٍ مع ذاته ومع الآخَرين، لذا يمتنع الإنسان في فترة الصّوم عن قتْلِ الحيوانات وتَناولِ لحومِها، رغبةً منه في إنشاء حالةٍ من السَّلام معها. إنَّ الإنسان الّذي يعيش في حالة خصومةٍ مع الآخَرين وفي حالة عداوةٍ مع الطبيعة والحيوانات مِن حوله، لا يستطيع الدُّخول في ذهنيّة الصّوم الحقيقيّة؛ فالخصومة مع الله، ومع ذاته، ومع الحيوانات، كانت السّبب الأساسيّ لخروجه من الفِردوس.
كُثُرٌ هم الّذين تكلَّموا عن الصّوم وتِقَنيّاته، ولكنّ مشكلة الصّوم الأساسيّة تبقى في تطبيقه في حياتنا اليوميّة بذهنيّة إنجيليّة. في الصّوم، يسعى الإنسان إلى التحرُّر من كلّ ما يكبِّله، ولذلك يسعى إلى التحلِّي بالجُرأة والحبّ. إنَّ الإنسان الحقود هو إنسانٌ لا يزال في حالة العبوديّة لِكراهيّته، أمَّا الإنسان الحُرّ فهو إنسانٌ مُـحِبٌّ للآخَرين. إنّ الإنسان الشُّجاع والجَريء هو إنسان حُرٌّ، أمّا الإنسان الخائف فهو إنسانٌ في حالة العبوديّة. في الإنجيل، نقرأ عن شِفاء يسوع لإنسانٍ أبكمٍ أَصَّم، لم يتمكَّن التّلاميذ من شِفائه؛ وعندما سأل التّلاميذُ الربَّ عن سبب فشلِهم في شِفائه، أجابهم إنَّ هذا الجِنس لا يخرج إلّا بالصّوم والصّلاة. وبالتّالي، لا يمكن للإنسان أن يتحرَّر من عبوديّته إلّا من خلال الصّوم والصّلاة، أي بعبارة أخرى، من خلال الشَّجاعة والحبّ. إنَّ الشَّجاعة تفترِض إعلان الحقيقة بكلّ جُرأةٍ، من دون خوفٍ مِنَ العواقب. وهنا نتذكَّر قولَ الرَّسول بولس في إحدى رسائله: إنّ الخوف يطرد الحبَّ خارجًا، والحبّ يطرد الخوف خارجًا. على المؤمِن، أن يعيش صَومه انطلاقًا من ذهنيّة الإنجيل، لا استنادًا إلى ذهنيّة الشريعة اليهوديّة القديمة، لأنَّ “الحَرْفَ يقتُل، أمّا الرُّوح فيُحيي”، فلا يكون صَومه مستندًا إلى الطُّقوس الخارجيّة وحسب، إنّما يكون كذلك مستندًا إلى روح الإنجيل الّذي يدعونا إلى عيش الصَّوم، من خلال ممارسة الغفران مع الآخَرين ومحبّة القريب.
إذًا، ليس الصّوم إنقطاعًا عن الطَّعام، بل هو إلتزامٌ طوعيّ مُستنِدٌ على الحبّ، وكلُّ التزامٍ يتطلَّبُ جرأةً في عيشِه. إنَّ الأهل يلتزِمون بأولادهم، فيُعبِّرون عن التزامِهم هذا من خلال خِدمَةِ أبنائهم والسّعي لتأمين كلّ احتياجاتهم الأساسيّة. فكلَّما ازدادتْ قُوَّةُ الحبّ تجاه الآخَرين، كلّما ازدادتْ قوّة خِدمَتنا لهم. إنَّ الحبّ يُدخِل الإنسان في عبوديّةٍ طوعيّة تجاه المحبوب، إذ نجد أنَّ مَن يُحبّ، يسعى إلى خِدمة الآخَر والتَّفاني من أجله، في سبيل تأمين السَّعادة والرّاحة له. إنَّ الإنسان الّذي يمارس الصّوم بذهنيّة مختلفة عن هذه الذهنيّة، ذهنيّة المحبّة والخِدمة، هو في الحقيقة عبدٌ خاضعٌ لإرهاب عقليّ يُدعى “الصّوم”، فيُمضي وقتَه في مراقبة النّاس وإدانتهم، وتصنيفهم بين صائِمِين وغير صائمِين. إنَّ الصّوم ليس مجرَّد انقطاعٍ عن الطَّعام وحسب، بل هو ممارسة المحبّة والغفران تجاه الآخَرين. وبالتّالي، فَعَدم التزام المؤمِن بالصّوم بِتِقنيّاته الخارجيّة لا يشكِّل خطيئة، لأنَّ الخطيئة في مفهومها الكنسيّ، هو كلُّ عملٍ يقوم به المؤمِن ويؤدِّي إلى إلحاق الضَّرر بالمؤمِن نفسه وبالآخَرين. وبما أنَّ انقطاع الإنسان عن الطَعام أو عدمه لا يؤذي أي كائنٍ بشريّ، فهو بالتّالي لا يُعتَبر خطيئة. على المؤمِن الّذي يريد الإنقطاع عن الطَّعام أو عدمه، أن يُدرِك الاسباب الّتي بَنى عليها قراره الحُرّ.
إنَّ الصّوم في الكنيسة، هو فرصةٌ تُعطى للمؤمِن كي يُعبِّر عن اكتشافه لعظمة حبّ المسيح له، من خلال أعمال المحبّة الّتي يقوم بها تجاه الآخَرين. وبالتّالي، لا يعود الصّومُ نِيرًا ثقيلاً لا يُطيق المؤمِنِون احتماله، بل يتحوّل إلى مَصدر فرحٍ وحبّ ومشاركة مع الآخَرين. إنَّ الفرح بقيامة المسيح ليس حِكرًا على الصائمين فقط؛ فالجميع، صائمون كانوا أم غير صائمين، سيختبرون فرح قيامة الربّ، على حدٍّ سواء. هذا ما أوضحه لنا القدِّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ، في عظته حول الصّوم، حين قال لنا، إنَّ مائدة الربّ ممدودةٌ لنا جميعًا، لنتشارِك معه وليمته السماويّة. هذا الكلام يَدفَعنا إلى طرح السؤال حول جَدوى التزام الصّوم وممارسة الجُهد للتحرُّر من كلّ شهواتِنا الأرضيّة، ما دام الجميع سيتشاركون فرح القيامة. في إطار الإجابة عن هذا السؤال، نقول إنّه في المسيحيّة لا يمكننا الكلام عن عدالةٍ بين المؤمِنِين، إنّما عن محبّة تَجمَعُهم. فمثلاً، تقوم العدالة على إعطاء جميع المؤمِنِين المشاركِين في مائدة طَعامٍ معيّنة، الحصّة الغذائية نفسها؛ أمّا المحبّة، فتقوم على إعطاء كلّ فردٍ منهم الحصّة الغذائيّة الضروريّة له، ليتمكَّنَ مِن متابعة حياته، دون الاكتراث للكميّة الـمُعطاة لهذا أو لِذاك. إنَّ المؤمِن الّذي يكتشف عظمة محبَّة الله له، يسعى إلى التَّعبير عن فَرحَه بهذا الاكتشاف من خلال خِدمة الآخَرين ومحبّتهم، لا من خلال هدر الوقت في إدانتهم. ليس هدف الصّوم أن يحوِّل الصائمَ إلى قدِّيسٍ، أو أن يُعطيه إمتيازًا حصريًّا في الشُّعور بفرحَةِ عيد الفِصح، بل إنَّ الهدف من الصَّوم أن يتحلّى المؤمِن بالحريّة الدّاخليّة، إذ يتحرّر هذا الأخير من خلال الصّوم مِن كل ما يستعْبِدُه.
إنَّ الصّوم مسيرةٌ تبدأ بالفِصح وتنتهي بالفِصح: فالصّوم يبدأ يوم الاثنين، أي بعد إنقضاء يوم الأحد الّذي فيه نحتفل بقيامة المسيح، وينتهي بقيامة المسيح من بين الأموات. إنَّ الصّوم يبدأ بتذكير المؤمِنِين بحبّ الله الخلاصيّ لهم، وينتهي بتحقيق هذا الحبّ بموت الربّ يسوع على الصّليب والقيامة. يشكِّل الصّوم فرصةً تدريبيّة للإنسان على نمطٍ حياتيّ جديدٍ يساعده على التخلُّص من كلّ ما يكبِّله، ولكن هذا لا يعني أبدًا أنّ الهدف الأساسيّ من الصّوم حثُّ المؤمِن على إماتة شهواته؛ لأنّه إنْ كانت تلك الشّهوات الأرضيّة لا تُرضي الله، فإنّه يتوجَّب على المؤمِن التخلِّي عنها، لا في فترةِ الصّوم وحسب، بل طُولَ أيّام حياته. إنّ الصّوم الّذي لا ينطلق من ذهنيّة أنَّه مرحلةٌ انتقاليّة ما بين فِصح وفِصح، هو مسيرة جهادٍ وعذابٍ قائمةٌ على الامتناع عن الطّعام، لا ينتهي إلّا عند حلول عيد الفِصح بِتَناوُل طعام العيد، لا بِفَرح قيامة المسيح. إنَّ صَومَنا غير مرتبطٍ بانقطاعِنا عن بعض الأطعمة أو بِتَناوُلِنا لها في ساعاتٍ محدّدة من النَّهار. وفي هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول إنّه من الأفضل لنا الامتناع عن تَناوُل بعض الأطعمة لا في فترةٍ محدَّدة من السّنة، إنّما طوال الأيام، إنْ كانَ في تَناوُلِنا لها سببَ عثَرَةٍ للآخَرين؛ وبالتّالي، ما يُشدِّد عليه بولس الرَّسول هو محبّة القريب، لا الامتناع عن الطَّعام في زمن الصّوم. إنّ الكنيسة الشرقيّة تستعدِّ للصّوم من خلال إنجيل الدينونة، لأنّ دينونة الإنسان الحقيقيّة تستند على مدى محبّته لأخيه الإنسان، من خلال سَعيِه إلى سدِّ حاجاته، ولا تستند على محبّة الإنسان لربِّه، لأنّه إنْ كان الإنسان غير قادر على محبّة قريبه الّذي يراه، فكيف يستطيع أن يُحبّ الله الّذي لا يراه؟
إنّ كلمة “الصّوم”، في اليونانيّة، تعني “التَّدريب”، وقد تُرجِمَت في العربيّة إلى “النُّسك”. إنّ هَدَفَ الصّوم تحريرُ الإنسان من كلّ عبوديّة، من خلال حثّه على تدريب ذاته على الانقطاع عن كلّ ما يُكبِّله، من خلال انقطاعه عن الطّعام لفتراتٍ محدَّدة من الزَّمن. ولكنَّ المؤمن للأسف، أصرّ على البقاء في عبوديّته للطَّعام، إذ دَفعه حرمانه من بعض الأطعمة في زمن الصّوم، إلى ابتكار مأكولاتٍ صياميّة مشابهة جدًّا لتلك الّتي مَنع ذاته عنها في الصّوم؛ وبذلك، حوّل المؤمِن “الصّوم” إلى صَنَمٍ جديدٍ، إلهٍ جديدٍ له، ليَعبُدَهُ. في كافة الأديان الموجودة في هذه الأرض، الصّوم هو فريضةٌ دينيّة على المؤمِن الالتزام بها وممارستها وِفق طقوس دِيانَتِه. أمّا في المسيحيّة، فَلَيْسَ الأمرُ كذلك، لأنَّ الصّوم بالنسبة لنا، هو “مَوسَمٌ” يُعاش وهو مَصدَرٌ للفرح، لا واجِبٌ دينيٌّ مفروضٌ عَلينا، بدليل أنّ الكنيسة تترك للمؤمِنِين بالمسيح، مِلء الحريّة للالتزام بالصّوم أو عَدَمِه. فالالتزام بالصّوم هو قرارٌ شخصيّ يتخِّذه المؤمِن استنادًا إلى نضوجه الإيمانيّ، وَوَعيه لمفهوم الصّوم.
إنَّ الصّوم مبنيٌّ على عيد الفِصح. وعيد الفِصح المسيحيّ مبنيٌّ على موت المسيح على الصّليب وقيامته. وبالتّالي في الفِصح، عَبَرَ الربُّ من حالة الموت إلى حالة القيامة. ونحن أيضًا مدعوِّون في زمن الصّوم إلى العبور من مرحلة العبوديّة إلى مرحلة الحريّة كأبناءٍ لله. إنَّ الأحد الثاّلث من زمن الصّوم الكبير في الكنيسة الشرقيّة هو “أحد الصّليب”، وقد وَضَعَته الكنيسة في منتصف هذا الزَّمن لتَحُثَّ المؤمِنِين على إكمال المسيرة نحو القيامة، دافعةً إيّاهم إلى بَذْلِ ذواتهم أكثر فأكثر على مِثال الله الّذي جاد بابنه الوحيد، من أجل خلاصِنا، تعبيرًا عن محبَّته للبشر.
إنّ الربّ قد مات على الصّليب من أجلِنا، وبالتّالي فَعَلينا نحن أيضًا أن نعيش الصَّوم، على مثال المسيح، فنَبذُل ذواتنا من أجل الآخَرين، من خلال السَّعي إلى تلبية حاجاتهم. إذًا، هَدَفُ الصّوم، هو الاهتمام بالآخَر وبِحاجاته، لذا تتكاثر أعمال الرَّحمة في هذا الزَّمن، فتَنشأ حملات التبرُّع بالأموال من أجل مساعدة الأكثر حاجة بين المؤمِنِين. إنَّ مساعدة الآخَر هو تعبيرٌ عن إيمان الإنسان بالله، وبالتّالي لا يجب أن يكون محصورًا في زمن الصّوم، بل عليه أن يتحوَّل إلى نهجِ حياةٍ يتَّبِعه المؤمِن في كلّ حياته. إنَّ العطاء، هو مَصدَرُ فرحٍ للمؤمِن، ولذا فإنّ ممارسته في زمن الصّوم تُشكِّل مَصدَر فرحٍ لا للإنسان المِعطاء وحسب، إنَّما أيضًا للإنسان المحتاج. إنَّ فرحَ العطاء هو أكبر من فَرح الأَخِذ: فالمحتاج الّذي ينال العطيّة من الآخَر، يفرح لأنّ حاجته قد تمَّت تلبيَتُها؛ أمَّا الإنسان المِعطاء فإنّه يَفرح مرَّتين: فَهو يَفرح أوَّلاً لأنَّه شارك الآخَر بإحدى العطايا الّتي يملكها، ثمّ يَفرحُ ثانيًا عند رؤيته الفرح على وَجه الآخَر المحتاج الّذي نال حاجته من خلال تلك العطيّة، وهنا نتذكَّر قول الرَّسول بولس:”إنَّ العطاء مَغبوطٌ أكثر مِنَ الأخِذ”.
إنَّ زَمن الصّوم يشكِّل دَعوةً للمؤمِن لا إلى الانقطاع عن الطَّعام من أجل الطَّعام بحدِّ ذاته، إنّما هو دعوةٌ للانقطاع عن الطَّعام من أجل إطعام الآخَر المحتاج؛ فكما أنَّ المسيح قد أحيانا بقيامته من الموت، ووَهبنا الحياة الأبديّة، كذلك، نحن نُحيي الآخَر عندما نقدِّم له حاجته. لا يقوم المؤمِن بالإماتات والتَّقشفات من أجل إظهار جِهاده الشَّخصيّ، منتظرًا المكافأة على ذلك من الربّ، بل يقوم بها من أجل إحياء الآخَر ساعيًا إلى تلبية حاجاته.
عاش الربُّ يسوعُ في الصَّحراء أربعين يومًا، لم يتمكَّن خلالها من تَناوُل أيّ طعامٍ، لا رغبةً منه في سَنِّ قوانين الصّوم، إنّما لأنّه لم يكن هناك في الصَّحراء ما يُؤكَل. إنَّ الصَّحراء في الكتاب المقدَّس ترمز إلى الموت، إذ تنعدم فيها كلّ أساسيّات الحياة. في الصَّحراء، حاول إبليس إقناع الربّ بالعيش بعيدًا عن الله، ولكنَّ الربّ قد رَفضَ كلّ حياةٍ تُمنَح له، إنْ لم يكن الله الآب مَصدَرها. وهنا يُطرَح السؤال علينا، نحن المؤمِنِين: هل نقبل بحياةٍ أخرى تأتينا مِن مصدرٍ آخر غير الله، أم نفضِّل الموت على العيش في حياةٍ بعيدةٍ عن الله؟ إنَّ الصّوم يدعونا إلى الاختيار ما بين الموت مع الربّ أو العيش بِدُونِه: وبالتّالي في الصّوم، علينا الامتناع عن كلّ ما يُبعِدنا عن الله، كي تكون لنا الحياة في الربّ. في الصّوم، لا يمتنع المؤمِن عن أمورٍ سيِّئة، إنّما عن أمور صالحة: فالطَّعام هو أمرٌ مفيدٌ وضروريّ للإنسان، ولكنَّ الإنسان يُقرِّر الانقطاع عن بعض أنواعه في سبيل إحياء أخيه الإنسان المحتاج، وبذلك يحقِّق الإنسان جوهر عيد الفِصح. إنَّ المؤمِن يعيش جوهَر عيد الفِصح حين يموت عن ذاته وشهواته من أجل إحياء الآخَر. إنَّ الطَّعام يرمز إلى الحياة، والانقطاع عنه يرمز إلى الموت، وبالتّالي حين ينقطع المؤمِن عن تَناوُل الطَّعام فإنّه يُعبِّر بذلك عن موته في هذا الزَّمن، من أجل إحياء الآخَر. إنَّ الصّوم هو نوعٌ من “الرُّوداج” للمؤمِن الّذي يرغب في الإقلاع عن بعض العادات السيِّئة الّتي يُعاني منها في حياته. ولكنْ هذا لا يعني أنَّ على المؤمِن العودة إليها بعد انتهاء الصّوم، إنَّما عليه أن يتَّخذ من الصّوم فرصةً له للانقطاع عن هذه العادات السِّيئة، والاستمرار في ذلك طُولَ أيّام السَّنة، فلا يعود إليها أبدًا.
إذًا، إنَّ الصّوم مرتبطٌ بمدى اهتمامِنا بالآخر لا بانقطاعِنا عن الطَّعام، وهذا ما تدعونا إليه الكنيسة الشرقيّة، من خلال دَعوتنا إلى مساعدة الآخَرين ومحبّة القريب، في أحد مرفع اللَّحم وأحد مرفع البياض. إنَّ الربّ يسوع يشدِّد على ذلك قائلاً لنا:”فإذا كُنتَ تُقرِّبُ قربانَك إلى المذبح، وذَكَرْتَ هُناك أنَّ لأَخيكَ عليكَ شيئًا، فَدَعْ قُربانَكَ هناك عند الـمَذبَح، واذهب أوَّلاً وصالِح أخاكَ، ثمَّ عُدْ فَقَرِّب قُربانَك” (متى5: 23-24). إذًا، بالنسبة إلى الربِّ يسوع، الآخَرُ هو أهمُّ من المشاركة في الذبيحة الإلهيّة. قد يتساءل البعض:”ما فائدةُ الصّوم، إذًا؟”. إنَّ الصّوم مرتبطٌ برؤيتنا للأمور من حَولِنا، فإنْ أدركَنا أهميّة الآخَر في حياتنا، سَعَينا إلى مساعدة الآخَر ومحبّته، وتحوَّل الصّوم إلى مَصدر فرحٍ وسعادةٍ لنا، لا إلى نِيرٍ ثقيل يصعُب احتمالِه. في الصّوم، نحن ننطلِق من فِصحٍ لِنَصل إلى فِصح آخر، وما الصّوم إلّا تلك المرحلة الزمنيّة الفاصِلة بين هَذَين الفِصحَين. في الصّوم، تزداد الصّلوات في الكنائس، فالصّلاة هي صِلة الإنسان مع الله، أمّا الصّوم فَهو صِلة الإنسان مع الآخر المحتاج. إنّ علاقة الإنسان مع الله، أي الصّلاة، يُعبَّر عنها من خلال علاقة هذا الإنسان مع أخيه الإنسان المحتاج.
إنَّ دَينُونَتنا في اليوم الأخير، مَبنيّة على علاقَتنا بالآخر: فإنْ سامَحنا الآخَر وأعطيناه حاجته، نِلنا الحياة الأبديّة، وإنْ لم نَفعل خَسرناها. هذا ما قام به الربُّ يسوع، فكانت له القيامة: لقد أعطى الربّ بموته على الصّليب، الحياة الأبديّة لنا جميعًا، كما أنّه غفر لنا جميع خطايانا، قائلاً: “يا أبتِ اغفِر لهم، لأنّهم لا يَعلَمون ما يَفعلون”(لو23: 34). إنَّ الربّ قد غفر لنا خطايانا، لأنَّه اعتبر أنّنا كُنّا غير مُدرِكين، للأخطاء الّتي نرتَكِبُها، ولذلك فَهو ينساها، ولا يُحاسِبُنا عليها كلّما أردنا اللِّقاء به، في سرّ التَّوبة. أمّا نحن، فعلى الرُّغم من إعلاننا المغفرة للآخَرين، غير أنّنا لا ننسى لهم خطاياهم إذ نعتبر في داخِلنا أنّهم ارتكبوا تلك الإساءات عن قصدٍ، لذا نسعى إلى محاسَبَتِهم عليها، كلّما التَقَينا بهم.
إذًا، إنَّ الصّوم هو فرصةٌ تُمنَح لنا لِنُعبِّر فيها عن حُبِّنا لله من خلال محبّتنا للآخر المحتاج. في العصور الأولى للمسيحيّة، لم يكن الصّوم بالشَّكل الّذي نَعرِفه اليوم، وقد خضع للكثير من التَّطورات عبر العصور قبل وُصوله إلى شكلِه الحاليّ. في البدء، كان الصّوم يقتصر على ثلاثة أيّام تَسبِق عيد الفِصح، ثمّ امتَّد فيما بَعد ليَشمُل أسبوع الآلام بأكمَلِه، فأصبح زمنُ الصّوم مؤلَّفًا من سبعة أيّام. ثمّ امتَّد أكثر فأكثر مع الوقت ليُصبِح أربعين يومًا لِمَ يَحمِله الرّقم أربعون من رمزيّة في الكتاب المقدَّس. وأخيرًا تمَّ إضافة أسبوع الآلام، على ذلك الصّوم الأربعينيّ، ليتَّخذ الصّوم أخيرًا الشَّكل المتعارَف عليه في أيامِنا. إذًا، صَومُنا الكنسي، يتألَّف من سبعة أسابيع، والرَّقم سبعة في الكتاب المقدَّس يرمز إلى الكمال. وبالتّالي، فَنَحن نصوم هذا الصوم الأربعينيّ إضافةً إلى الأسبوع العظيم، لأنّنا نرغب في الوصول إلى الكَمال في نهاية الصّوم.
إنَّ الصّوم، حسب مفهوم آباء الكنيسة، يهدِف إلى تحرُّر الإنسان من كلّ عبوديّة. غير أنَّ الإنسان قد تمسَّك بالشَّكل الخارجيّ للصّوم، فتَحوَّل الصّوم إلى سيِّدٍ وتحوَّل المؤمِن إلى عبدٍ له، وهذا ما يبرِّر تَعبَ الكثيرين من الصّوم، لأنَّهم يمارِسونه بعيدًا عن مضمونه الحقيقيّ. لقد سَعت الكنيسة الشرقيّة من خلال الأحد الثّالث من الصّوم، أحد الصّليب، إلى تَذَكُّر عَمل المسيح الخلاصيّ لأجلِنا، وإلى اتِّخاذ الربّ مِثالاً لنا في احتمال مشّقات الصّوم، فمُعاناتنا في الصّوم لا تساوي شيئًا أمام معاناة الرب الخلاصيّة لأجلِنا. على الصّائم أن يتحلّى بذهنيّة المسيح على الصّليب، الّذي احتمل آلام الصّلب، من أجل خَلاصِنا ومَنحِنا الحياة الأبديّة، وبالتّالي فَعَلينا أن نجاهِد في الصّوم في تحمُّل مشقَّاتنا من أجل الآخَر المحتاج. حين يتذكَّر المؤمِن كلّ ما فَعَله الربُّ لأجله، فإنَّه لا بُدَّ له من أن يُثابر في مسيرة الصّوم والصّلاة الّتي قرّر الالتزام بها، من خلال الاهتمام بالآخر، فيتمّكن من إكمال مسيرة صَومِه بِعَزمٍ وفرح، ويتمكَّن من عيش الفرح عند حلول عيد الفِصح. في الختام، أتمنّى لكم صومًا مُحَرَّرًا من العبوديّة. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.