محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

خادم رعيّة القدّيس نيقولاوس – بلونة، كسروان،

الموت والقيامة في الأدب الرهبانيّ،

استهلّ الأب سعد كلامه بالاشارة إلى أنّه في كلامنا عن الموت اتّجاهان: واحد نحو موت يسوع المسيح وقيامته، وآخر نحو موت الإنسان وقيامته؛ ثمّ انتقل ليشرح مفهوم الرّهبنة، أو التّعريف بالرّاهب، مشدّداً على أنّه لا يعني من لم يتزوّج، لأنّ الرّهبنة حالة روحيّة، وليست وضعاً إنسانيّاً معيّناً. حتّى أعظم الرّهبان القدماء والذي ترأّس لاحقاً المجمع الكنسي قال: ” إنّ الرّاهب المتزوّج أفضل منّي، لأنّه نال نعمة السّرّ السّابع” أي سرّ الزّواج. أمّا مفهوم تدنيس العلاقة الجنسيّة لدعوة الرّاهب ففلسفيّ بحت، وتقليديّ شعبيّ؛ ومن هنا لقب: ” الخوري البتول”، وهذا لا يعني من لم يتزوّج بل من يعيش روحانيّة الرّاهب، ويسلك سلوكه.

وقد شاع منذ القرن الرّابع توجّه الرّهبان إلى الصّحراء لممارسة الدّعوة، أو إلى المناطق النّائية، فظنّ النّاس أنّهم يهربون من الدّنيا وملذّاتها؛ فأشهر الأديرة في مصر مثلاً موجودة في الصّحراء. إلاّ أنّ هؤلاء قد اتّخذوا من الصّحراء موطناً، هي التي تخلو من سببي الحياة الإنسانيّة الأهمّ: الماء، والطّعام، فترمز بالتّالي إلى اللاّعيش أو إلى الموت، حتّى يسلّموا حياتهم للمُعيل الأوحد، وسبب الحياة الأوّل والوحيد: الله. فيظهر للآخرين أنّ الرّاهب يعيش في الموت، إلاّ أنّ هذا الأخير اختار هذا القحط-الموت، حتّى يؤكّد على أنّ حياته بيد الآب وأنّه لا مُحيي غيره.

وهذا الاتّجاه إلى الصّحراء موجود في العهد القديم عند الحديث عن سير الشّعب في الصّحراء من مصر إلى فلسطين خلال ثلاث وثلاثين سنة، رمزاً إلى حياتهم المستمرّة في أرض الخلاء- الموت، برعاية الله، وإعالته؛ من إنزاله المنّ والسّلوى عليهم، حتى لا يعودوا إلى حياة العبوديّة في مصر التي تؤمّن لهم الطّعام من عند الإنسان. ولا ننسى ذكر تجربة الشّيطان للمسيح في الصّحراء، عندما اقترح عليه تحويل الحجر إلى خبز وغيرها من التّجارب التي يمكن لها ان تُبعده عن الموت، خاصّة أنّه: ” جاع أخيراً “، أي أحسّ بالموت، إلاّ أنّ المسيح أجاب بردّ واحدٍ، كاف لان يؤكّد أنّه يرفض أيّ مصدر حياة آخر غير الله، حتّى ولو اضطرّ إلى مواجهة الموت:”ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله”.

وعلى الصّليب رفض المسيح كلّ وسيلة تغيير لواقع الموت الذّاهب إليه: ” خلّص نفسك وخلّصنا”، فتشبّث بالموت حتّى النّهاية، مبتدئاً مسيرة البريّة، مسيرة الضّعف البشري، من الجوع في الصّحراء، حتّى العطش على الصّليب: ” أنا عطشان”، ورفض تخفيف ألمه بشرب الخلّ الممدود إليه، لأنّه لم يكن ليقبل بأيّ شكل حياة إلاّ من عند الرّب، الذي ما خيّب أمله، وأعطاه الحياة، وأقامه في اليوم الثّالث.
ونذورات الرّاهب: الطاّعة، الفقر، والعفّة، والطّاعة أصعبها، كلّها من أشكال الموت. وعندما يشرح الرّهبان مفهوم الطّاعة في الحياة الرّهبانيّة الحقيقيّة، يشيرون إلى طاعة كلمة الله الحقّ، كلمة الحياة، لا تلك الطّاعة العمياء الجاهلة. وليس مفهوم الطّاعة في الرّهبنة سوى تمرين وممارسة دائمة لطاعة الله، كلمة الحياة، والتّسليم لها تسليماً كاملاً.

أمّا الفقر فهو رمز لمن لم يؤمّن غده، أي من وثق أنّ الله هو من يعيله ويحييه ويؤمّن له أيّامه. ولكنّ ذلك لا يعني كره المال، أو استنكار وجوده في الخزانة، أو في الجيب وسيلة للعيش، إنّما يعني نبذه لما فيه من خطر محدق ممّن أوجده في قلبه، سبباً وغاية للحياة.
والعفّة هي الانقطاع عن كلّ ما يؤمّن لنا أقلّ شعور بأيّة لذّة: من لّذة الفرح، إلى الجنس، إلى الاستقرار، إلى المرح… وما التّبتّل سوى تجسيد فعليّ لهذا الانقطاع، وهو ما عاشته “البتول مريم” طوال حياتها، منقطعة لعبادة الله.
ثمّ انتقل الأب سعد إلى شرح مفهوم الصّحراء عند النبي “هوشع”، الذي كانت رسالته أن يتزوّج من زانية. وأشار الأب سعد إلى أنّ زنى الرّوح، يكون بترك عبادة الله، واتّباع آلهة أخرى، وهذا ما جرى مع شعب اسرائيل. فحاول الله من خلال تزويج النبي من زانية أن يبيّن للشعب أنّه، هو العريس، اتّخذهم عروساً زانية تعبد غيره ممّا تستفيد منه، ويؤمّّن لها زيتها وصوفها وكتّانها…كالإله “بعل”، إله الخصب، وكالمطر والشّمس، وغيرها من المظاهر التي عبدوها لأنّهم استفادوا منها إنسانيّاً، فيقول الله إنّه سيقطع عنهم أسباب العيش المعروفة، ويأخذهم إلى البرّية حيث الموت، ليعرفوا أنّ لا إله غيره يمكن له أن يحييهم، عندها يعودون غلى الزّوج الأوّل أي إليه هو الرّب، فيعيلهم بنعمته، وعندها تدعوه الأمّة “زوجي” لا “بعلي” لِما في الثّانية من عودة إلى الإله بعل.

ويحصل ذلك في الرّبيع، فصل الحياة(عودة أدونيس إلى الحياة في الرّبيع)، فصل القيامة والخلاص(قيامة المسيح في الرّبيع).
كذلك نجد في سفر الرّؤيا الإمبراطور يهدّد من لا يعبده- هو الذي يؤمّن لشعبه كلّ ما يحتاجون إليه- بقطع رأسه. وهذا ما أصاب المسيحيين آنها، لأنّهم أبوا أن يسجدوا لغير الرّب، فساقوهم إلى القتل. هذه مسيرة المضطهدين باسم الرّب التي كتبها يوحنّا وتذكّرها أثناء أخذ المسيحيين من بيوتهم، وسوقهم للقتل، طريقاً عسكريّاً مباشراً إلى الملكوت، إذا قبلوا الشّهادة.

ويشير الأب سعد إلى جماليّة نظرة الرّهبان إلى الموت، لا على أنّه مواجهة مع النّهاية، بل مواجهة مع الله. فأكثر الأديرة تعيش على الصّلاة والأشغال اليدويّة، ومنها أن يحفر، كلّ يوم، راهب قبره، ويعود يطمره، ليتذكّر الموت دوماً، أو بالأحرى ليتذكّر لقاءه بالرّب، ذلك اللقاء الذي يتمرّس الرّاهب كلّ سنوات عمره ليحياه عند موته. فما الحياة الرّهبانيّة الأصيلة التي تتّسم بالامّحاء التّام عند فعل الخير، من القدّيس باسيليوس الكبير الذي بنى في الصّحراء مستشفى، يعين فيه من أعياه التّعب والجوع والعطش والمرض خلال سفره، ويختفي بعدها؛ إلى رسّامي الأيقونات البيزنطيّة المختفين خلف الأيقونة بلا اسم، إلى كتّاب الكتب الرّوحيّة التي نسبوها إلى رهبنتهم ككلّ أو وقّعوها بإبهام تام:” راهب… “؛ ليست تلك كلّها سوى تمرين لكيفيّة العيش في الملكوت.

والراّهب لا يملك شيئاً ولا يورِث شيئاً، لأنّ الرّب عنده يساوي كلّ شيء. وهو خلال أعماله اليوميّة المختلفة، لا يتوقّف عن الصّلاة لئلاّ يمتلئ فراغ السّكوت بغير الله. أمّا فكرة كره الدّنيا والبعد عنها فليس من مفاهيم الرّهبنة لأنّ بعض الرّهبان يمارسون رسالتهم التّبشيريّة بين النّاس، ولأنّ كلّ الرّهبان يحملون هموم النّاس في صلواتهم. ولكلّ راهب في موقعه وجهاده الخاص، تجاربه وباب خلاصه، وتجربة الوحدة والغربة أصعبها لهول الفراغ فيها وواجب ملئه بالله باباً للخلاص منها.

وما الصّلاة والصّوم اللّذان أوصى بهما يسوع، سوى تلك الصّلاة التي صلاّها هو، بانقطاع كليّ لله، وهي تمرين لكلّ واحد منّا على تلك المواجهة وذلك الحوار مع الله يوم اللّقاء.

وإن لم تُتلَ الصّلاة بروح الفقر إلى رحمة الله، أو تُليت كفرض أو واجب يعطيه المصلّي إلى الله، فليست مماثلة لصلاة يسوع، وهي خاطئة المفهوم والممارسة، لأنّك في ذلك اليوم الكبير، ستكون صفر اليدين لا شيء معك تقدّمه إلى الله، بل تكون تائقاً إلى عطايا رحمته، ولن يمنحك أيّ واجب أو فرض تلك النّعمة. فكيف “تقدّم” واجباً، وأنت، في الصّلاة، تقف لتعترف أنّك “فارغ الوفاض” ولا تملك شيئاً، وأنّك “فقير” لرحمة الله؟ من هنا التّعارض الكبير بين “فرض” و” صلاة”!

أمّا الصّوم الذي صامه يسوع، والذي يعني: السّير في البريّة في مواجهة أشكال الموت، حتّى تأتيك الحياة من عند الله فقط، فهو الصّوم الذي يوصينا به ويدعونا إلى ممارسته بالرّوحانية نفسها.
فروحانيّة الرّهبنة المتجلّية في حياة كلّ إنسان، هي الأصل، لا تلك التّفاصيل الخاصّة بالأديرة، كما الأمّ في بيتها ومع عائلتها راهبة تطيع الله في تربيتها لهم، وتعفّ عن كلّ شيء من أجلهم.
ويختم الأب سعد كلامه بقوله: إن لا صورة في المسيحيّة عن الموت البحت، إنّما هو وقوف في الموت-البريّة، ونظر إلى الحياة-الله.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp