عِظة للأب دومينيك المريميّ،

 كنسية سيِّدة النَّجاة  (آل تابت) – عشقوت، حيّ القرقوف، كسروان.

المجدُ للّه، دائمًا للّه!

نلتَقي، اليوم، بِفَرحٍ كبيرٍ، مع بَعضِنا البعض، حَولَ ذبيحةِ الربِّ يسوعَ المسيح، ونَشكرُ أبونا شَربل وجَميعَ أبناءِ هذهِ الرَّعيّةِ على النِّعمةِ الّتي أَدخلوها إلى رعيَّتهِم، ومِنها إلى كَنَيسَتِنا، ألا وهي الصَّلاةُ مِن أجلِ جميعِ الموتى المؤمِنِين، مِن خلالِ جماعةِ “أُذكرني في ملكوتِكَ”. إنَّ هذه الجماعةَ هي مِن أعظمِ الجماعاتِ في الكنيسة، بالنِّسبة إليَّ، لأنَّ هَدَفها هو حَثُّ المؤمنِين على الصّلاة مع بَعضهم البَعض من أجل الّذِينَ سَبَقُوهم إلى الحياةِ الثَّانية.

مَن مِنَّا لَيسَ لديه شخصٌ عزيزٌ سَبَقَه إلى الحياة الثّانية؟ بمعنى آخَر، مَن مِنَّا لا يَعرفُ شخصًا عاشَ معه في هذه الحياة الأرضيّة، وفي ظَرفٍ مِن الظُّروف، وفي يومٍ من الأيّام، لم يَعُد موجودًا؟ إنّ غيابَ هذا الشَّخص، أو بالأحرى عَدمَ وجودِه، هو الّذي يُسبِّبُ رُعبًا في داخِلِنا، لأنّ هذا الشَّخصَ الّذي انتَقلَ مِن بيننا، كان في يومٍ من الأيّام، شخصًا قويًّا قادرًا على اتِّخاذ القراراتِ وتَنفيذِها والقيامِ بمشاريعَ عديدةٍ، ولكنَّه في لحظةٍ مُعَيّنةٍ مِن حياتِه وَصل إلى”فراغٍ”، إلى مكانٍ مَجهولٍ، على الرُّغم مِن كُلِّ ثَرواتِه الماديّة وممتلكاتِه الأرضيّة. إخوتي، مهما عَظُم شأنَ الإنسانِ في هذه الأرض، فإنّه لن يستطيع أن يَهربَ مِن تلك اللَّحظة الّتي فيها يَنتقِلُ من هذا العالَم نحو عالمٍ مَجهولٍ بالنِّسبة إليه، إنْ لم يكن قد  اختبرَ لَمسةً من لمساتِ الربِّ في حياتِه الأرضيّة. عبثًا نَبحثُ عن الاتِّحاد بالربِّ في اللَّحظةِ الأخيرةِ مِن حياتنا الأرضيّة! ولكن هذا لا يعني ألّا نسعى للاتِّحاد به!

إنَّ الشِّعار الّذي اتَّخذَتْهُ جماعة “أُذكرني في ملكوتِكَ”، هو كَلِمةُ لِصِّ اليَمين للربِّ، حين كان مَصلوبًا إلى جانبِه. إنَّ هذا اللِّصَّ الّذي أمضى حياتَه في السَّرقةِ قد تَمكَّنَ في اللَّحظةِ الأخيرةِ مِن حياتِه مِن سَرِقة الـمَلَكوت. ولكنَّ هذا الأمرَ يبدو مُستَغربًا بَعضَ الشَّيء، إذ كيفَ للِصٍّ أن يطلبَ الملكوتَ من إنسانٍ مَصلوبٍ إلى جانِبِه تَعرَّض للضَّربِ والجَلدِ والإهانة، قائلاً له: “أُذكرني متى أتيتَ في ملكوتِكَ”(لو 23: 42)، إنْ لَم يكن على مَعرفةٍ سابقةٍ به! إنّ هذا الأمرَ يَدلُّ على أنّ هذا اللِّصَّ لم يَتعرَّفْ على الربِّ حين صُلِبَ إلى جانبِه، بل كان على معرِفةٍ سابقةٍ به، أي أنّه قام بِمَسيرةٍ مَعه على الرُّغم مِن كلِّ ضُعفِه الّذي كان يُعاني منه. هذه هي ميزَةُ هذا اللِّصِّ، وهُنا تَكمن عَظَمتُه، إذ تمكَّنَ، على الرُّغم من كُلِّ  السَّيئاتِ الّتي يُعاني منها، – ونحن لا نعلَمُ الظّروفَ الّتي أَوصَلَتْه إلى هذه الحالة-، مِن أن يلمُسَ الربَّ وأن يَسمَحَ للربِّ أيضًا بأن يَلمُسَه. إنّ التَّعييراتِ الّتي تَبادلَها اللِّصَان في شأنِ يسوع، تُؤكِّدُ وجودَ علاقةٍ بين لِصِّ اليَمين والربِّ، إذ أعلنَ هذا اللِّصُّ لِزَميله أنّهما يستحِّقان هذا العِقابَ بِسَببِ أعمالِهما السَّيئة، أمّا الربُّ فلا يستحقُّه لأنَّه إنسانٌ بارّ. إذًا، لقد أعلنَ لِصُّ اليَمينِ أمام الربِّ عن توبتِه مُعتَرفًا أنّه إنسانٌ خاطئ وبالتَّالي لا يَستحقُّ الـمَلَكوت. إخوتي، إنّ الإنسانَ على هذه الأرضِ هو في مَسيرةٍ، لذلك عليه ألّا يَنتَظِرَ اللَّحظةَ الأخيرةَ مِن حياتِه كي يَبحثَ عن لَمسةٍ مِن الربِّ، لأنّه لا يَستطيعُ تحديدَ زمانِ تِلكَ اللَّحظة. فَكَم مِن الأشخاصِ الّذين نَعرِفُهم فارقوا عائلاتِهم على غَفلةٍ، مِن دون أيِّ سابقِ إنذار! هُنا يُطرحُ السُّؤال: هل كان هؤلاء على استعدادٍ للقاءِ الربّ؟ إخوتي، إنّ يومَ الربِّ يأتي كالسّارق، لذلك دعانا الربُّ إلى اليَقظة، لأنّه كما قال لنا صراحةً وبكلِّ وضوحٍ، إنّنا لا نَعرِف لا اليَومَ ولا السَّاعة. إخوتي، ألّا يعرِفَ الإنسانُ السّاعةَ أو اليومَ اللّذَين يَنتقِل فيهما مِن هذا العالَم، هو نِعمةٌ أعطانا إيّاها الربُّ لا نَقمةٌ، إنّها نِعمةُ الجِهاد المستمِّر: إنّها حِكمةٌ من الله لحياةِ الإنسان.

في سرِّ النَّدامةِ الـمُختَصَر، الّذي نَتلُوه بَعد الاعترافِ بخطايانا، نقول: “لا خوفًا مِن الجَحيم، ولا طَمَعًا بالنَّعيم، بل حُبًّا بِكَ يا الله، آمين”. وبالتّالي، إذا كنتُم تُشارِكون في الذَّبيحةِ الإلهيّةِ وتَتلون صلاةَ المسبحة بانتِظامٍ وتَقومون بأعمالٍ صالحةٍ خَوفًا من الجَحيم، أقولُ لكم إنّ كُلَّ ما تقومون به سوف يَذهَبُ سُدىً؛ أمَّا إذا كُنتُم تَقومون بِكُلِّ ذلك تعبيرًا عن محبَّتِكم لله، لا طَمَعًا بالـمَلكوت، فأقول لكم إنّكم في هذه الحالةِ قد دَخلتُم في مشروعِ الله، وحينئذٍ أقول لكم: طوبى لَكم على هذه الأرض، وطوبى لَكم في الملكوت!

إنّ رسالةَ جماعةِ “أذكرني في ملكوتِكَ” تقوم على الصّلاة من أجل الّذينَ سَبَقونا إلى الحياةِ الثّانية. إنّ هذه الجماعةَ من أذكى الجماعاتِ في الكنيسة، بالنِّسبة إليّ. لماذا؟ في ختامِ كُلِّ ذبيحةٍ إلهيّة، يقولُ لنا الكاهن: “إذهبوا بسلام”؛ وعند سماعِنا هذه العبارةَ ننطَلِقُ إلى خارجِ الكنيسةِ مُبتَدئِين بالتذمُّرِ من إطالةِ الكاهنِ في العِظة أو من سوءِ أداءِ الجوقةِ لتَرنيمةٍ معيِّنةٍ، وسواها من الأمور. ولكن عند سماعِ أهلِ الملكوتِ هذه العِبارة، فإنَّهم يُعلِنون انطلاقَ مهرجانٍ عظيمٍ إذ يبدأون بالاحتفالِ بِدخولِ عددٍ من النُّفوسِ المَطهريّةِ إلى السَّماء، الّتي أنهَت مَطهرَهم بِفَضل صلواتِ كنيسةِ الأرضِ لَها مِن خلالِ الذَّبيحةِ الإلهيّةِ ومن خلال تدوينِ أسمائِهِم في سِجلِّ “أذكُرني في ملكوتِكَ”. إخوتي، حين يَحينُ دَورُنا وننتقِلُ إلى الـمَطهر، أقولُ لكم إنّ هذه النُّفوسَ ستَتَشفَّعُ لَكم عند الله الآب، إذ خلَّصتُموها من الـمَطهر بِفَضل صلواتِكم وإماتاتِكم من أجلها وبِفضل أعمالِكم الصّالحةِ الّتي قدَّمتُموها لله من أجلِها. فيا لِعَظَمةِ ما قُمنا به، إذ نَجحنا في مساعدةِ هذه النُّفوسِ الّتي انتَقلَتْ مِن بَينِنا على الاتِّحادِ بالربّ! وما أجملَ صورةَ هذه الكنيسةِ الواحدةِ المؤلَّفةِ مِن الكَنيسةِ الممجَّدةِ في السَّماء، ومِن الكنيسةِ المتألِّمةِ في الـمَطهر، ومِن كَنيسةِ الأرض، الّـتي مِحوَرُها يسوعُ المسيح، وهو مَصدَرُ قوَّتِها.

إنّ إنجيلَ اليوم، يَطرحُ علينا السُّؤالَ حولَ هويِّتِنا قائلاً لنا: أنتمُ، أبناءُ مَن تَكونون؟ هل أنتُم أبناءُ الله أَم أبناءُ الشَّيطان؟ إخوتي، كي نكونَ حقيقةً أبناءَ الله، على “الحِمض النوويّ” الخاصّ بِنا، أي DNA، أن يُظِهِر ذلك، وهذا يعني أن تَكونَ تَصرُّفاتُنا وكلامُنا ومسيرَتُنا مُشابِهةً لله. حين نرى فتاةً صغيرةً أو طِفلاً صغيرًا، نستطيعُ مَعرِفةَ هويَّتِهم من خلال طَريقةِ مَشيِهم وطريقةِ كلامِهم وحتَّى مِن تكويناتِ وَجوهِهم، فنقولُ عنهما إنّهما ابنُ فلان أو ابنةُ فلانة. إذًا، كي نكونَ أبناءَ الله فِعلًا، على أعمالِنا أن تُظهِرَ ذلك للآخَرين، كما سَمعنا في الإنجيلِ والرِّسالةِ اللّذَين تُلِيا على مسامِعنا اليوم. إخوتي، لا يكفي أن نَحفَظ الشَّريعة كي نَظهرَ للآخَرين أنّنا أبناءُ الله، فهذا الأمر مطلوبٌ منَّا وهو طبيعيٌّ جدًّا. وفي هذا الإطار، يقول لنا الربُّ إذ أَحبَبْنا الّذين يُحبُّونَنا، فأيُّ فَضلٍ لنا، فإنّ الوثنيِّين يَفعلون ذلك أيضًا، وبالتَّالي كي نكونَ أبناءَ الله، علينا أن نتصرَّفَ كأبناءِ الـمَلِك الإلهيِّ. في المعموديّةِ إخوتي، أصبَحْنا أبناءَ الـمَلِك وإخوةً لِيَسوعَ المسيح وهَياكلَ للرُّوح القُدُس، وبالتَّالي هذا يفتَرِضُ علينا أن نرتَديَ ثيابَ الملوكيَّة، وأن يَكون كلامُنا كلامَ مُلوكٍ وتصرُّفُنا تَصرُّفَ مُلوكٍ. يستطيعُ الإنسانُ أن يَكذبَ على نفسِه فيَرتديَ قناعًا خارجيًّا لا يُعبِّرُ عمَّا في داخلِه حقيقةً، وعندئذٍ لا يكونُ في الحقيقةِ ابنًا لله.

إخوتي، إذا أرَدنا أن نكونَ أبناءَ الله لا أبناءَ إبليس، علينا الابتِعادُ عن كلِّ ما لَه علاقةٌ به والتمسُّكُ بما يُرضي الله. إنّ إبليسَ هو كائنٌ أرادَ بمِلءِ حُريَّتِه أن يُلغيَ الله من حياتِه وأن يُشوِّهَ صُورَةَ اللهِ فيه؛ أمَّا نَحن فإنّنا مؤتَمنون على المحافظةِ على صورةِ اللهِ فينا، فالربُّ خَلَقَنا على صُورَته ومِثاله. إنّ خطيئةَ آدمَ وحوَّاءَ تَكمنُ في أنَّهما رفضا أن يكونا على صورةِ الله ومِثاله، وأرادا أن يكونا آلهةً مِثلَ اللهِ  لا على مِثال الله. إخوتي، نحن مدعوُّونَ كي نَكونَ على مِثالِ الله، أي مُشابِهين له، لا أن نَكونَ مَكانَه، فنَحن لَسْنا الله. أن أكونَ على مِثالِ الله، هذا يعني أن أَسيرَ في هذه الحياةِ نَحوه، فأتمكَّنَ مِن الوصولِ في نهايةِ حياتي الأرضيّةِ إلى الملكوتِ والاتِّحادِ الكاملِ معه. إنّ اسمَ الـمَلاكِ مِيخائيل، يُعبِّر عن هذه الحقيقة، إذ إنّ مَعنى اسمِه يعني “مَن مِثلُ الله”؟ في الحقيقةَ لا أحدَ مِثلُ الله، ونحن جميعًا مدعوُّونَ كي نَكونَ على مِثالَ الله، أي أن نتَّخِذَه مِثالاً لنا.  

في هذه المناسَبةِ السّعيدةِ، نتمنَّى ألّا ننسى موتانا، بل نسعى إلى ذِكرِهم في صلواتِنا وأعمالِنا وإماتاتِنا، ونُقدِّمُها من أجل خلاصِهم من الـمَطهر؛ ومتى تحقَّقَ ذلك، قاموا بِدَورهم بالصّلاةِ من أجلِنا، فنَسيرُ معًا نحو الربِّ ونتَّحِدُ معًا بالربِّ يسوع. آمين.  

ملاحظة: دُوِّنت العِظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp