محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،

تأمّل في اختلاف وجهات النّظر بين الكنائس المسيحيّة، 

أوّلاً، الخلاف حول أمورٍ مُتعلّقةٍ بالكنيسة موجودٌ منذ القِدم أيّ منذ عهد الرّسُل، فبطرس، والمجموعة الّتي كانت تُرافقه في فلسطين، كانوا على خلاف مع بولس ومجموعته. وهذه الخلافات تُبيّن تِقنيّة العمل، ولكن، في عمقها، هي تمسّ جوهراً معيّناً. لذلك، مثلاً، في رسالة بولس إلى غلاطية يقول إنّ الخلاف كان موجوداً بشكلٍ مُعيّنٍ. كانوا يُسمّون بولس رسول الأمم لأنّه بَشَّرَ غير اليهود، أيّ الوثنيّين، في آسيا وصولاً إلى روما. وهو يقول إنّ المسيح المُخلّص أتى لكلّ البشر وأنّ الخلاص هو لكلّ البشر من دون امتيازات. فَكَوْنك يهوديّاً منذ زمنٍ بعيدٍ ومُنتظراً مجيء المسيح، لا يعني أنّك تستحقّ، عند مجيئه، حِصّةً أكبر من حِصّة الوثنيّ الّذي لم يكن يعرف يسوع، لكنّه آمن به وبهذا يكون أفضل منك ويُصبح هو ابن ابراهيم، أمّا أنتَ إن لم تؤمن بالمسيح فلا تعود من أبناء ابرهيم، ولا امتياز إلّا بارتباطك بإيمانك بيسوع المسيح. عندما ذهب بولس لِيُبشّر في روما وكان بطرس مع مجموعته، يعقوب ويوحنّا وغيرهم، يُبشّرون في فلسطين، يقول بولس بأنّه لامَ الإخوة، لا لأنّهم يقولون إنجيلاً مختلفاً، لأنّ الإنجيل هو نفسه، بل لأنّهم كانوا موجودين مع الوثنيّين المسيحيّين وعندما رأوا أناساً قادمين من أورشليم، أيّ يهود مسيحيّين، ابتعدوا عن الوثنيّين كي لا ينزعج اليهود. 

فعندما يُبشّرون بالإنجيل، عليهم أن يجعلوا اليهود يسمعون ليفهموا بأنّ الخلاص هو لكلّ البشر ولا فرق في ما بينهم. يقول بولس: “ولكن لمّا أتى بطرس إلى أنطاكيا واجهته مقاومة لأنّه كان مَلوماً، فقبلنا أتى قومٌ من عند يعقوب (أيّ من يهود فلسطين) الذي كان يأكل مع الأمم ولكن لمّا أتَوْا كان يؤخّر ويفرز نفسه” ( غلاطية 2: 11). هناك خلافات، ليست مع بطرس مباشرةً، ولكن مع المجموعة الّتي آمنت على يد بطرس، فهي لم تكن تفهم أنّ الوثنيّ هو مثلها وأنّ الملكوت هو للإثنيْن بالتّساوي. هذا الأمر ليس بالسّهل ولكن إذا تساهل بطرس سيقوم بإلغاء الإنجيل. 

إذاً تُلاحظون الاختلافات حول موضوع الأمم واليهود. كذلك، في المجمع الرّسوليّ الأوّل، أيّ عندما اجتمع الرُّسُل، حصلت خلافات حول مَن آمن بالمسيح وتعمّد ولكنّه بعدذلك تنكّر لايمانه، فهل ينبغي أن يردّوا له معموديّته إذا عاد عن خطئه؟ في ذلك الوقت، اتّفقوا، في مَجْمَع الرُّسُل أو في أعمال الرُّسُل في الإصحاح الخامس عشر، وقالوا: “هكذا قال الرّوح القدس ونحن” أيّ أنّ قرارنا إلهيٌّ. إذاً خطر الاختلاف في الآراء هو في أن يتحوّل إلى خلاف وانقسامات بين النّاس. فرسالة بولس إلى أهل كورنثوس: “أنا لبولس وأنا لأبوليوس وأنا لبطرس” أيّ أنّ النّاس ينقسمون إلى أحزاب وفي الأحزاب خلافات. هناك واحدٌ فقط قد صُلِب من أجلكم فعليكم أن تتبعوه. عندما يريد كلّ شخص أن يدافع عن رأيه في أمر معيّن، يمكن أن يختلف في الرأي مع شخصٍ آخر حول الأمر نفسه ولكنّ السّؤال، هنا، إلامَ سيؤدي هذا الاختلاف في الرّأي؟ وهل سيسبّب خلافاً وتباعداً بين الأشخاص وعلى صعيد العلاقات؟ 

فإذا كنتَ تُفكّر في أنّك الوحيد الّذي يُدافع عن الله وفي أنّ الآخر لا يُجيد ذلك، فعليك أن تقرأ الإنجيل، من جديد، لتعرف إن كنتَ، حقّاً، قد فهمتَ الله. ليس عليك أن تغضب إن كان رأي غيرك مختلفاً عن رأيك، المطلوب منك، فقط، أن تشهد للمسيح. ستحصل على أجرك إذا كنتَ أميناً في الشّهادة حتّى لو لم يقبل العالم بذلك، فلا علاقة للنّتيجة بعملك. وقعت الخلافات، في الكنيسة الأولى، في القرن الرّابع، حول موضوع الاحتفال بعيد الفصح، وقد وجدوا الحلّ عام 325 وكانت الكنيسة واحدة وبقيت واحدة، إلى حين تردّدت قصة مفادها أنّ قدّيسيْن اختلفا على هذا الموضوع وافترقا بسلامٍ ولكنّهما، في ما بعد، وجدا الحلّ في المَجْمَع المسكونيّ الأوّل، وهو أن يكون عيد الفصح على الشّكل التّالي: عندما يحصل الاعتدال الرّبيعيّ في 21 آذار يصبح القمر بدراً فاتّفقا على أن يكون عيد الفصح في الأحد الأوّل بعد أن يصبح القمر بدراً. نحن الاثنان نعتمد المبدأ نفسه، ولكن ما تغيّر هو في 21 آذار، إذا اتّبعت الرّزنامة اليوليانيّة أو الرّزنامة الغريغوريّة. فالأولى تسبق الثّانية بثلاثة عشر يوماً. فإذا كان الاعتدال الرّبيعيّ، بحسب الرّزنامة الأولى يقع في 21 آذار، وسيقع بحسب الثّانية في 3 نيسان. وفي الأحد الأوّل بعد أن يُصبح القمر بدراً بعد الاعتدال الرّبيعيّ يقع عيد الفصح. هذا الاختلاف كان قبل انقسام الكنيسة إلى كاثوليكيّة وارثوذكسيّة. 

هذان تقويمان لا علاقة لهما بالطّوائف. هناك بلدٌ، في الشّرق، يُعاني من هذه المشكلة بسبب التّصاهر وتداخل الكنائس وهو لبنان. فإسبانيا أو إيطاليا هما بلدان كاثوليكيّان إلاّ أنّهما لا يُواجهان هذه المشكلة كذلك الأمر في روسيّا حيث الكنيسة هي واحدة ارثوذكسية. نقول، هنا، إذا قبِلَت الكنيسة الأرثودكسيّة، في الشّرق، أن تُوحّد عيد الفصح مع الكنيسة الكاثوليكيّة ستكون بهذا انقسمت عن الكنيسة الأرثوذكسيّة في العالم، إذاً لا تزال مشكلة الانقسام موجودة، والعكس صحيح. لكنّ البابا السّابق وجد حلّاً وهو أنّه حيث تكون الأكثريّة ارثوذكسية، تحتفل الأقليّة الكاثوليكيّة بالعيد معها والعكس صحيح. هذا الاقتراح مُناسب للشّرق، أيّ أنطاكيا وسائر المشرق، لأنّ الأكثريّة هي أرثوذكسية. ومن الممكن أن تتّفق الكنيستان، في الشّرق، على موعدٍ محدّدٍ واحدٍ للاحتفال بعيد الفصح معاً حتّى لو خلقتا مشكلةً مع الكنيستيْن في العالم. 

فإذا اتّبعنا الرّزنامة الّتي تتّبعها الكنيسة الكاثوليكيّة، لوجدنا أنّه، في بعض الأحيان، يأتي الفصح المسيحيّ قبل الفصح اليهوديّ، أمّا إذا اتّبعنا الرّزنامة الارثوذكسية لوجدنا أنّ الفصح المسيحيّ، منذ 2000 سنة حتّى اليوم، لم يأتِ قبل الفصح اليهوديّ، فهو يُصادف إمّا في الوقت نفسه أو بعده بيوم أو بِشهر. وطالما أنّ الرّزنامة تتغيّر بسبب القمر، يكون الفرق بين العيديْن إمّا أسبوعاً أو شهراً وأسبوعاً أو يقعان في الوقت نفسه. هذه هي مسألة الانقسام في شأن العيد ولكنّها لا تخلق مشكلةً عقائديّةً أو لاهوتيّةً. لذلك يمكن للكنيسة أن تتوحّد ويبقى الانقسام حول العيد كما وأنّه يُمكن للعيد أن يتوحّد وتبقى الكنيسة منقسمة. هذا ليس خلافاً يُعرض في الاجتماعات الكاثوليكيّة – الأرثوذكسيّة العالميّة عن وحدة الكنيسة.

إذاً طُرِح هذا الانقسام الأوّل عام 325، وفي ما بعد نشأ خلافٌ عام 451 في الشّرق بين السّريان الأرثوذكس، الأقباط الأرثوذكس، والأنطاكيّين، أيّ الرّوم الأرثوذكس. لقد اختلفوا على مفهوم المسيح إن كان ذا طبيعتيْن أو طبيعة واحدة. هم يقولون إنّه ذو طبيعة واحدة أمّا الأرثوذكس فيقولون إنّه ذو طبيعتيّن. شدّد الأقباط والسّريان على أنّه ذو طبيعة واحدة لأنّه، بالنّسبة إليهما، وبحسب تربيتهما الفلسفيّة في ذلك الوقت، لكلّ شخصٌ طبيعةٍ فعندما تقول إنّ المسيح ذو طبيعتيْن يعني أنّه شخصان. أمّا الأرثوذكس، بحسب تربيتهم الفلسفيّة في الشّرق، فقالوا إنّ هاتيْن الطبيعتيْن اتّحدتا في شخصٍ واحدٍ فالطّبيعة الإلهيّة اتّحدت مع الطّبيعة الإنسانيّة في شخص يسوع وهو ابن مريم من دون انفصال وإلغاء طبيعة للأخرى. 

هذا كلامٌ شبه فلسفيّ. فبعد 1500 عاماً، اتّفقوا على أنّه خلافٌ لفظيٌّ. في ذلك الوقت، عندما اختلفوا عقليّاً وفكريّاً، انقسموا إلى فريقيْن وأصبح هذا الشّعب عدواً للآخر، فنحن، بطبيعتنا، نميل إلى الانقسام الّذي يُولّد الخصومة والعداوة والكره. استمرّت هذه الحالة إلى حين نشوء خلافٍ في الغرب لا دَخْل لنا به، فنشأ مَجْمَع طُلَيْطِلة، وهي ضيعة، في القرن السّادس. كان النّاس فيها يُحبّون التّقليل من شأن يسوع وألوهيّته، ولكي تُدافع الكنيسة الغربيّة عن ألوهيّته قرّرت أن تُضيف إلى دستور الإيمان عبارة “المُنبثق من الآب والابن” غير الموجودة أصلاً في دستور الإيمان الّذي أقرّه الآباء، والجميع وافق عليه، غرباً وشرقاً، في المَجْمَع الأوّل عام 325 والمَجْمَع الثّاني عام 381، لذلك تلاحظون أنّ الموارنة عندما يُعلنون إيمانهم يقولون “من الآب والابن” أمّا الأرثوذكس فيقولون فقط “من الآب”. ولكن الكاثوليك أضافوا هذه العبارة ليُدافعوا عن ألوهيّة الابن بِمُساواة الآب والابن. إلى حين مجيء “شارلومان”، في القرن التّاسع، حاكِم أوروبا الذي وضع على الكنيسة لوحيْن من الفِضّة وزاد “من الابن”. فأصبح النّاس يأتون إلى الكنيسة ويَرَوْنها فاعتادوا عليها وأصبحت الكنيسة كلّها تقول “من الآب والابن”. في الشّرق، يقولون ما هو مكتوب في الإنجيل. 

مثلاً، يقول يوحنّا: “روح الحقّ الّذي هو من الآب ينبثق” فهكذا يقول الأرثوذكس، إضافةً إلى أنّ دستور الإيمان الّذي اتّفقوا عليه لم تكن “من الابن” موجودة فيه، فنشأ الخلاف عام 1009، بدأ الخلاف الأوّل حول هذا الموضوع حتّى عام 1054، وهو تاريخ الانشقاق الرّسميّ بين الكنيسة الأرثوذكسيّة والكنيسة الكاثوليكيّة عامّةً. فقال البابا إنّ كلّ مَن لا يقول دستور الإيمان كما نحن نقوله هو خارج الخلاص أيّ مطرود من الكنيسة. لذلك أرسل له البطريرك القسطنطينيّ رسالة أخوّة ومحبّة طالباً منه التّراجع عن قراره والرّجوع إلى التّقليد الكنسيّ والإنجيل. عام 1054،كان البطريرك في القسطنطنيّة، في اسطنبول، الّتي كانت أعظم بطريركيّة في الشّرق، يحتفل بالقدّاس الإلهيّ عندما أتى شمّاس من روما ووضعَ ورقة الحرم الكنسيّ على المائدة في القدّاس وبعدها رحل لأنّهم لم يقولوا كما قال طلب إليهم البابا أن يقولوا، فحرمَ البابا البطريرك لأنّه يعتبر أنّ الرّئاسة له. ردّ البطريرك على البابا بحِرْم بالمقابل. الحِرم هو: البطريرك حين يُصلّي يذكر كلّ بطاركة العالم كما أنّ المطران حين يُصلّي يذكر كلّ مطارنة أبرشيّته والكاهن، أيضاً، حين يُصلّي يذكر كلّ كهنة أبرشيّته. إذاً البابا لن يذكر البطريرك ميخائيل بصلاته فردّ عليه هذا الأخير بالمثل وذلك كان عام 1054 ونحن الآن عام 2014. لو لم يُرسل البابا الحِرم، لكان الخلاف بقي ولكن لما كان حصل الانقسام.

ما هي الأسباب غير المباشرة للانقسام؟
الأسباب غير المباشرة للإنقسام تبدأ بالسبب الجغرافيّ، لأنّ هناك مسافات طويلة بين الشّرق والغرب ووسائل النّقل لم تكن متوفّرة وكذلك وسائل التّواصل. الثّقافة المختلفة: اللّغة اللّاتنيّة واللّغة اليونانيّة كما الحضارة الغربيّة والحضارة الشّرقيّة، البيئة إضافةً إلى الخلفيّات الفلسفيّة لمكانيْن مختلفيْن… كلّ هذا ساهم في الانقسام. إضافةً إلى السّبب الاقتصاديّ والسّبب السّلطويّ. أمّا السّبب المباشر فهو الخلاف العقائديّ، وواحدة من هذه العقائد هي زيادة “والابن”. علماً أنّه، هناك العديد من اللّاهوتيّين الكاثوليك في هذا الزمن الّذين يقولون دستور الإيمان من دون “والابن”، وواحدٌ منهم هو مطران كاثوليكيّ. إعطاء البابا لنفسه سلطة أن يحرم بطريركاً يدلّ على وجود أمور مخفيّة حول سلطة البابا في القديم، بمعنى أنّ له سلطة، بحسب الرّأي الأرثوذكسيّ، على بطريركيّته كلّها. إذاً بطريرك روما لا سلطة له على بطريركيّات أخرى، ومجموعة البطاركة مجتمعين أو مُنتدبين عنهم يُؤلّفون المَجْمَع المسكونيّ. حصل المَجْمَع المسكونيّ الأخير بين الكنيستيْن عام 787 أي منذ أكثر من 1200 سنة ولم يحصل اجتماع عام. ولكن بعد هذا التّاريخ، عُقِدت اجتماعات في الشّرق وافق عليها البابا فأصبحت وكأنّ الطّرفيْن مجموعان إلاّ أنّ المهم هو أن يُوافق عليها الجميع. 

إذاً مشكلة البابا أو رئاسته مُرتبطة بما يُسمّى عِصمة البابا أيّ أنّه عندما يُعلن إعلاناً إيمانيّاً (أنّ الكرسيّ الرّسميّ له أو العرش الباباويّ)، يُصبح هذا الإعلان الّذي يلفظه، المُختصّ بالإيمان معصوماً، لا خطأ فيه. لذلك لم يُوافق الأرثوذكس على ذلك لأنّ لا أحد معصوم والدّليل على ذلك أنّ الكنيسة كانت تعتبر البطاركة والمطارنة الّذين أخطأوا في الإيمان مهرطقين. سلطة المجمع أيّ المَشورة هي أعلى من سلطة البابا، بحسب الرّأي الأرثوذكسي، حتّى لو كان البابا على رأس المَجْمَع. فعندما يُعلن البابا أمراً ما يُعلن إيمان المَجْمَعيّة.

كلمة “عصمة” البابا ليست موضوعاً إداريّاً، فعند الكاثوليك أصبحت موضوعاً لاهوتيّاً لأنّ البابا هو الوكيل. عند الأرثوذكس، هم ليسوا وكلاء الله على الأرض وإنّما أيقونته، فأنتَ لا تملك سلطته وإنّما تحمل مسؤوليّة أن تُبيّن سلطته. لذلك طال هذا الخلاف ولكنّه لم يبقَ خلافاً عقائديّاً فقط، إنّما الأهواء كان لها دور في هذا الخلاف إضافةً إلى الجدل حول من هي الكنيسة الأغنى والأقوى والمُتمتّعة بعلاقات أكثر مع الدّول وعدم خضوع القويّة للأقلّ قوّةً، إلى حين بدء الحروب الصّليبيّة، الّتي كانت من أسباب اندلاعها هذه الخلافات. بعد الحروب الصّليبيّة، أصبح مستحيلاً إقناع الأرثوذكس بالحوار مع الكاثوليك فهم يقولون إنّهم جاءوا واستباحوا كنيسة القسطنطنيّة قبل الإسلام وإنّهم أساءوا لهم أكثر من المسلمين فحصل البُعْد والعدوانيّة. إلى حين نشوء الحركة المَسْكونيّة في القرن التّاسع عشر، ونشأ معها ما يُسمّى بالمجلس الكنائسيّ العالميّ لإحياء الحوار بين الكنائس فتحسّنت أمور كثيرة منها نشوء علاقات شخصيّة بين رؤساء الكنائس خلقت الهدوء بينهما فاستطاعوا أن يتفاهموا. وما حصل هو أنّ الكنيسة مرّت بمشاكل متعدّدة، واحدة منها أنّ الكاثوليك كانوا يُبشّرون الأرثوذكس لأنّهم يعتبرون أنّ كلّ من يؤمن إيماناً مختلفاً عن إيمانهم عليهم أن يُحافظوا على خلاصه بتبشيره، مع العلم أنّ الأرثوذكس هم من المسيحيّين، وهذا ما يُسمّى بالاقتناص. 

أمّا الأرثوذكس، إذا كان لدى الكاثوليك وجهة اختلاف معهم، فهم لن يفعلوا شيئاً. وما زاد الطّين بلّةً هو نشوء، الكنيسة البروتستانتيّة في القرن السّادس عشر، أي عام 1516 في الغرب وهي تعني اعتراض. إذاً البروتستانت هم المُعترضون المُحتجّون لأنّه كان هناك راهبٌ اعترض واحتجّ على قرارات البابا واعتبر أنّها لا ترتكز على الإنجيل (وقد كان على حقّ) فحاول الإصلاح لكنّه لم ينجح فانفصل عنهم. بعد الانفصال، تبعه البعض فتأسّست الكنيسة البروتستانتيّة. وهذه الكنيسة موجودة فقط في الغرب، لا علاقة للشّرق بها لكنّ الانقسامات موجودة، كما حصلت، في الشّرق، بين السّريان والأقباط والرّوم، حصلت، في الغرب، بين الكاثوليك والبروتستانت. واحد من هذه الانقسامات هو نشوء الكنيسة الأنكليكانية وعلى رأسها الملكة إليزابيت. ورئيس الكنيسة الأنكليكانية هو دائماً ملك بريطانيا، لأنّ ملك بريطانيا هنري الثّامن لم يُرزق بأولاد على الرّغم من أنّه كان متزوّجاً وبالتّالي شعرَ بأنّ العرش سيكون في خطر فحِفاظاً على المملكة وعظمة بريطانيا، طلب الملك من البابا أن يسمح له بأن يُطلّق زوجته لكي يتزوّج من غيرها ويُرزق بطفل ولكنّ البابا لم يسمح له بذلك، فقرّر أن يؤسّس الكنيسة الأنكليكانيّة وهكذا حصلَ فطلّق زوجته، وتزوّج من أخرى ورُزِق بولد. عندئذٍ، انقسمت الكنيسة الكاثوليكيّة، للمرّة الثّانية، مع العلم أنّ الجميع هم من الكاثوليك ولكنّ النّاس مُرتبطون بالأهواء وبالفعل وردّات الفعل، لذلك كانت المُصالحة صعبةً. فكلّ خلاف، يتدخّل فيه النّاس وهم مشبعون بالغريزة، لن يكون للحوار مكان فيه إضافةً إلى نسيان السّبب الأساسيّ للخلاف. 

عصمة البابا هي الأساس، هي رئاسة البابا (أيّ “أنا رئيس الكنيسة، يحقّ لي بحسب اللاهوت الكاثوليكيّ أن أتدخّل في كنيسة ما وأملك السّلطة في تَنْحِيَة الكاهن…….) هكذا هي سلطة البابا ولا تزال حتّى اليوم بحسب القانون ولكنّها غير مُطبّقة بالممارسة. أمّا بطريرك الأرثوذكس في أنطاكيا فلا يحقّ له أن يُرسل لي رسالةً يوجّه من خلالها ملاحظةً، بل عليه أن يُرسلها إلى المطران المسؤول عنّي، فهو الّذي يُصحّح لي أخطائي، فلا سلطة للبطريرك عليّ إلى حدّ أنّه لا يستطيع زيارة أبرشيّة جبل لبنان إلّا إذا أعلم المطران مُسبقاً وحصل على إذنه بحسب القانون لا اللياقة. أمّا من حيث مشكلة الأرثوذكس مع مفهوم سلطة البابا كرئاسة وكعصمة فنقول إنّ المَجْمَع هو أعلى من سلطة البابا كما أنّ المَجْمَع أعلى من سلطة البطريرك. وقد توّصلت الحوارات إلى أنّ مسألة “الآب والابن” سهلة فالنّاس قد اعتادوا عليها ويحتاجون فقط إلى الوقت لإلغائها. لكن هناك بعض الأمور المختلفة كمسألة المطهر الّذي ليس، أصلاً، سبباً خلافيّاً ليقسم كنيستيْن، لأنّه، أوّلاً، عند الكاثوليك ليس عقيدةً بل هو رأي مُلزِم كقوّة العقيدة. الحَبَل بلا دنس أيّ أنّ العذراء وُلِدت من أمّها وأبيها بريئة من الخطيئة الأصليّة لأنّها ستلد المسيح أيّ أنّ الله خلّصها وأعاد إليها النّعمة المبرّرة الّتي كانت في آدم قبل أن يُخطئ.

وقال الأرثوذكس إنّ العذراء إذا كانت من غير نوعيّة البشر، فأنا الإنسان البسيط لا رجاء لي في أن يولد المسيح فيّ، فعلى العذراء أن تكون مثل كلّ البشر. يؤمن الأرثوذكس بأنّ العذراء لم تُخطئ إراديّاً لأنّها بريئة من الخطيئة الأصليّة، ولأنّهم أصلاً لم يقبلوا بفكرة الخطيئة الأصليّة لأنّهم يعتقدون بأنّهم عندما يولدون لا يحملون خطيئة آدم بل نتائج هذه الخطيئة. فهم وآدم من الطّينة نفسها ولكنّهم لا يحملون خطيئته. هذه الخلافات موجودة لكنّها لا تقسم الكنيسة. المشكلة الأساسيّة، الآن، هي سلطة البابا وعصمته من دون إنكار الخلافات االلاهوتيّة الّتي يمكن إيجاد حلّ لها. عصمة البابا أساسيّة جدّاً وإذا وُجِد لها حلّ ستُعلن وحدة الكنيسة ولكنّها تعني، أنّه في العمق، هي مشكلة نفوذ وسلطة ألبسوها ثوب العقيدة واللاهوت. كلّ هذه الفوضى تؤكّد أنّ هناك كلمة لا تستطيعون قراءتها وهي المحبّة الّتي تصبر على كلّ شيء، لا تظنّ السّوء، ترفق وتترأف وتلطف. كلّما زادت كميّة المحبّة تحسّنت الأمور والعكس صحيح، إلاّ أنّ كمية المحبّة تتضاءل بسبب تصرّفات النّاس.

الرّوح هو الّذي يجمعنا. هل تؤثّر هذه الخلافات؟ وبأيّ معني تؤثّر إن كنتَ تُدافع عن الله؟ فهل يختفي الله إذا اختلفنا؟
إذا عدنا إلى الأصل، وجدنا هناك اقتراحاً ارثوذكسياً يقول: “نحن بقينا ألف سنةٍ من دون أن ننقسم وألف سنةٍ كنّا مقسومين فيها، نعود إلى ما قبل 1054، بقيْنا متّفقين على كلّ ما كنّا متّفقين عليه. وبعد عام 1054، من يتبنّى آراءً جديدةً لا يُلزم الآخر بتبنّيها ولكنّ الجواب لم يصل بعد. قبل أن ننقسم، كان لدينا إيمان واحد هو المجامع المسكونيّة السّبعة ونحن الاثنان مُلزمون بها ونُطبّقها حتّى ولو كنّا مُنقسمين. كلّ ما أتى بعد الانقسام واتّخذتم القرارات بشأنه، كالحبل بلا دنس والمطهر، هو رأي لاهوتيّ لايلزم الأرثوذكسيّ به والعكس صحيح. من الصّعب أن يقبل الكاثوليكيّ أنّ الأرثوذكسيّ لا يقبل برئاسة البابا.( إعتراضي شخصيّ)، فالفرصة سانحة: اليوم يوم خلاص، الوقت وقت مقبول طالما انّ البابا فرنسيس موجود. إذا تابع ما بدأ به وتفرّغ قليلاً لموضوع العلاقة الكنسيّة الأرثوذكسيّة لأنّ ما يحصل في العالم لا يسمح لأحد بالتّفكير إلّا في الإنسان. فالمسيحيّون، في البلاد الشّرقيّة، سينتهون أمّا المسيحيّون، في البلاد الغربيّة، فقد انتهوا من دون أن يُنهيهم أحد بسبب الفراغ الحاصل لأنّ تلك المناطق تمتلئ بالبوذيّين أو المسلمين، أمّا في الشّرق فيتهجّر المسيحيّون ويأتي مكانهم “داعش”.

ونحن نجد في هذا الجوّ الّذي نعيش فيه بعض الخلافات مثل: نحن نقول “نؤمن” أمّا أنتم فتقولون ” أؤمن” عندما نقول الدّستور. عندما كُتِب الدّستور الإيمانيّ في المَجْمَع المَسكونيّ الأوّل قالوا “أؤمن” إذاً نحن ننفّذ ما قالوه. أمّا الكاثوليك فقالوا: “نؤمن” لأنّه في الكنيسة لدينا الإيمان نفسه فنقول في الجماعة “نؤمن”. أو مثلاً “إله من إله نور من نور” لا تُغيّر شيئاً في المعنى. حتّى في صلاة الأبانا، التّرجمتان لا تُصيبان المعنى الصّحيح فهناك كلمة، في اليونانيّة، لا ترجمة لها حتّى اليوم أيّ عند الأرثوذكس “الخبز الجوهريّ أعطنا اليوم” وعند الكاثوليك “أعطنا خبزنا كفاف يومنا” إلّا أنّ التّرجمة الأرثوذكسيّة هي الأقرب لأنّها ترجمة حرفيّة. هي تعني، في اليونانيّة، الخبز الجوهريّ الّذي يأتي من فوق لأنّهم يعتبرون أنّ “الأبانا” تتكلّم عن الآخِرة. أمّا الكاثوليك، فيقولون إنّهم يريدون “خبزنا كفاف يومنا” أيّ الخبز اليوميّ لأنّنا ننتظر الخبز الّذي سيأتينا في ما بعد. نيّة كليهما حسنة ولكن عندما يكونان على خلاف لا يقبلان الرّأي المغاير. هناك أمرٌ آخر: خلال القدّاس، يُناول الكاثوليك البرشان أيّ خبزاً من دون خميرة أمّا الأرثوذكس فيُناولون القربان أيّ خبزاً يحتوي على الخميرة. نشأ هذا الخلاف بسبب الثّقافات. في نصّ يوحنا اليونانيّ، عندما يقول إنّ المسيح أخذ الخبز… لا يستعمل كلمة “برشان”، كذلك الأمر في الأناجيل كلّها. لقد استعملوا كلمة “قربان” ونظراً إلى أنّ الأرثوذكس يتبعون الإنجيل حرفيّاً فهم أيضاً يعتمدون القربان. أمّا الكاثوليك فيقولون، “لأنّ العشاء السّرّيّ يُصادف ليلة العشاء اليهوديّ وبالتّالي، بحسب وصيّة موسى، نَفِدَ الخبز وكان هناك خميرة فقط لذلك اعتمدوا البرشان. يتكلّم كلاهما بشكلٍ صحيحٍ فلا خلاف على المضمون ولكن الكره والبعد الموجودين بينهما يخلقان الخلاف بينهما.
كان هذا موجزاً صغيراً عن الخلافات، أنا عرضتها من دون تحريض. ولكن التّحريض الّذي أزرعه فيكم إنما هو لِرفض الخصومة لا لِتسخيف الخلاف، أو بالأحرى الإختلافات، ولكن احتراماً له لكي نجد الحلّ.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp