محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،

الهدوء والاحتمال،

إنَّ زمن الصّوم، يشكِّل فرصةً لنا، نحن المؤمِنِين، لاختبار الفرح من خلال التأمُّل في كلمة الله، الّتي تمنحنا انتعاشًا روحيًّا ويقظةً روحيّة.
في ظلِّ مواجهتِنا لهموم الحياة، وصعوباتها اليوميّة، تظهر حاجة ملِحَّة إلى أمَرين: وهما أوَّلاً الهدوء، وثانيًا القُدرة على الاحتمال. إنَّ هدوء النَّفس يكون على مُستويَيَن: أوَّلاً، هدوء النَّفس مع النَّفس، وثانيًا هدوء النَّفس في مواجهتنا للآخَرين؛ وكذلك القُدرة على الاحتمال هي على مُستوَيين: أوّلاً القدرة على احتمال الآخَر، وثانيًا القُدرة على احتمال الحياة بِتَجاربِها وأزماتها. إنّ ما سنعرضه عليكم اليوم، ليس “وصفة طبيّة سحريّة” قادرة أن تمنح المؤمِن ضبط النّفس والسيطرة على غضبه، إنّما هو عبارة عن مفاتيح قادرة على فتح آفاقٍ أمام المؤمِن، فيُدرِك أنّ هذه الحياة لن تُمنَح له إلّا مرَّةً واحدة، وبالتّالي عليه عيشِها بفرحٍ وهدوء، لا في حالةٍ مِنَ الغضب والتَّوتر نتيجة همومها الّتي تعترضه يوميًّا. 

إذًا، على المؤمِن أن يُفكِّر في كيفيّة مواجهته لصعوبات هذه الحياة، من دون أن يُعطي الأمور حجمًا أكبر من حجمها الطبيعيّ، ففي أكثر الأحيان، تتعاظم صعوبات الحياة في مخيِّلَتنا في حين أنّها صغيرة وسهلة الحلّ في الواقع. وإليكم مِثالٌ على ذلك: إنَّ السّاحر المشهور “هُودينيّ”، لم يتمكَّن من الخروج من سِجنٍ منزوع الأقفال، لأنّه نظر إليه على أنَّه من أصعب السُّجون في العالم. وبالتّالي، إنَّ التَّوتر والغضب، يمنعان الإنسان من رؤية الأمور على حقيقتها، وهذا ما يجعله غير قادر على إيجاد الحلول لمشاكِله؛ في حين أنَّ هُدوء النَّفس يدفعه إلى إيجاد الحلول بطريقةٍ سهلة وبسيطة .

إنَّ زمن الصّوم هو فرصةٌ لنا للتمرَّس في العيش بهدوءٍ. إنَّ الربّ يسوع قد قصد الصَّحراء وعاش فيها بهدوء على الرُّغم من عدم توافر أبسط الأمور الحياتيّة فيها كالطَّعام والشُّرب. فالصّحراء في الكتاب المقدَّس ترمز إلى الموت. إنَّ محافظة يسوع على حالة الهدوء ساهمت في انتصاره على إبليس وتجاربه. إنَّ الهدوء لا يعني الّلامبالاة وقلّة الاهتمام، بل يعني السَّكينة الدَّاخليّة. إنَّ الإنسان القنوع بما لديه، يعيش في حالةِ هدوءٍ مع الذّات؛ أمّا الإنسان غير القنوع بما يملك، فيعيش في اضطرابٍ دائمٍ، إذ يسعى على الدَّوام إلى الحصول على ما هو أكثر، مهما كلَّفه الأمر. وهنا تُطرَح الأسئلة: هل ما يبحث عنه الإنسان هو في الحقيقة حاجةٌ ضروريّة له؟ وبالتّالي، وما الّذي سيحدث إن لم يَنل ما يريد؟ في الحقيقة، لن يحدث شيئًا في حال عدم حصوله على ما يطمح إليه، فالحياة ستُكمل مسيرتها في حال حصوله على ما يريده وفي عدم حصوله عليه؛ لذا، لا داعي للغضب والتَّوتر. ولكن هذا لا يعني ألّا يكون الإنسان طموحًا، بل يعني أن يُفكِّر الإنسان بهدوءٍ وبِرَوِيَّةٍ للحصول على ما يريده، فالاضطراب والتَّوتر سيمنعانه مِن ذلك.

إنَّ الغضب يولِّد سلسلةً من الخطايا، وعلى المستوى الفِكريّ واللَّفظي. إنّ الغضب هو مِن الأهواء والتَّجارب الـمُعيبة، الّتي يتعرَّض لها الإنسان فيَسقط على أثرِها في الخطيئة. إنَّ الغضب سيؤدِّي بالإنسان إلى إحدى هاتين الخِسارتَين: خسارة صديقٍ، أو خسارة علاقة. لذا يقول لنا الله في الكتاب المقدَّس:”إنْ غَضِبتم فَلا تُخطئوا”، وهذا لا يعني تشريع الغضب، فالغضب مرفوضٌ تمامًا؛ ولكن إنْ كان لا بُدَّ من الغضب، فعلى الإنسان الحَذَر من الوقوع في الخطيئة. إنَّ الغضب يدفع بالإنسان إلى قتل أخيه الإنسان بكافة الطُرق المتاحة: أوّلاً على صعيد الفِكر، فيُلغيه من الوجود في تفكيره، كما يستطيع أن يقتله بلسانه، فيشوِّه له سُمعته في مجتمعه، وأخيرًا يُمكنه أن يقتله جسديًّا. إنّ اللِّسان هو عضوٌ من أعضاء جسد الإنسان، لا عَظم فيه ولكنّه يستطيع تحطيم كلّ عِظام الإنسان. إنّ الغضب هو عدوّ الهدوء، والهدوء يُخفِّف مِن وطأة غضب الإنسان على الآخَر.

وهنا يُطرَح السؤال: ما السبيل للتَّخفيف من طاقة الغضب عند الإنسان؟
أوّلاً: وَعي الإنسان لعلاقته مع الربّ. على الإنسان أن يتعامل مع الآخَرين الّذين يُسيئون إليه، كما يتعامل الربّ معه، هو الإنسان الخاطئ. حين يُخطئ الإنسان إلى الله، فإنّه يُسارِع إلى تقديم الصّلوات إليه، ويسعى إلى تبرير ذاته أمامه، ويقوم بالإماتات والتقشُّفات في محاولةٍ منه لإرضائه، ودَفعِ الله إلى الغفران للخاطئ. إذًا، يسعى الإنسان إلى طلب الغفران من الله على خطاياه، طالبًا منه التَّركيز على النّوايا الكامنة وراء تلك الأفعال السّيئة فقط، لا على الأفعال بحدِّ ذاتها. إنّ الله يستجيب لطلب الإنسان ويغفر له خطاياه وينساها، فلا يعود يذكرها له من بَعد، مع العِلم أنّ الإنسان لا ينفكَّ عن يُقدِّم الوعود والعهود إلى الله بعد إعلان توبته، ولكنّه للأسف، يعود سريعًا إلى التفريط في تحقيق تلك الوعود، ويعود مِن جديد للإساءة إلى الربّ. 

أمَّا في علاقَتنا مع الآخَر، فإنّنا نجد صعوبةً كبيرةً في الغفران للآخَر الّذي قد يسيء إلينا مرّةً أو مرّاتٍ محدودة، فنرفض أن ننسى له إساءاته إلينا، بل نُذكِّره فيها عند كلّ لقاءٍ لنا به، لأنّنا نركِّز على أفعاله ونضمِّنها نوايا سيّئة، مخالفة لنواياه الحقيقيّة، مهما حاول الآخَر تبرير أخطائه تجاهنا. وهنا يُطرَح السؤال: لماذا نتعامل مع الآخَرين خِلافًا للطريقة الّتي نرغب في أن يتعامل بها الربّ معنا؟ إخوتي، حين نتعامل مع الآخَرين كما نرغب أن يتعامل الربّ معنا، تُولَد الرأفة في قلوبنا، ونحصل على الهدوء الداخليّ.

ثانيًا: الصّلاة. إنَّ الصّلاة، بالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ من المؤمِنِين، مرتبطةٌ بالطِلبات والتشكُّرات لله: فغالبيّة المؤمِنِين يتوجَّهون في صلواتهم إلى الله، بسلسلةٍ من الطِلبات لله، طالِبِين من الله تحقيقها لهم؛ كما أنَّ البعض الآخَر يتوجَّهون إليه بسلسلةٍ من التَّشكرات على عطايا نالوها في الماضي، طالبِين منه المزيد من العطايا في المستقبل. إنّ بعض المؤمِنِين يشكرون الله على عطاياه لهم، مخافةَ ألّا يستجيب لهم لِطلباتهم في المستقبل. إنّ صلواتنا للأسف، لم تَصل عند غالبيّة المؤمِنِين إلى مستوى العلاقة مع الربّ، فَهي في غالبيّتها إمّا سلسلة من الطِلبات أو سلسلةٌ من التشكُّرات. حين تتحوّل الصّلاة إلى علاقةِ حُبٍّ مع الله، فإنّ المؤمِن سيسعى إلى إيجاد وقتٍ لمجالسة الله والتمتُّع بحضوره، لا من أجل الطّلب منه أو شُكره، إنّما فقط لمجرَّد اللِّقاء، فهذا اللِّقاء يزرع في قلب المؤمِن الفرح لوجوده في حضرة الله. 

إنَّ هذه العلاقة الـمَتينة مع الربّ، تخلق في الإنسان حالةً من الهدوء الداخليّ الّذي يدفعه إلى التروِّي في معالجة الأمور، وعدم التسرُّع في الغضب. إنّ التروِّي في معالجة الأمور، يجعل الإنسان بطيئًا في الغضب، وعندما يشعر بحاجته للغضب، إثر مواجهته لصعوبة ما، سيجد أنَّها لا تستأهل كلّ الغضب الّذي كان ينوي التَّعبير عنه. إنَّ الله قد أبدع في خَلقِه للإنسان، إذ خلق له أُذنَين وعَيْنَيْن، ولكنّه خلَقَ له لِسانًا واحدًا، كي لا يُسارِع الإنسان إلى التَّعبير الانفعاليّ عن غضبه، الذّي يؤدِّي إلى ارتكابه الخطايا، والتروِّي قبل النُّطق بأيّة كلمةٍ لا تُرضي الله. من خلال هذا الإبداع في الخلق، أراد الله أن ينظر الإنسان مرَّتين وأن يُصغي مرَّتين إلى الصّعوبات الّتي تواجهه قبل الحُكم عليها، والتَّعبير عن غضبه بسببها. 

إنَّ تَحلِّي الإنسان بالهدوء النفسيّ، يجعله إنسانًا ذا مواقف لا انفعاليّة. إنَّ زمن الصّوم هو فرصةٌ قد أُعطيَت لنا لنتمرَّس على الهدوء، والتروّي بدلاً من الانفعال السريع. إنّ الآباء القدِّيسين يُجمِعون على أنَّ أفضل وسيلة لتخطِّي الغضب والسيطرة على الخطيئة، هي الصَدَقة، أي مُساعدة الآخَر. إنّ كلَّ غضبٍ وانفعالٍ يحتوي على نوعٍ من الأنانيّة غير الظاهِرَة للعَلن، ولذا فإنّ مساعدة الإنسان لأخيه الإنسان، تَضَع حدًّا لِتِلكَ الأنانيّة المتعاظِمة في داخل الإنسان. في الأنانيّة، يكون هدف الإنسان إظهار “الأنا”، أمّا حين يُساعد الإنسان أخاه الإنسان، فإنّه يهدِف إلى إظهار الآخر، أي “هو”، أو “نحن”.
إنّ الصَدقة تجعل الإنسان في حالةٍ من الصَّفاء الدّاخليّ، الّذي لا بُدَّ له أن يُشِّع على وجهه، فيراه الآخرون متوَهِّجًا. إنّ الصَّفاء الدّاخليّ يتوهَّج على مُحيَّا الإنسان، حين يعيش هذا الأخير في حالة من السَّكينة الداخليّة والهدوء النفسيّ العميق. إنَّ الآخَر لن يستطيع رؤية الصّفاء المتوَهِّج في الآخَر، إلّا إذا كان في داخله جزءٌ من هذا الصَّفاء، وهذا ما نعبِّر عنه بالقول: “أرتاح في الكلام مع هذا الإنسان، أمّا ذاك فلا أشعر بالرّاحة لوجوده”. 

إنّ التّعابير المستخدمة في حياتنا اليوميّة، تُعبِّر عن مدى تفاعل الآخَرين مع الصّفاء المتوَهِّج على وجوه إخوتهم البشر. في داخل كلّ إنسانٍ، مساحةٌ من الصّفاء، الّتي تعرَّضت للطَمر نتيجة هموم الدُّنيا ومشاغِلها، لذا نحن مدعوُّون في هذه الفترة، فترة الصّوم، إلى البحث من جديد عن هذا الصّفاء الدّاخليّ الموجود في داخلنا، والسَّعي إلى إظهاره للآخَرين، متوهِّجًا، من خلال السَّهر على علاقَتنا بالربّ. إنّ كلّ إنسانٍ مدعوّ إلى التوبة مهما كان خاطئًا، إذ لا يوجد إنسانٌ شريرٌ بالـمُطلق، فالإنسان يستطيع أن يتفاعل مع كلمة الله الّتي يسمعها في حياته، ويتوب عن أخطائه. أمّا الحيّة الّتي ترمز إلى الشِّرير في الكتاب المقدَّس، فهي حيوانٌ أصمُّ، لذا لا تستطيع التّوبة، لأنّها غير قادرة على سماع كلمة الله، وتغيير مسارها.

أمّا الآن، فننطلق إلى مناقشة فِكرة الاحتمال، والّتي تنسجم مع فِكرة الهدوء بمعالجتها في القسم الأوّل مِن حديثنا اليوم. ينقسم موضوع القدرة على الاحتمال إلى قِسمَين: أوَّلاً، احتمال الآخر الـمُتعِب؛ وثانيًا، احتمال الإنسان للضِّيقات والتَّجارب الّتي يتعرَّض لها في هذه الحياة.
تشتَقُّ كلمة “احتمال”، من كلمة “حِمل”، وبالتّالي حين نتكلَّم عن حِملٍ، فإنّنا لا نتكلَّم عن أمرٍ وهميّ، بل عن حقيقةٍ موجودة. إنَّ الحِمل ينتج عن لِقائنا ببعض الأشخاص الّذين نعتبِرُهم مُتعِبين بالنسبة إلينا، أو عن معاناتنا من ظروفٍ حياتيّة صعبةٍ. عندما نتكلَّم عن قُدرةٍ على الاحتمال، فهذا يُشير إلى تعرُّضنا إلى أمورٍ تَفوقُ طاقَتنا على التَحمُّل. إنَّ التقليل من أهميّة أثقال بعضنا البعض وتسخيفها، لا ينمّ عن محبّةٍ حقيقيّةٍ، بل عن محبّة وهميّة مَبنيّة على تقديم المواعظ للآخرين، فالمحبّة الحقيقيّة مَبنيّة على الانتباه للآخَر ومساعدته على تخطِّي صعوباته.
1-احتمال الآخَر الـمُتعِب. عندما تُعاني من تَعبٍ نتيجة وجودك مع الشَّخص الآخَر ولقائك به، فهذا يعني أنَّ الشَّخص الآخر هو فِعلاً مُتعِب، وأنَّ التَّعب الذي تُعاني منه ليس وَهمًا بل حقيقة. هناك عدَّة تمارين روحيّة يمكنك الاستعانة بها كي تتمكَّن من احتمال الآخَر الـمُتعِب.
نَّ الشَّخص الـمُتِعب هو كالمرض بالنسبة إليْك، لذا عليك أن تأخذ الدّواء المناسب لهذا المرض عند لقائك به، وهو الصّبر.
أوّلاً: إنَّ كلمة “الصّبر” هي كلمة يونانيّة، وتعني “تحت الشِّدة” أو “تحت الضَّغط”. إنَّ الإنسان الّذي يعيش تحت شِدّة أو ضغط، يحتاج إلى الصّبر؛ أمّا الّذي يعيش في راحة وسلام، فلا حاجة به إليه. حين يرزح الإنسان تحت ضَغطٍ مُعيّن، فهو أمام خيارَين لا ثالِثَ لهما: إمَّا الاستسلام لهذا الضَّغط، وإمّا مواجهته بالصّبر، وتَخطِّيه. إنَّ الإنسان الّذي يتحلّى بالصّبر، يتحوّل إلى قاضٍ رحيمٍ للآخَر، لا ينفَكُّ عن إعطاء الفُرَص للإنسان الـمُتعِب لِتَحسين مسيرته وللتَّوبة عن أخطائه؛ في حين أنَّ غياب الصّبر، يجعل من الإنسان قاضيًا ظالـمًا وديّانًا لأخيه الإنسان. إنَّ دينونة الإنسان لأخيه الإنسان تُعبِّر عن أنانيّة غير ظاهرة عند الإنسان الدَّيان.

ثانيًا: تقديم الشُّكر لله. في نطاق تدريب الذات على احتمال الآخر الـمُتعِب، على المؤمِن أن يرفع صلاة الشُّكر لله على النِّعم الّتي نالها من الله، والتّي لا يملكها الآخَر الـمُتعِب، على سبيل الـمِثال: شُكر الله على التربية الّتي نالها الإنسان، والّتي تختلف كلّ الاختلاف عن تربية الشَّخص الـمُتعِب. إنَّ شُكر الله على نِعمَه لا يندرِج في إطار الغرور أو الكبرياء: فكما أنَّ على الإنسان أن يشكر الله على النِّعَم الّتي تَلَمَّسها في حياة الآخرين، كذلك عليه أن يشكره على النِّعم الّتي وَهَبَه إيّاها.

إنّ الشَّخص الـمُتعب لم يَنْعَم بحياةٍ هادئة، بل بحياة مليئة بالأزمات والـمُعاناة. وبالتّالي، حين أنظر إلى الشَّخص الـمُتعِب على أنّه شخصٌ عانى ويُعاني من أمورٍ لم أتعرَض أنا لها في حياتي الخاصّة، أشعر بِقُوّةٍ داخليّة تدفعني إلى احتماله والصّبر عليه. إنَّ الشَّخص الـمُتعِب هو شخصٌ يُعاني من نقصٍ لم تَتِمّ تلبيَته، وهو يحاول تلبيَة حاجاته بكلّ الطُرُق، ممّا قد يُسبِّب إزعاجًا للآخَرين وتَعبًا للآخَر في احتماله. عندما ننظر بهذه الطريقة إلى الشَّخص الـمُتعِب، فإنّنا سنبادِر إلى إعطائه المزيد مِنَ الفُرَص، لِتَحسين مسيرته في هذه الحياة مع الآخَرين.
ثالثًا: تقديم الشُّكر لله على تَحمُّلِه لي، أنا الإنسان الضَّعيف. مهما كان الإنسانُ الآخَر مُتعِبًا بالنسبة لي، فإنّه يبقى أفضل مِنِّي في إِتعابي الله: فمهما كُنْتُ رَجُلاً صالحًا، في نظرِ الآخَرين، غير أنَّي أعلم حقيقتي في العمق، وأعلم أنّني لا أَنْفَكُّ أَتراجع عن عهودي للربّ في كلّ يومٍ، حين أَقع في الخطيئة. حين يُثابر الإنسان على شُكر الله على تَحمُّلِه له، فإنّه في الوقت عينِه، يكتسِب قُدرةً على احتمال الآخَرين مهما كانوا مُتعِبين، لأنّه في الشُّكر تَدوم النِّعَم.
رابعًا: تثبيت نَظَرنا على المصلوب. حين نُثبِّت نظرنا على المصلوب، نُدرِك ما عاناه الربّ من أجلِنا، نحن البشر الـمُتعِبين وإلى أيّة درجة وَصَلَتْ شِّدة إتعابِنا للربّ يسوع. لقد وجد الربّ يسوع العلاج لمسألة إتْعابِنا له، لا بطَلَبِه منّا تغيير ذواتنا داخليًّا، إنّما من خلال تقديم جسده ذبيحة لأجلنا، فسَفَك دَمه على الصّليب حُبًّا بنا. إنّ الأحد الثّالث من زمن الصّوم في الكنيسة الشرقيّة هو أحد الصّليب؛ وقد وضَعته الكنيسة في منتصف الصّوم، لتُذكِّر المؤمِنِين الّذين بدأوا يشعرون بالتَّعب في مسيرة صَومِهم، أنَّ الربّ قد احتمل الصّليب لأجلنا، ممّا يدفع بالمؤمِنِين إلى متابعة مسيرة صَومِهم بِفرح. إنّ صورة المسيح المصلوب،كانت نُصبَ عَينيّ بولس الرَّسول، فهي الّتي دَفعَته إلى احتمال الاضطهادات من الإخوة الكَذَبة ومن الأعداء، في سبيل إيصال البشارة إلى المسكونة كلِّها. ولذا قال في رسالته الأولى إلى أهل كورنتوس (2:2):”فإنِّي لم أشأ أن أعرِف شيئًا وأنا بينَكم، غير يسوع المسيح، بل يسوع المسيح المصلوب”.

خامسًا: تَذَكُّر قُدرة الله على النِّسيان. إنَّ طبيعة الله هي الحُبّ، لذا هو لا ينسى حاجات البشر وآلامِهم، ولكنّه ينسى القدرة على نِسيان الخطايا حين يطلبون منه الرَّحمة والغفران.

2- احتمال صعوبات الحياة ومشقّاتها. إنّ الإنسان مدعوّ إلى احتمال مشقّات هذه الحياة الّتي لا تنتج بالضرورة عن الشَّخص الـمُتعِب، إنّما عن الظروف الحياتيّة اليوميّة. فالربّ يسوع يقول لنا: “إنّ نِيري لطيفٌ وحِملي خَفيف” (متّى 11: 30). وفي هذا الكلام يؤكِّد لنا الربّ يسوع وجود الأثقال في هذا العالم، ولكنّه يدعونا إلى احتمالها كما احتملها هو. إنّ الربّ لا يدعونا إلى حَملِ الأثقال عنه لأنّه لم يعد قادِرًا على حَملِها، بل يدعونا إلى احتمال مشقّات هذه الحياة انطلاقًا من ذِهنيّة الحبّ الّتي اتَّبعها هو نفسه. إنَّ هذه الذِهنيّة تدفع بالإنسان إلى إعطاء الفُرَص في كلّ أوانٍ للشَّخص الـمُتعِب كي يحسِّن مسيرته في هذه الحياة.

إنّ الإنسان غير قادر على احتمال الأزمات والصّعوبات الّتي تعترِضه في هذه الحياة لولا الحبّ الموجود في داخله، فطاقة الحبّ تُخفِّف مِن وَطأة التّجارب عليه وتساعده في الصّبر عليها. فحين تشعر بالتَّعب نتيجة معاناتك مِن حِمل معيَّن في هذه الحياة، اِسعَ إلى مشاركة الآخَر الّذي يشعر بالتَّعب نفسه، في حَمل أثقاله، فتشعر بأنّ حِملِك قد أصبح خفيفًا. إليكم مِثالٌ على ذلك: حين تشعر بالجوع، اِسعَ إلى إطعام جائعٍ، عندها ستشعر بالشَّبع لأنّك ساهَمت في إشباع جائع. إنّ عطاءك هذا، سيزرع الفرح في قلبك لأنّك أدخلت الفرح إلى قلب آخَر محتاجٍ إلى ما أنتَ محتاجٌ إليه أيضًا. إنَّ مشاركتَك الآخَر في حَملِ أتعابه، تدفعك إلى الشُّعور بأنَّ حِملِك أصبح خفيفًا.
إنَّ احتمالَك لأثقالك يَدفعك إلى التَّفكير بالآخَر والتوقُّف عن التشكِّي من ثِقل أحمالِكَ. وإليكم مِثالٌ على ذلك: إنَّ الإنسان الّذي يشعر بحاجته إلى شراء حِذاءٍ جديد، ولكنّه لا يملك القدرة على شِرائه ويتذمَّر من عدم قُدرتِه على شراء حِذاء، سيتوقَّف عن التشكِّي من ذلك حين يرى آخر مبتورَ الأطراف السُّفلية. 

وهنا يصُحُّ المثل القائل: “عندما ترى مصائب الآخَرين ستكتشِف أنَّ مصائبك سهلة الاحتمال”. إنَّ عدم التشكِّي من الأثقال لا ينفي وجودها، ولا ينفي التَّعب الذي تُسبِّبه للإنسان. ولكنّ الإنسان مدعوّ إلى مشاركة الآخَرين أحمالهم، فيشعر بأنَّ أحمالَه أصبحت خفيفة، فيتضاءل غضبه نتيجة أحْماله، فيشعر بالهدوء، ويعود إلى صَفائه الدَّاخليّ. إنَّ الإنسان يكتسب طاقة على احتمال صعوبات الحياة، عندما يرمي أحماله أمام الربّ، أي أمام المذبح: فإنّه حين ترمي حِملِك أمام الربّ، ستكتشِف ما عاناه هو في احتماله لك، وبالتَّالي، لن تشتكي بعد ذلك من أحْمالك، مهما تعاظمت، وستشعر بأنَّ أحمالك خفيفة. إنَّ الربّ يدعونا إلى رَمي أحْمالِنا عنده، ففي الكتاب المقدَّس نقرأ: “ألقِ على الربِّ هَمَّك وهو يَعولُك”.
إنَّ أفضل أنواع الشَّكاوى الّتي يمارِسها الإنسان هي شكواه لا على الآخَرين، إنّما على ذاته. يجد الإنسان صعوبةً في الاشتكاء على ذاته، لأنّ الإنسان يميل إلى الظُّهور أمام الآخَرين بأفصل طريقة. إن اشتكاء الإنسان على ذاته يُساعده في اكتشاف نواقصه والعمل على تحسينها.
إنَّ الإنسان يكتسب طاقةً على احتمال صعوبات حياته، حين يُقدِّم الشُّكر لله عليها، فيقول مثلاً: “أشكرك يا ربّ على الصّعوبات الّـتي تعترِضُني في حياتي، لأنَّها لم تكون أكثر قوَّةً ممّا هي عليه الآن”. إنَّ رؤيتنا لمصائب الآخَرين تمنحنا القوّة والطّاقة على احتمال صعوباتنا.
إنَّ بعض الصّعوبات الّتي نواجِهها في حياتنا، تخلق فينا الاضطراب الدّاخليّ، فَتُحوِّلنا إلى أشخاصٍ مختلفين عمّا نحن عليه في الحقيقة. كما أنَّ بعض هموم الحياة وصعوباتها، تساهم في إشعاع الوَهج الإلهيّ على وجوه البعض، على الرُّغم من الظروف الصّعبة الّتي يعانون منها. فمثلاً: عندما تذهب لتعزِيَة إحدى العائلات المحزونة لفقدان عزيز، تنالُ تعزيةً منهم عِوَض أن تُقدِّم لهم أنتَ العَزاء، من خلال عيشِهم لرجائِهم بالربّ.كما قد تنال تعزيةً أيضًا جرّاء زيارتك لمريضٍ على فراش الموت، نتيجة رؤيتك لصلابة إيمانه من خلال احْتماله لآلامه.

إنَّ زمن الصّوم هو فرصةٌ لنا للعودة إلى الذّات، والتفكير في كيفيّة مواجهتِنا للأزمات الحياتيّة الّتي نتعرَّض لها في كلّ يومٍ. إنّ الصّوم يدفعنا إلى السّعي لتغيير ذهنيّتنا الداخليّة وطريقة رؤيتنا لبعض الأمور الّتي تُواجِهُنا: فإنْ الْتَزَمْنا بهدف الصّوم، كان الصّوم فرصةً لنا للتقدُّم في مسيرتِنا الروحيّة؛ وإنْ لم نلتزم به،كان الصّوم بالنسبة إلينا، مجرَّد صُدفةٍ وثِقلٍ ينتهي بِتناوُلِنا مأكولات العيد.
إنّ وُجودنا في هذه الحياة ليس صُدفةً بل هو فرصة للآخَر، والآخَر هو فُرصةٌ لنا؛ لذا على الإنسان ألّا يَستهين بنفسه، في ما يقدِّمه من خَيرٍ للآخَرين. على الإنسان ألّا يُلغي أحدًا من حياته مهما كان هذا الآخَر مُتعِبًا بالنسبة إليه، لأنَّ هذا الآخَر الـمُتعِب هو فرصةُ الله لك كي تتوب إليه وتتقدَّم في مسيرتك الأرضيّة نحوه. إنّ الآخَر قد يكون فرصة لك كي تُحقِّق ذاتك، أو كي تتعلَّم الصّبر واحْتِمال مشقّات هذه الحياة. في كلّ مرَّةٍ يُخطِئ إليك أخوك الإنسان، يُعَيِّنُك الله في اللَّحظة نفسها طبيبًا عليه. ولا بدَّ لكلّ طبيب أن يملك بعض العلاجات الشافية لأمراضٍ معيّنة، لذا مهما كانت حالتك، خاطئًا أم بارًّا، فإنّه لا بُدَّ مِن وجود بعض المهارات والطاقات فيك، الّـتي تُفيد الآخَر وتساعده على التقدُّم نحو الربّ.
إنَّ الصّوم لا يقتصر على الشَّكل الخارجيّ، أي بالانقطاع عن الطَّعام، بل يتضمَّن عَيْش الإنسان لجوهر الصَّوم. إنَّ الكتاب المقدَّس قد تطرَّق لموضوع الصّوم: ففي سِفر التكوين، نجد أنّ الله قد وَضَع لآدم وحوّاء نظامَ صَومٍ، حين سمح لهما بتناول ثِمار جميع الأشجار إلّا واحدة، ثمرة شجرة معرفة الخير والشَّر. مِن خلال هذا النِّظام الصِّياميّ القاضي بمنع آدم وحوّاء عن تناول تلك الثَّمرة، أراد الله تجنيب آدم وحوّاء الموت، نتيجة قيامهما بعلاقةٍ بين الخير والشَّر في آنٍ. إنّ ذِهنيّة الصّوم الّتي وَضَعها الله لآدم وحوّاء، ومن خلالهما لكافة البشر، مختلفة تمامًا عن ذِهنيّة البشر في ممارستهم الصّوم الخارجيّ. ويُخبرنا العهد الجديد عن تشكِّي رؤساء اليهود للربّ يسوع عن تلاميذه الّذين لا يُمارِسون الصَّوم كما يفعل تلاميذ يوحنّا المعمدان؛ فكان جواب الربِّ لهم، أنَّ تلاميذه لا يصومون ما دام العريس معهم، ولكنَّهم سيصومون مَتى رُفِع العريس مِن وسَطهم. إنّ الربّ يسوع قد رُفِع عنّا حين مات على الصّليب، متمِّمًا بذلك عمله الخلاصيّ للبشر. إذًا، على الصّوم المسيحيّ أن يبدأ بعد قيامة الربّ يسوع، لا قَبْلَها كما هو الصّوم اليهوديّ، فَهُم يصومون استعدادًا للفِصح. 

إنَّ صَوم المؤمِن لا يكون مقبولاً إلّا إذا كان منسجمًا مع الصَّوم الَّذي يطلبه الربّ من المؤمِنِين به، وقد أخبرنا أشعيا النبيّ بالصّوم المقبول عند الربّ: “ما بالُنا صُمنا وأنتَ لم تَرَ، وعذَّبنا أنفُسَنا وأنتَ لم تَعلَم؟ في يومِ صِومِكم تِجِدون مَرامَكم، وتُعامِلون بقسوةٍ جميع عُمّالِكم. إنّكم للخصومةِ والمشاجرة تصومون، ولِتَضربوا بِلَكمةِ الشَّرِ. لا تصوموا كاليوم، لتُسمِعوا أصواتكم في العلاء. أهكذا يكون الصّوم الّذي فَضَّلتُه، اليوم الّذي فيه يُعذِّبُ الإنسانُ نفسه. أإذا حَنى رأسه كالقَصب، وافتَرَشَ الـمِسحَ والرَّماد، تُسمّي ذلك صَومًا مَرضيًّا للربّ؟ أليسَ الصّومُ الّذي فضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قيودِ الشَّرِ وفَكُّ رُبُطِ النِّيرِ، وإطلاقُ الـمَسحوقينَ أحرارًا وتحطيمُ كلِ نير؟ أليسَ أن تَكسِر للجائعِ خُبزَكَ، وأن تُدخِل البائسينَ المطرودين بَيتَكَ، وإذا رأيتَ العُريانَ تَكسوه، وأن لا تتوارى عن لَحمِك؟” (إشعيا 58: 3-7). إنّ الصّوم الّذي يرتضيه الربّ لا يقوم على إذلال الإنسان نفسه، عبر قيامِه بالإماتات، بل يقوم على محبّة الآخَر ومساعدته على حَملِ أثقاله في هذه الحياة. 

إنّ الصّوم هو فرصةٌ للإنسان كي يمارس الهدوء ويتمرَّس في الصّبر واحْتِمال الآخَرين ومشَّقات الحياة. إنّ الصّوم الّذي يريده الربّ ليس صومًا يدفعنا إلى الغضب وإنشاء الخلافات مع الآخَرين، بل إنّ الصّوم الذي يرتضيه الربّ هو صَومٌ يُحرِّر الإنسان من كلّ شرّ، ويدفعه إلى التَّوبة. حين يُرفَع العريسُ السماويّ، أي الربّ، من بيننا، عليا أن نرى في الآخَر المحتاج، عريسَنا السماويّ، فنسعى إلى خِدمته وتلبية احتياجاته. إنّ الحبَّ لا يُعاش من دون آخَر نحبِّه ونُعبِّر له عن محبّتنا. إنّ الله خلَق البشر من فيضِ حبّه: إنَّ الله هو المحبّة الكاملة، وأراد التَّعبير عن تلك المحبّة، فخلقَ الإنسانَ وأحبّه. إذًا، لم يخلق الله البشر ليُقاصِصهم وليُعذِّبهم، كما أوهمت الحيّة آدم حوّاء، بل ليُحبَّهم.
إنَّ الإنسان مدعوّ في زمن الصّوم هذا، إلى استعادة هذا الصّفاء الدّاخليّ الموجود في داخله، والسَّعي من أجل توهُّجه فيه، فيظهرُ للآخَرين. إنّ المؤمِن مدعوّ في زمن الصّوم هذا، إلى الانقطاع عن الطّعام من أجل إطعام آخَر محتاجٍ لهذا الطَّعام، وعندها سيتوهَّجُ الصّفاء الدّاخليّ فينا ويشِعُّ للآخَرين. هذا ما نحن مدعوِّون إلى التَّفكير به في هذا الزّمن، علَّنا نصل إلى المصلوب، كما وصل الضابط الرومانيّ عند أقدام الصّليب، قائلاً في المسيح يسوع: “كان هذا حقًّا ابن الله”. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp