محاضرة للأب ابراهيم سعد،
من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،
الميلاد بحسب إنجيلَي متى ولوقا،
في زمن العيد، نتأمّل في حدَث الميلاد الخلاصيّ كما رواه لنا الإنجيليَّان متّى ولوقا. إنّ مرقس الإنجيليّ لم يكتب لنا عن ميلاد الربّ يسوع وطفولته، في حين أنَّ القدِّيس يوحنّا قد روى لنا الميلاد بطريقة لاهوتيّة، متكلِّمًا لا عن ميلاد يسوع بالجسد، إنّما عن ولادته الأزليّة من الآب. أمّا متّى ولوقا الإنجيليَّان فقد كتبا لنا عن ميلاد الربّ يسوع بالجسد من مريم العذراء. في هذا الزّمن، لا بُدَّ لنا أن نطرح السؤال على ذواتنا: هل يدخل العيد على أيّامنا فيُصبح “يومًا من يوميّاتنا”، مِن دون وجود أيّ فرقٍ بينه وبين بقيّة أيّام الروزنامة؛ أم ندخل نحن إلى العيد فنتحوّل إلى عنصر من عناصره الفعّالة؟ بمعنى آخر، هل أصبح شعورنا بالفرح في هذا العيد مرتبطًا بالأمور الخارجيّة كالزينة والأضواء، وبالتّالي مع انتهاء تلك المباهج، يختفي فرحُنا؛ أم أنّ شعورنا بفرح العيد نابعٌ من الدّاخل وبالتّالي لا يتأثّر فرحُنا بالمباهج الدنيويّة إنّما بولادة المخلِّص فينا؟ إنّ العيد يدخل إلينا حين يرتبط فرحُنا برؤيتنا للأضواء والزينة الميلاديّة وينتهي مع زوالها؛ ولكنّنا حين ندخل إلى العيد نُصبح في صُلب العيد، ويتحوّل فرحنا من الأمور الخارجيّة إلى الأمور الداخليّة، بولادة المسيح فينا. حين يُولد الإنسان في الحياة، لا يعود بإمكانه التصرّف وكأنّه في العدم، أي كأنَّه غير مولود، لأنّ الحياة قد وُهِبَتْ له، وقد أصبحت واقعه الّذي لا يستطيع الهروب منه. إنّ الولادة لا تدلّ أبدًا على النّهاية إنّما على البداية، إذ مع ولادة الإنسان يبدأ تاريخه الخاصّ. وبالتّالي في يوم الاحتفال بعيد ميلاد الربّ يسوع، لا ينتهي العيد إنّما يبدأ من خلال ولادته في داخلنا.
إنّ المؤمنين في عالمنا اليوم، يُعانون من أزمةٍ كبيرة هي سُرعة نسيانهم للعيد، لذا نشكر الله على الكنيسة الّتي تُحدِّد لنا في كلّ سنة يومًا للاحتفال بعيد الميلاد، فنتذكّر تلك الولادة باستمرار. للنِّسيان وجهان، الأوّل سلبيّ والثاني إيجابيّ: إنَّ الإنسان سريعُ النِّسيان لحسنات الآخرين في حين أنّه لا يستطيع نِسيانَ سيئاتِهم تجاهه، ونلاحظ أنّه سريعُ النِّسيان لسيئاته مع الآخرين في حين لا يمكنه أن ينسى إحساناته إليهم بل يتفاخر فيها.
إنّ المؤمِن لا يستطيع أن يتناسى حضور الربّ في حياته، وخاصّة عندما يكون قد أعلن التزامه بالربّ بكلّ حريّة. لا يمكن للمؤمِن أن يرصد حضور الربّ في حياته كمَن يرصد حدثًا معيّنًا بآلة تصويريّة، فحضور الله غير مرئي للعين المجردة، ولكنّ الإنسان يستطيع لمس حضور الله ومجده في حياته اليوميّة. وبالتّالي، فإنّ السؤال الّذي يُطرَح هو: هل يشعر الإنسان بذلك الحضور الإلهيّ، أم أنّ الهموم الحياتيّة والدّنيويّة الّتي تواجهه في كلّ يوم، تقتل فيه كلّ إحساسٍ بحضور الله في حياته؟ في هذه الفترة من السّنة، تنقلب كلّ المقاييس، إذ يتحوّل الإنسان إلى دميةٍ في يد الزّمن، عِوَضَ أن يكون الزّمن ألعوبةً في يد الإنسان. ففي زمن العيد هذا، نلاحظ أنّ المؤمنين يُصبحون عناصر مُنفعلة لا فاعلة، إذ نراهم مُسمرِّين أمام شاشات التلفزة للإصغاء إلى توقّعات عالِمي الفلك. في عالمنا اليوم، يصعب التمييز بين مؤمِنٍ وغير مؤمنٍ: إذ إنّ تصرّفات المؤمِن وتفكيره ورؤيته إلى الحياة أصبحت مشابهة لرؤية غير المؤمِن إلى الحياة وتصرّفاته وتفكيره. وهنا نطرح السؤال: هل ما زلنا حقًّا نشعر بحضور الله في حياتنا؟ لم يعد الإنسانُ يتذكّرُ اللهَ في حياته إلّا كي يلومه على عدم تدخُّله المباشر في تغيير مسار الأحداث العالميّة، رافضًا تدَخُّل الله في حياته الخاصّة. إنّ الربّ يتدخّل في تغيير مسار العالم بشكلٍ غير مباشر حين يزرع في الإنسان الرغبة للمبادرة في مساعدة الاخرين.
إنَّ الربّ يتمنّى أن يسير العالم وِفق مشيئته، لأنّ في ذلك سعادة البشر وفرحهم، غير أنّهم للأسف، فقدوا كلّ إحساسٍ بحضور الله في حياتهم، لذا هم يُعانون من الإحباط واليأس. ولكن لا يمكننا تجاهُلَ شعورَ بعض المؤمنين بوجود الله في هذا العالم ورؤيتهم لحضوره الفعّال فيه. إنّ الإنسان الّذي لا يشعر بحضور الله في حياته يعيش براحة أكبر من الإنسان الّذي يعي حضوره، لأنّ هذا الأخير يتخبّط في صراعٍ داخليّ بين تحقيقه لمشيئته وتحقيقه لمشيئة الله، فالعالم ينظر إلى الّذين يُطبِّقون مشيئة الله على أنّهم يعيشون خارج هذا الزّمن، لذا يتعرَّض هؤلاء للاضطهادات عند إعلانهم كلمة الحقّ.
“وكان في تلك النّاحية رعاةٌ يبيتون في البريّة، يتناوبون السَّهرَ في اللّيل على رعيّتهم. فحضرهم ملاكُ الربِّ وأشرقَ مجدُ الربِّ حولهم، فخافوا خوفًا شديدًا. فقال لهم الملاك: “لا تخافوا، ها إنّي أُبشِّركم بفرحٍ عظيمٍ يكون فرحُ الشَّعب كلِّه: وُلِد لكم اليوم مُخلِّصٌ في مدينة داود، وهو المسيح الربّ. وإليكم هذه العلامة: ستَجِدون طِفلاً مُقمَّطًا مُضجعًا في مذود.” وانضمّ إلى الملاكِ بغتةً جمهورُ الجُندِ السّماويّين يُسبِّحون الله فيقولون: “المجدُ لله في العلى! والسَّلام في الأرضِ للنّاس فإنّهم أهل رضاه!” فلـمّا انصرف الملائكة عنهم إلى السّماء، قال الرُّعاة بعضهم لبعض: “هَلُمَّ بنا إلى بيت لحمَ، فنرى ما حدثَ، ذلك الّذي أخبَرَنا به الربَّ.” وجاؤوا مُسرعين، فوَجدوا مريم ويوسفَ والطِّفل مُضجعًا في المذود. ولـمّا رأوا ذلك، جعلوا يُخبرون بما قيلَ لهم في ذلك الطِّفل. فجميع الّذين سَمِعوا الرُّعاة تعجّبوا مـمّا قالوا لهم. وكانت مريم تحفظُ جميعَ هذه الأمور، وتتأملّها في قلبها. ورجع الرُّعاة وهم يمجِّدون الله ويُسبِّحونه على كلِّ ما سَمِعوا ورأوا كما قيلَ لهم.” (لوقا 1: 8-20).
كان الرّعاة يعيشون في البريّة ولم يكن مؤَّمنًا لهم لا المأكل ولا المنامة، وقد كانوا يتناوبون السَّهر على رعيّتهم. إنّ البريّة تُشير إلى الوَحدة والمتروكيّة: فالرّعاة كانوا يتعرَّضون للمخاطر فيها من دون وجود إمكانيّة لحصولهم على المساعدة، كما أنَّ البعض منهم ماتوا مِن دون أن يدري بهم أحد إلّا بعد مرور فترةٍ طويلة من الزَّمن. كان الرّعاة يسهرون على رعيّتهم في اللّيل وفي النّهار كي لا تُصاب الرعيّة بأيّ أذى، وبالتّالي نتعلّم منهم أهميّة السَّهر في اللّيل والنّهار كي لا يُفاجئنا مجيء الربّ. في كلّ ظهورٍ له، يطلب ملاك الربّ من الإنسان عدم الخوف. إنّ ملاك الربّ لا يأتي إلى الإنسان إلاّ حين يكون هذا الأخير في حالةٍ من الشِّدة والخوف والاضطراب. فمثلاً، حين انتاب يوسف الشكّ في أمر مريم، ظهر له الملاك قائلاً له: لا تخف يا يوسف بأن تأخذ امرأتك إلى بيتك، وقد أحدثَ هذا الظّهور تحوّلاً جذريًّا في حياة يوسف. كذلك، على المؤمن عدم الخوف من أيِّ تغيير في حياته ناتجٍ عن ظهور الربّ له، لأنّ هذا التغيير آتٍ من لَدُنِ الله، وسيكون سببًا لسلامه الداخليّ. لقد بشَّر الملاك الرّعاة “بفرحٍ عظيم”، وهذا الفرح هو نتيجة ولادة المخلِّص المنتظر، وبالتّالي هو فرحٌ لجميع النّاس من دون استثناء. إنّ “اليوم” هو زمن الله، فالله لا يتكلّم عن عمله الخلاصيّ الّذي تمّ في الماضي أو الّذي سيتمّ في المستقبل، فعمل الله الخلاصيّ للبشر يتمّ اليوم وفي كلّ يوم.
إنَّ العلامة الّتي أعطاها الملاك للرّعاة:”طفلاً مُضجعًا مقمَّطًا في مذود”، هي علامةٌ بسيطة، لا تُعبِّر عن مجد الله وعظمته بالنسبة للبشر الّذي يبحثون عن الخوارق لرؤية عظمةِ الله. يعتقد الإنسان أنَّ ظهور الربّ له يجب أن يترافقَ مع أعمالٍ خارقة كزلازل وأعاصير وما شابه من الخوارق، غير أنَّ الله في الحقيقةِ قد أثبتَ للإنسان عكس ذلك حين ظهر له طفلاً مُضجعًا مقمَّطًا في مِذود، فالله يظهر للمؤمِن من خلال المهمَّش والمتروك، وفي أماكن لا يتوقّع الإنسان ظهور الله فيها. إنّ الربّ قد وُلِد في مذود، لأنّه لم يكن له مكان بين البشر، ولكنَّ هذا الكلام لا يعني أبدًا أنّ الله يطلب شفقة الإنسان عليه، لأنَّ مَن يحتاج حقيقةً إلى الشفقة هو الإنسان لا الله المولود في مِذود. وُلِد الطّفل الإلهيّ، في مذودٍ في بيت لحمَ، أي في بيت الخبز، وبالتّالي إن لم يتمكّن المؤمِن مِن كسر خبزه مع الّذين يحتاجونه، فإنّ الربّ لن يتمكّن مِن الولادة فيه، لأنّ الربّ يُولَد في عالمنا من خلال كلّ مهمَّش ومتروك. إنّ الطفل المقمَّط في مِذود، يرمز إلى المسيح المائت، الّذي لُفَّ بالأقمطة، وأُضجِع في قبر يوسف الرّامي الجديد.
إذًا، إنّ العلامة نفسها نراها في ميلاد الربّ وموته: “مقمَّطًا مُضجعًا في مذود”. وُلد المسيح في مِذود، كي يُميتَ حياة الإنسان القديمة، ليُدخِلَه في حياته الأبديّة الّتي لا موت فيها. إنّ الإنسان لن ينجح في الموت عن الذّات إلّا حين يعطي الحياة لإنسان قد يموت في أيّة لحظة من الجوع، إن لم يحصل على المساعدة من الآخرين.
يذكر الكتاب المقدَّس حضور “جمهورُ الجُند السماويّين” لتسبيح الله، أي وجود عدّة ملائكة لا ملاكٍ واحد. ينقل لنا القدِّيس لوقا مشهدًا مَلكُوتيًّا، من خلال هذا النّص الإنجيليّ، إذ يُخبرنا عن اليوم الأخير بكلامه عن المِذود: فكما أنّ الملائكة تسبِّح الله، الطِّفل الإلهيّ المولود في المذود، ليلاً نهارًا، كذلك تُسبِّح الملائكةُ الله، السّاكن في السماوات والجالس على العرش، في اليوم الأخير. في زمن العيد، يدفعنا الطِّفل المولود إلى تغيير ذهنيّتنا وأفكارنا، فالعالم يسعى إلى طمر المولود فينا وقتله، كما حاولوا طمره حين تجسَّد في أرض البشر. إنَّ العالم لن ينجح في طمر المولود، لأنّه سيظهر في أماكنَ لم يفتكر فيها الإنسان يومًا.
في حدث الولادة الإلهيّة، سبَّحت الملائكة الله قائلةً: “المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام، وفي النّاس المسرّة”. يعتقد المؤمنون أنّ هذا النشيد مؤلّفٌ مِن ثلاثة أقسام منفصلة: المجد لله في السّماء، والسّلام في الأرض، والمسرّة في النّاس. إنّ ما رتّله الملائكة ونقله إلينا الإنجيليّ لوقا هو مختلف تمامًا عمّا فَهِمَه البشر من هذا النَّشيد: فالملائكة أخبروا البشر أنّ مجد الله السماويّ قد حلّ بيننا بولادة المسيح المخلِّص، وهو سينعكس سلامًا في الأرض، وفرحًا في النّاس الّذين يُرضُون الله ويقبلون به. إنّ الله الآب قد أَعلن يوم عماد يسوع على نهر الأردنّ، أنّ يسوع المسيح هو سبب مسرّته، قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب الّذي به سررت”. إذًا، إنّ مسرّة الله الآب هي في الربّ يسوع، وبالتّالي في كلّ الأشخاص الّذين قبلوا الابن ويحاولون التشبّه به. إنّ الربّ يسوع، بولادته على أرضنا، منحنا السّلام الإلهيّ، أي السّلام الآتي مِن لَدُنِ الله.
يخبرنا العهد القديم عن داود الملك الّذي كان راعيًا، وقد اختاره الله من بين إخوته، وجعله مَلِكًا على شعبه، ليُحقِّق مشروعه الخلاصيّ للبشر. غير أنَّ داود قد فشل في تحقيق مشروع الله، إذ نَفَّذَ مشروعه الخاصّ، حين بنى لله هيكلاً صغيرًا في قصرِه معتقدًا أنّه بتلك الطريقة سينال رضى الله. إنَّ “القصر” في اللّغة العبريّة يُسمّى “هيكَل”، والكنيسة الصغيرة أي الكابيلا هي أيضًا في اللّغة العِبريّة تُسمّى “هيكَل”. إنّ داود جعل من الهيكل قِسمًا من أقسام قَصرِه الكبير، غير أنّ الله لا يقبل بأن يُصبح قسمًا من أقسام القصر، فهو يرغب في أن يسود على البشر ويملأ حياتهم كلّها من حضوره. إنّ عادة بناء الهياكل في قصور الملوك والمتمولّين هي عادة وثنيّة، استمرّت عبر التّاريخ فَوَصَلَتْ إلى الكنيسة وتغلغلت فيها. إنّ اليهود قد أنشأوا هياكِلَ صغيرةً داخل قصور ملوكهم. وتوارثت المسيحيّة من اليهود تلك العادة، فأصبحت مراكز العبادة، أي الكابيلات، موجودة في القصور المسيحيّة قديمًا، وأصبحت اليوم موجودة في كلّ مراكز البطريركيّات.
إنّ المشكلة لا تكمن في بناء الملوك والبطاركة والأساقفة تلك الكابيلات في مراكز إقامتهم، إنّما المشكلة تكمن في ذهنيّة هؤلاء عند بنائهم تلك الهياكل. وهنا السؤال يُطرَح حول هدف هذا الإنسان المتموِّل من بناء الهيكل في مكان إقامته؟ على الإنسان المتموِّل ألّا يبني هذا الهيكل داخل قصره بذهنيّة أنّه من خلال هذا المذبح الصّغير الّذي يُقيمه في بيته، يستطيع إرضاء الله، وبالتّالي الحصول على حمايةٍ منه لكلّ ممتلكاته الأرضيّة. على القصور أن تتحوّل إلى هياكلَ لله لا أن يصبح الهيكل جزءًا صغيرًا من أجزاء القصر. إنّ بناء الهياكل الصغيرة داخل القصور، يُلقي الضوء على إحدى مشاكل الإنسان وهي أنّه يسعى إلى جعل الله شبيهًا به، لا أن يُصبح هو شبيهًا بالله. ينظر المؤمِن إلى المولود الإلهيّ فيرى فيه طفلاً صغيرًا فقيرًا، فيُشفِق عليه، ويتحوّل المؤمِن عندها إلى كتلةٍ من الحنان والعطف تجاه هذا المولود “الضَّعيف” بالنسبة له. إخوتي، إنّ الله قد وُلِد في مذودٍ، مُحاطًا بالبهائم، لا من أجل حصوله على شفقة البشر، بل من أجل ردّ الإنسانيّة المفقودة إلى البشر الّذين يتصرّفون مع بعضهم البعض بطريقة حيوانيّة.
إنّ الرّعاة الّذين تكلّم عنهم الإنجيليّ لوقا، لا ينتمون إلى فئة الرّعاة الّذين تكلّم عنهم العهد القديم على لسان أنبيائه إرميا وحزقيال، قائلاً فيهم: “ويلٌ للرّعاة الّذين يَرعَون أنفسَهم ولا يَرعَون غنمي، يقول الربّ”. إنّ الرّعاة الّذين جاؤوا لرؤية المولود الإلهيّ، هم رعاةٌ كانوا يتناوبون السَّهر على رعيّتهم، بحسب قول الإنجيل. بعد سماعهم لبشارة الولادة من الملاك، جاؤوا مُسرعين لرؤية الطِّفل. إنّ عبارة “مُسرِعين” تُشير إلى عدم قدرة هؤلاء الرّعاة على الانتظار أكثر. إنّ هذه العبارة تجعلنا نتذكّر حادثة زكّا العشار، الّذي نزلَ سريعًا استجابةً لطلب يسوع منه، كما يتوارد إلى ذهننا أيضًا مشهد النِّسوة عند القبر اللّواتي اكتشفْنَ قيامة المسيح من القبر الفارغ، فأسرعن لإخبار التّلاميذ بالأمر. عندما يتلّقى الإنسان البشارة الإلهيّة، لا يعود بإمكانه البقاء في مكانه، بل يُصبح مندفعًا إلى نقل تلك البشارة، وبالتّالي يُصبح زمنه زمنًا مُسرعًا ومتحرِّكًا على الدّوام. إنّ أوّلَ إنجيلٍ تمَّ تناقُلُه عبر التّاريخ هو إنجيلُ الرّعاة الّذين أخبروا كلّ الّذين التقوا بهم، بشارة الملاك لهم، وقد اعترت الدهشة كلّ الّذين سَمعوا تلك البشارة مِن الرّعاة.
“وكانت مريم تحفظ جميع تلك الأمور وتتأمّلها في قلبها”. إنّ حِفظ الأمور لا يعني أبدًا حِفظها عن ظهر قلب، أي غيبًا، إنّما يعني جعلَ الإنجيل، تلك البشارة السّارة، بعيدةً عن التشويه والفساد. لقد كانت مريم، ذلك الإناء الّذي حمَلَ في داخله بشرى الله الخلاصيّة، وقد حافظَت مريم على تلك البشرى من خلال إخلاصِها لكلمة الله. لقد وصلَت كلمة الله إلينا نتيجة وجود مؤمِنين مُخلِصين حَفِظوا تلك الكلمة مِن الفساد والتشويه، فنقلوها إلينا بكلِّ أمانة. إنّ مريم هي صورة المؤمِن، حافظ الإنجيل. أمّا اليوم، فنجد أنّ المؤمِنين يُدخِلون التعديلات على رواية ميلاد الربّ مدّعين أنّها قصّة الميلاد الحقيقيّة. لقد درجَتْ العادة في عيد الميلاد، أن تجتمع العائلة كلّها، غير أنّ هذا الاجتماع أصبح مناسبةً لظهور الخلافات العائليّة. إنّ وجود الخلافات بين أفراد العائلة الواحدة، يدفعنا إلى طرح السؤال على ذواتنا: أين نحن مِن هذا العيد؟ إنّ الشُّعور بفرح العيد، يُقاس في أيّامنا هذه، من خلال كميّات الشوكولا والحلويات المستهلكة في هذا العيد، كما أصبحت رسائل المعايدة النصيّة عبر كلّ وسائل التواصل الإجتماعيّ، إحدى المقاييس المعتمدة للشُّعور بالعيد، مُتَناسِين أهميّة مشاركتِنا للآخرين في العيد من خلال زيارتنا لهم ومعايدتنا لهم في هذه المناسبة السّارة.
إنَّ الرّعاة سبّحوا الربّ ومجَّدوه كما فعل الجند السماويّون، وذلك من خلال إعلانهم بشارة ولادة الـمُخلِّص للآخرين. إنّ البشارة بولادة الربّ تمّت على لسان الرّعاة الّذين بشَّروا الآخرين بها، وإعلان قيامة الربّ يسوع تمَّ من خلال البستانيّ الّذي ظهر لمريم المجدليّة حين جاءت صباح الأحد لتُحنِّط جسد الربّ، وتَمجَّد الربّ في القيامة حين ظهر لتلميذَي عماوس من خلال ذلك الغريب الّذي رافقهما طوال مسيرة عودتهما إلى قريتهما. لقد لجأ الإنجيليّ لوقا إلى كلّ تلك الصُّوَر ليقول لنا إنّ الربّ يتجلّى للمؤمنين به من خلال الأشخاص الّذين لا يهتمّ بهم أحد ولا ينالون حظوةً في عيون إخوتهم البشر في الكثير من الأحيان. إذًا، كي يتمكّن المؤمِن من رؤية المسيح، مولودًا، قائمًا أو ممجَّدًا في حياته اليوميّة، عليه أن يهتمّ بالأشخاص المولودين في هذه الحياة والّذين يعيشون فيها كأنّهم أمواتًا، غير مولودين، إذ لا أحد يهتمّ باحتياجاتهم البشريّة. إنّ المؤمِن سيشعر بفرح ولادة المسيح فيه، حين ينجح في إسعاد أحد المحتاجين الّذين ما عادوا يعرفون طعم الفرح، وقد غابت الابتسامة عن وجوههم بسبب عَوَزِهم.
إنّ رواية الميلاد عند الإنجيليّ متّى تتضمّن طَرافةً، أي مشهدًا مسرحيًّا يحتوي انتقادًا ساخرًا. وهذه الطرافة نجدها في تصرّف المجوس مع الملك هيرودس إذ جاء هؤلاء سائلين ملك اليهوديّة، هيرودس، عن ملك اليهود المولود حديثًا. إنّ السؤال الّذي طرحه المجوس على هيرودس يعبّر عن اعترافهم بالمولود الإلهيّ ملكًا لليهود بدلاً من هيرودس، ولذا قرّر هيرودس قتل المولود في بيت لحم، لأنّه يشكّل خطرًا على عرشه، فيبقى هو الحاكم الوحيد في مملكته. إنّ القوانين في الممالك، تقضي بوجود ملك واحدٍ في كلّ مملكة، يجلس على العرش ويحكم مملكته. وبالتّالي، فإنّ وجود مَلِكين في مملكةٍ واحدة يُنبئ بانقسام المملكة وخرابها، وهذا ما يبرِّر اضطراب الملك هيرودس وكلّ رؤساء اليهوديّة، عند سماعهم تلك البشارة. إنّ اضطراب هيرودس ومعه سائر رؤساء اليهود، يذكِّرنا بحدث الصّلب، حين اضطرب قيافا ومعه كلّ رؤساء اليهود، ورفعوا قضيّتهم في شأن يسوع إلى الامبراطور الرومانيّ طالبين منه قتله وصلبه.
إنّ المجوس الغرباء نقلوا لليهود خبرَ ولادة ملكهم؛ أمّا في الصّلب، فقد اعترف اليهود بشخص رؤسائهم أنَّ ملكَهم هو القيصر لا يسوع. في الميلاد، اعترف المجوس بالملك الإلهيّ وسجدوا له، رافضين الخضوع لملكٍ بشريّ؛ أمّا في الصّلب، فقد اعترف اليهود بالقيصر، الملك الوثنيّ، ملِكًا عليهم بدلاً من يسوع، الملك الإلهيّ. إنّه لغريبٌ أن يسجد المجوس للمخلِّص، هم الّذين لم يكونوا بانتظاره، في حين رفض اليهود، الّذين كانوا في انتظار مجيئه، السُّجودَ له. إنّ هذا الأمر، يفسِّر لنا ما ورد في الكتاب بأنّ الآخِرين يُصبحون أوَّلِين، والأَوَّلون يُصبحون آخِرِين، معتمدين يسوع المسيح معيارًا لنا. إنّ سجود المجوس للطِّفل المولود، يُعبّر عن خضوعهم له. لقد استجوب هيرودس المجوس حول مكان ولادة الطِّفل الإلهيّ، لا ليسجد له كما ادعّى أمامهم، إنّما كي يقتله، فيقتل في الوقت نفسه، وعد الله لشعبه الّذي تحقّق من خلال ولادة هذا الطِّفل، وبالتّالي فإنّه يقتل الوعد الّذي كان الأساس في اختياره ملكًا على الشَّعب اليهوديّ.
إنّ تصرُّفَ هيرودس مع المجوس كان تصرُّفًا شيطانيًا لأنّه مُستنِدٌ على الغشّ والخداع: إذ قد استدعى هيرودس المجوس، سرًّا وفي اللّيل، طالبًا منهم البحث عن الطِّفل ومن ثمّ العودة لإخباره بمكانه. إنّ أورشليم، الّتي يحكمها هيرودس، هي صغيرة المساحة بالنسبة إلى باقي الممالك، وبالتّالي كان على هيرودس، أن يطلب من الجيوش العسكريّة في المملكة البحث عن هذا الطِّفل، لا أن يُكلِّف الغرباء بتلك الـمَهمَّة. إنّ المجوس جاؤوا من المشرق ليبحثوا عن هذا الطِّفل ويسجدوا له، لذا كان مؤكَّدًا أنّهم لن يعودوا إلى بلادهم قبل أن يجدوه، لذلك طلب منهم هيرودس العودة إليه لإخباره بمكان المولود. إنّه لمستحيل على هيرودس الملك أن يجد الطِّفل في أثناء بحثه عنه، لأنّه لا يبحث عنه بِغَرَض السُّجود له، إنّما بهدف قتله، فتفكير هيرودس هو تفكيرٌ شيطانيّ لا إلهيّ. إنّ الأُمَم الوثنيّة قادرةٌ على إرشاد المؤمنين إلى الإله الحقيقيّ وعلى مكان ولادته في وَسَطِهم أكثر من رؤساء المؤمنين وملوكهم.
إنّ الإنجيليّ متّى يذكر لنا ظُهورَين للملاك على يوسف: في الأوّل، وكان ذلك قبل ولادة الطِّفل، طالبًا منه أن يأخذ مريم امرأته إلى بيته؛ وفي الثّاني، وكان بعد ولادة يسوع، ظهر له الملاك طالبًا منه أن يأخذ الصَّبي وأمّه ويهرب بهما إلى مِصر. وبالتّالي يمكننا الاستنتاج من هذا الكلام، أنّ مريم قبل الولادة، كانت مرتبطة بيوسف إذ قال له الملاك عنها “امرأتك”؛ أمّا بعد الولادة، فقد أصبحت مريم بالنسبة للملاك “أمّ الصّبي”، أي أنّها أصبحت مرتبطة بالطِّفل يسوع لا بزوجها يوسف.
حين وجد المجوس الطِّفل، قدّموا له الهدايا الّتي تُعبر عن اعترافهم به إلهًا ومَلِكًا عليهم. قدّم المجوس للطِّفل الذهبَ الّذي يرمز للمَلَكيّة، والبخور للألوهة، والمرَّ للشهادة. من خلال هداياهم، يَظهرُ لنا أنّ المجوس قد أدركوا هويّة يسوع ورسالته أكثر من الشَّعب اليهوديّ الّذي ينتمي إليه يسوع. إنّ المجوس فعلوا كما أمرهم الملاك في الحلم، فعادوا إلى بلادهم في طريق أخرى، من دون العودة إلى هيرودس الملك.
بالنسبة لمتّى الإنجيليّ، تُشكِّل ولادة المسيح عمليّة خلقٍ جديدة للبشريّة، ومشروع خلاص جديد لهم. إنّ فكرة خلاص الله لشعبه، في العهد القديم، ظهرت أوّلاً في تحرير الشَّعب من عبوديّته في مِصر، وخروجه منها إلى أرض الوعد. أمّا في إنجيل متّى، فنقرأ أنّ يوسف هرب بالصبيّ وأمّه إلى مِصر، استجابةً لطلب الملاك، لأنّ اليهود أرادوا التخلُّص من يسوع بقتله. لقد أراد اليهود، قتل المولود الإلهيّ، ومعه كلّ الّذين يُشبهونه. وهذا ما يختبره في عالم اليوم، كلّ حاملٍ للواء الحقّ، كلمة الله، إذ يتعرَّض للقتل من قِبَل أبناء هذا العالم الرافض للحقّ، فالعالم لا يرغب بسماع أصوات الحقّ الّتي تُدينه على أعماله الشريرة. ولكن لم ينجح العالم في قتل الحقّ، لذا سعى إلى قتل كلّ الّذين ينادون به، وهذا ما حصل مع أطفال بيت لحم، الّذين قُتلوا على يد جنود الملك. إنّ الباطل لا يستطيع أبدًا أن يُعرقل مشروع الله، وهذا ما نراه في هروب يوسف مع الطِّفل وأمّه إلى مِصر. فالطِّفل يسوع قد نجا من الموت على يد هؤلاء الجنود، بذهابه إلى مِصر، وثمّ عاد، بعد زوال الخطر عنه، وبهذا نرى خروجًا جديدًا للشَّعب اليهوديّ من مِصر، يفتَتِحه يسوع المسيح.
عاد الطِّفل وأمّه ويوسف من مِصر، لكي يتمّ ما قيل بالأنبياء “إنّه يُدعى ناصريًّا”. في الكتاب المقدّس، العهد القديم، لا نجد سفرًا يُطلق عليه اسم “الأنبياء”، إذ لكلّ نبيٍّ سِفره الخاصّ، على سبيل المثال سِفر إرميا، سِفر أشعيا، سِفر حزقيال. عادةً، يقول النبيّ نبوءةً تتحقّق في المستقبل، وحين تتحقَّق يُقال إنّ النبوءة الّتي أطلقها النبيّ فُلان قد تحقّقت. إنّ هذه النبوءة: “إنّه يُدعى ناصريًّا”، غير موجودة في كلّ الكتاب المقدَّس. وهنا نطرح السؤال، أين يكمن الخطأ في هذه النبوءة: أَنقل إلينا الإنجيليّ أمرًا من تأليفه أي غير صحيح تاريخيًّا، أم أنّ السَّبب يكمن في الطباعة أو في الترجمة؟ إنّ كلمة “جِذِع”، أو “قضيب” في العبريّة تُتَرجم “نِتْسِر”. إنّ النبيّ إشعيا تنبَّأ قائلاً إنّ قضيبًا سيخرج من جِذع يسّى وسيكون الرّاعي الحقيقيّ والوحيد للشَّعب. هذا هو اعتراف المؤمنين بيسوع، إنّه “نِتسِر”، أي القضيب الّذي خرج من جِذع يسّى، وهو الّذي سيكون حقًّا راعي شعب الله الوحيد.
في هذا العيد، على المؤمِن أن يستعدّ لا للقاء الطِّفل المولود في مِذود بيت لحم، فيُشفِق على حالته، إنّما للقاء الرّاعي والإله والمخلِّص، ومُعطيه الحياة، والنّور لحياته الأرضيّة. إنّ الإنسان سيشعر بالفرح الّذي لا وصف له، والّذي لا يستطيع أحدٌ أن ينتزعه منه، حين يلتقي هذا المولود. إذًا، على المؤمِن أن يختار: إمّا أن يكون يوم الميلاد، يوم لقائه بالمخلِّص، فيحصل على الفرح الّذي لا يزول، وإمّا أن يكون يوم الميلاد، يوم لقائه بالطِّفل الّذي يحتاج إلى الشفقة، فينتهي العيد حينها عند انتهاء نهار العيد وبداية نهار آخر. إنّ القرار بِيَدِك أيّها المؤمِن، فماذا تختار؟ أيُّ لقاءٍ وأيُّ فرحٍ؟ آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.