محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،

علاجُ الكآبة: مُرَكَّب “ت”،

إنَّ زمنَ الصّوم هو فرصةٌ لكلِّ مؤمِن، كي يعود إلى أعماقه، ويحاول استعادة حالة الصّفاء الدّاخليّ الّتي فقَدها نتيجة انشغالاته في هموم الحياة، فيُعيد قراءة الأمور الّتي يتعرَّض لها في حياته اليوميّة، بشكلٍ صحيح، ويُعطيَ كُلّاً منها حجمَه الحقيقيّ.

في هذا اللِّقاء، سنُناقش موضوع الكآبة: أسبابها، وطُرق معالجتها.
إنَّ أسباب الكآبة متعدِّدة، ومِنها: الوِحدة، المشاكل الحياتيّة اليوميّة، خَيْبات الأمل الّتي نتعرَّض لها من قِبَلِ الـمُحيطِين بنا، الفَقر الماديّ، والإحباط نتيجة عدم تَحَقُّق ما نأمل به.

يشهَدُ عالـمُنا اليوم تقَدُّمًا على صعيد العِلم والتِّكنولوجيا؛ غير أنّ هذا التَّطوُّر قد فَشِل في مَنحِ الإنسان السَّعادة، على الرُّغم من كلّ التَّسهيلات الحياتيّة الّتي قدَّمها له، ممّا أدّى إلى ازدياد الكآبة بين البشر. إنَّ الكآبة تَنبَعُ من أمورٍ خارجيّة، أمّا السّعادة فَتَنبع من داخل الإنسان، ولكنّ الإنسان للأسف، يبحَثُ عنها في أمورٍ خارجيّة فلا يجدها، فَيُصاب بخيبة الأمل الّتي توصِلُه إلى الكآبة. إنّ السّعادة هي حالةٌ داخليّة يعيشها الإنسان، تَظهَر إلى العَلن، فتُصبح كالعدوى، تَنتَقِل من إنسانٍ إلى آخر. لقد أثْبَتَتِ الإحصاءات العِلميّة أنَّ نِسْبَة السَّعادة عند سُكّان البلدان النَّامِية الفقيرة، تفوق بأضعاف نِسبَة السّعادة عند سُكّان البلدان المتطوِّرة الغنيّة. 

إنّ السّعادة هي مَسألةٌ نِسبيَّة: إذ إنّ بعض الأمور قد تكون تافهة للبعض، في حين أنّها تُشكِّل مَصَدرَ سعادةٍ للبعض الآخر. وهنا يُطرَح السؤال: كيف السبيل للتغلُّب على الكآبة، الّتي ترتكز في غالبيّتها على الأوهام؟ كان القدِّيس بولس الرَّسول مُبَشِّرًا نشيطًا بكلمة الله، وهذا ما أدّى إلى اضطهاده وسَجنِه، فَكَتَب من داخل سِجنه رسالةً إلى أهل فيلبيّ، قال فيها: “إفرحوا في الربِّ دائمًا، وأُكرِّر القول: إفرحوا” (فيلبيّ 4:4). إنَّ ما تعرَّض له بولس الرَّسول كان مِن شأنِه أن يزرع فيه الكآبة، غير أنَّ بولس لَم يُصَب بها، لأنَّ سعادته حقيقيّة لا وَهميّة، أي أنَّها تنبع من داخله، من إيمانه بالربّ، لا من أمورٍ خارجيّة فانية.

في إطار معالجتِنا لموضوع الكآبة، نعرِض عليكم، علاجًا روحيًّا جديدًا هو الـمُركَّب “ت”. إنّ هذا الـمُركَّب مَبنيّ على ستّة عناصر أساسيّة، تبدأ جميعها بحرف التّاء، وهي: التَّوبة، التّواضع، التَّسليم، التَّهرُّب، التَّعب، والتَّسبيح. ويُمكننا إضافة أربعة عناصر أخرى إلى هذا الـمُركَّب، ليُصبِح أكثر فعاليّة لمحاربة الكآبة. أمّا الآن، فَنَبدأ بِشَرح العناصر السّتة الأساسيّة في هذا الـمُركَّب العلاجيّ.
أوَّلاً: التَّوبة. لا وجود للكآبة عند الإنسان التائب. 

إنَّ مفهوم التَّوبة عند المؤمِنِين، مرتبطٌ بشكلٍ أساسيّ بالخطيئة، إذ لا وجود للتَّوبة من دون وجود خطيئة نرغب في التخلُّص منها، والاعتراف بها أمام الكاهن للتّعبير عن ندامَتِنا عنها. إنَّ علاقة الإنسان بالله تَمرُّ بثلاث مراحل: في المرحلة الأولى، ينظر المؤمِن إلى الله، كما ينظر العبد إلى سيِّده، فيحاول المؤمِن إرضاء سيِّده، أي الله، عبر الاعتذار عن أخطائه، مخافةَ أن يتعرَّض للعقاب. كذلك في المرحلة الثَّانية، ينظر المؤمِن إلى الله، نظرةَ عبدٍ إلى ربِّ عَمَلِه، فيسعى إلى الاعتذار عن أخطائه، خوفًا من التعرُّض للعقاب أيضًا، فيقوم بتَقديم النُّذورات له، محاوِلاً بذلك إرضاءه. في هاتين المرحلتَين، لا وجود لتوبة حقيقيّة، لأنّ علاقة المؤمِن بالله مَبنِيَّة على الخوف. 

أمّا في المرحلة الثّالثة، فينظر المؤمِن إلى الله، نظرةَ الابن لأبيه، وتسود المحبّة تلك العلاقة، لذا يُمكننا التكلُّم عن توبةٍ حقيقيّة. نادِرون هم المؤمِنون الّذين تمكّنوا من الوصول إلى مرحلة البنوّة لله، والشُّعور بأبوّته، إذ إنَّ صلوات غالبيّة المؤمِنِين مَبنيّة على هَدَفٍ معيّن: إمّا لتقديم الطِّلبات للّه، أو لتقديم الشُّكر له على عطاياه الّتي أرسلها لهم، وبالتّالي لا وجود لعلاقة مجانيّة عند هؤلاء مع الله. غير أنّه حين تكون علاقة المؤمِن مع الله مَبنيّة على المحبّة، فإنّ المؤمن يسعى إلى لقاء الله في الصّلاة، لأنّ وجوده في حضرة الله قادرٌ على مَنحِه السّعادة. وهنا يجب الانتباه إلى أنّ علاقَتَنا مع آبائنا الأرضيِّين لا تعكس بالضَّرورة علاقتنا بالله، خاصّةً إنْ كانت سيِّئة؛ بل إنّ علاقتَنا بالله هي الّتي تنعكس على علاقتِنا بآبائنا، فنُعامِلهم بالرَّحمة والمحبّة. إنَّ علاقتنا بالله، في المرحلَتَين الأولى والثّانية، هي مَصدرُ كآبتِنا. إذًا، إنّ هذا الـمُركَّب، أي التَّوبة، لا يمكنه أن يكون موجودًا إلّا حين تكون علاقة المؤمِن بالله علاقةَ ابنٍ بأبيه؛ أمّا الـمُركبّات الخَمسة الأخرى من هذا العلاج المضادّ للكآبة، فَهِي مُتوافرة في جميع مراحل علاقَتِنا باللّه.

إنَّ التّوبة هي كلمة متعدِّدة الأصول: ففي اليونانيّة هي “مِيْتانُويا”، وتعني تغيير الذّهن، والذّهن هو أعلى مراتب التفكير الإنسانيّ. وقد تُرجمَت بالعربيّة إلى “مطّانيّة”، وهي عبارة عن سجود المؤمِن إلى الأرض حتّى تلامِس جبهته الأرض؛ وفي هذه الحركة، تغيير للمفاهيم المتعارف عليه إذ يُصبح الرأس الّذي هو أعلى الجسد، مُلامِسًا للأرض. إنَّ التّوبة هي تغيير الإنسان رؤيته للأمور مِن حَوله، وهذه الرؤية الجديدة غير مرتبطة بالحالة الروحيّة، أي أنّها غير مرتبطة لا بِبَراراة الإنسان ولا بِنَجاسته. إذًا، النَّدم على الخطيئة هو جزءٌ صغيرٌ مِن التَّوبة ولا يُعبِّر عن المفهوم الكامل الحقيقيّ لها. أمّا في العبريّة، فالتّوبة هي “شابا”، وتعني العودة. إذًا، التَّوبة لا تقتصر فقط على ندامة المؤمِن على الخطيئة الّتي ارتكبها، والّتي يرغب في التخلُّص منها؛ إنّما التَّوبة هي العودة إلى أحضان الآب السماويّ، بعد فُقدان المؤمِن الطريق الصَّحيح نتيجة الخطيئة الّتي شوَّهت رؤيته للأمور مِن حَولِه. إنَّ الخطيئة تُشوِّه رؤية المؤمِن لله، فتَدفعُه إلى النَّظر إلى الله على أنّه سيِّد أو ربّ عَملٍ، وهذا ما يؤدِّي إلى غَرَقِ المؤمِن في الكآبة.

ثانيًا: التواضع. لا وجود للكآبة في قلب الإنسان المتواضع، لأنّ الإنسان المتواضع هو صاحب قناعة بأنَّ ممتلكاته الحاضرة كافيةٌ له، لذا فَهو لا يطمح إلى الحصول على ما لا يستطيع إنجازه، لذلك فَهو لا يتعرَّض لخيبات الأمل، وبالتّالي لا تعرف الكآبة له طريقًا. أمّا الإنسان الّذي يسعى إلى الحصول على المديح مِنَ الآخَرين نتيجة تَوقِه لِمَا لا يستطيع تحقيقه، فإنّه سيتعرَّض عاجلاً أم آجلاً لِـخيباتِ الأمل، وسيشعر بالكآبة لِظنِّه أنَّ الآخَرين لم يحترموه وأنَّهم جَرحُوه في كرامته. أنْ يكون الإنسانُ متواضِعًا، لا يعني أنْ يكون إنسانًا من دون كرامة؛ ولكنّ الفرق بين الإنسان المتكبِّر والإنسان المتواضع هو: أنَّ الأوّل يضع آماله وطموحاته في الآخَرين، فيُصاب بِخَيبات الأمل؛ أمّا الثّاني، فينظر إلى نفسه على أنّه شخصٌ مَنْسِيّ، لذا لا يُصاب بالكآبة إنْ لم يحصل على التقدير مِنَ الآخَرين. 

إنَّ الإنسان المتواضع هو إنسانٌ دائم الشُّكر للربّ على عطاياه الكثيرة له، ومواظِبٌ على طلب الرَّحمة مِنَ الربّ، لذا لا تُبارح العبارات التّالية شَفَتيه: “الشُّكر لله”، و”يا ربّ ارحم”. إنَّ الإنسان الـمُتَكبِّر يَتَّبِع المثل القائل:”خالِفْ تُعرَف”، كي يُصبح مَعروفًا ويمدحه النّاس، وإلّا أُصيب بالكآبة. مَن يُفكِّر في أمور هذا العالم ومَشقّاته يكتئب، أمّا مَن يُفكِّر في أمور الله وفي خِدمة إخوته البشر يَعِشْ في حالةٍ من السّعادة الحقيقيّة، غير مرتبطةٍ بامتلاكه للأمور الدُّنيويّة. إنَّ الإنسان المتواضع لا يتمسَّك بممتلكاته الأرضية، لذا يجد سهولةً في التخلِّي عنها من دون أن يُصاب بالكآبة، لأنّ سعادته لا تأتي منها، بل مِن الله السّاكن فيه. إنّ الإنسان المتواضع يسعى إلى حلّ الخلافات والسيطرة على غضبه، لأنَّه يُدرِك تمامًا أنَّ الحياة زائلة، ولذا لا يرغب في عيشها في حالةٍ من الاكتئاب بل في حالةٍ من السَّعادة. إنَّ الإنسان المتواضع يُدرِك تمامًا أنَّه لا يعلم كلّ شيء، لذا يُظهر رغبة دائمة للتّعلم مِنَ الآخَرين، فهو تلميذٌ دائم في هذه الحياة، وهذا ما يخفِّف مِن إصابته بالكآبة. يُصاب الإنسان بالكآبة، لا بسبب الظروف المحيطة به وحسب، إنّما أيضًا بسبب غياب أو نُقصان أحد العناصر السِّتة في الـمُركَّب “ت”، الّذي نتكلَّم عنه.

ثالثًا: التَّسليم. لا وجود للكآبة عند الإنسان الّذي يُسلِّم أمرَه لله. يجد الإنسان الـمُثقّف صعوبةً في تسليم أمرِه لله على عكس الرَّجل البسيط، لأنَّ الإنسان الـمُثقّف يَنتَابُه الغرور لاعتقاده أنَّ معرفتَه ببعض الأمور قادرةٌ على مساعدته في تدبير أموره من دون حاجته لله. إنَّ الإنسان الـمُثقّف هو أكثر عُرضةً للإصابة بالكآبة من الإنسان البسيط. إنّ الربّ يدفعنا إلى تسليم أمرِنا له من خلال الآيات المزموريّة إذ يقول لنا: “سلِّم للربّ طريقك، واتَّكل عليه”، “ألقِ على الربِّ هَمَّك وهو يَعُولُكَ”. لا يستطيع المؤمِن أن يعيش بسلامٍ، إلّا إذا قام بِرَمي كلِّ همومه أمام الربّ، تعبيرًا عن ثِقته بأنَّ الربّ قادرٌ على الاهتمام بها. 

إنَّ احتفاظ المؤمن بهمومه الحياتيّة، يؤدِّي إلى شعوره بالكآبة. على المؤمِن رَمي همومه أمام الربّ لا شكواه: فالشكوى تقوم على تبرير الإنسان ذاته أمام الله، ورَمي المسؤوليّة في ارتكاب الخطايا على الآخَرين، ممّا يؤدِّي إلى بقاء الـهَمّ في قلب الإنسان من دون زواله. “ألقِ على الربّ همَّك”، تعني أن يكون المؤمن بين يدَي الله، كالطِّفل بين يدَي أبيه. 

إنَّ الأطفال لا يهتمُّون إلّا لِمَا يؤمِّن لهم سعادتهم، لذا لا يهتمّون إلّا لألعابهم، من دون التَّفكير في كيفيّة تأمين الاحتياجات المنزليّة، لعِلمهم أنَّ والِديهم يهتمّون بهذا الأمر. ينهمك الإنسان في تدبير الأمور الحياتيّة اليوميّة لاعتقاده أنَّه قادر على ذلك وحده، غير أنّ ذلك غير صحيح بتاتًا، لذا يُذكِّرنا الربّ قائلاً لنا إنَّنا لا نستطيع شيئًا بِدُونِه. لذلك، فَلنَرْمِ أعباء حياتنا اليوميّة عليه، لأنّ في حِملِنا لها، مَصدرًا لكآبتنا. إذًا، التَّسليم لله، هو أن نكون أطفالاً بين يدَي الله الآب.

رابعًا: التهرُّب. لا وجود للكآبة في قلب الإنسان الّذي يتهرّب من “المشغوليّة”. على المؤمِن التهرُّب لا من المسؤوليّة في تَحمُّل أخطائه، بل التهرَّب من الانشغال الدائم في التَّفكير في هموم هذه الحياة، ومن التَّفكير السلبيّ، خاصّةً سوء الظّن في الآخَرين. إنّ الكآبة هي ثَمرةُ الانشغال الزَّائد في التَّفكير بأمور هذه الحياة وهمومها، وهذا ما يؤدِّي إلى ولادة بعض المشاعر ومِنها الكآبة والـحُزن الـمُفرِط. إذًا، يبدأ علاج الكآبة بالابتعاد أوّلاً عن كلّ تفكيرٍ سلبيّ، وخاصّة في الآخرين أي سوء الظّن بهم. إنّ الإنسان قد أساء الظّن بالله، فوَقَعَ في الخطيئة، ممّا أدى إلى خسارته الفِردوس. حين تتحرَّر من ظَنِّك السيِّئ في الآخرين، تصل إلى القداسة، إذ ليست القداسة في الأعمال الباهرة، إنّما في الأعمال البسيطة المتواضعة الّتـي تعبِّر عن محبّة الإنسان لأخيه الإنسان. 

إنّ الظّن السيِّئ بالآخرين يقود الإنسان إلى تحليل أخطاء الآخَرين من دون القبول بتبريراتهم. يُطلق الآباء القدِّيسون على سوء الظّن اسم “الكَذِب بالفِكر”. إنَّ الكَذِب بالفكر يؤدِّي إلى اقتراف الإنسان الخطايا بواسِطة لِسانه، الّذي لا عَظمَ له ولكنّه قادرٌ على تحطيم كلّ عِظام الإنسان. 

إذًا، على المؤمِن التهرُّب من الثرثرة والكلام الفارغ، لأنَّه حين يَتَفَوَّه الإنسان بالكلام الفارغ، تَدخُل تلك الكلمات السّيئة إلى ذاكرته، فتَخلُقُ فيه أفكارًا سيِّئة تؤدِّي إلى ولادة مشاعر سلبيّة فيه، فيُصاب الإنسان بالكآبة. على المؤمِن التهرُّب من كلّ أنواع الإدمان، لا من الإدمان على المخدّرات والمشروبات وحَسب، بل من الإدمان على الأهواء، الّتي تدفع به إلى الكآبة في حال عدم تلبيته لها، بسبب ظروفه الحياتيّة. إنّ الإدمان متعدِّد الأنواع: الإدمان على الثرثرة والإدمان على الرّشوة والإدمان على تشويه سُمعة الآخَرين، وسواها؛ ولكنّ أخطر أنواع الإدمان هو الإدمان على الكَسل، إذ إنّ الكسول بارعٌ في تأليف الحُجج لتبرير امتناعه عن العمل.

خامسًا التَّعب. لا وجود للكآبة في قلب الإنسان الّذي يسعى إلى إتِعاب جسده بالعمل. تشير الإحصاءات العِلميّة، إلى أنَّ الّذين يُمضون أوقاتهم بالعمل الذِّهنيّ هُم أكثر عُرضةً للكآبة مِن الّذين يُمضون أوقاتهم في العمل الجسديّ. وبالتّالي، فإنّ أكثر الأشخاص الـمُعرَّضين للكآبة هم القُضاة، أساتذة الجامعات أي الـمُحاضِرون، والكهنة، أمّا الأقلّ عُرضةً لها، فَهُم الفلّاحون والعُمّال، لأنَّ حياة القضاة والكهنة وأساتذة الجامعات مبنيّة على الكلام، أي على إعطاء الإرشادات والنصائح للآخَرين؛ أمّا حياة العُمال والفلّاحين فمَبنيّة على العمل الجسديّ الـمُضنيّ. وهنا نُضيف إلى أنّ الّذين يُعانون مِن مُشكلة حُبّ الاقتناء للأمور الأرضيّة هُم أكثر عُرضةً للاكتئاب مِنَ الّذين يَجِدون سهولةً في التخلِّي عنها. إنَّ العَمل من أجل الآخَرين يُقلِّل من خَطر إصابتك بالكآبة. عندما يُتعِب الإنسان جسده يكتسب حالةً من الصَّفاء الذهنيّ، بدليل أنَّ الفلّاحين والعُمال يعيشون حالة الصّفاء الداخليّ أكثر من الكهنة والقضاة وأساتذة الجامعات.

سادسًا التسبيح. لا وجود للكآبة في قلب الإنسان الـمُسبِّح لله. إنَّ التَّسبيح هو نوعٌ من أنواع الشُّكر المجانيّ لله: على المؤمِن أن يشكر الله، لا على نِعمةٍ نالها، إنّما على نِعمة وجود الله في حياته. فكما أنَّ الحبيبب لا يحتاج إلى سببٍ للقاء حبيبِه، كذلك على المؤمِن أن يسعى إلى لقاء الله لا من أجل طلبٍ أو شُكرٍ، إنَّما من أجل شعوره بفرحة اللّقاء مع الربّ. إنَّ التَّسبيح يقوم على شُكر المؤمِن لله على نِعمة وجوده في حياته، فوجود الله في حياة المؤمِن هو الّذي يُعطيها المعنى الإيجابيّ. إنَّ شُكر المؤمِن لله، يُخفِّف من كآبة الإنسان. إنَّ بولس الرَّسول يدعونا إلى شُكر الله على الدّوام قائلاً: “أُشكروا الله الآبَ كلَّ حينٍ على كلِّ شيءٍ باسم ربِّنا يسوع الـمَسيح” (أفسس5: 20). وكذلك صاحب المزامير يدعونا إلى تسبيح الله أيضًا، قائلاً: “أُحبُّك يا ربُّ يا قوَّتي، يا مخلِّصي، مِن العُنفِ خلَّصتني. الربُّ صخرتي وحِصني ومُنقِذي، إلهي الصَّخرُ به أعتصِمُ، تُرسي وقوّةُ خلاصي وملجئي. أدعو الربَّ سُبحانه، فأنجو مِن أعدائي”
(مز 18: 1-4). إذًا، الربُّ حِصني ومُخلِّصي، لذا على المؤمِن تسبيحه على الدَّوام. عندما تسعى إلى لقاء الربّ من دون هدفٍ معيَّن، أي لا من أجل طلبٍ أو شُكرٍ على نِعمةٍ حصلت عليها، تكون قد وَصلت إلى قمَّة علاقتك، إلى الله، فتتعامَل معه على أنَّه أبوك وأنت ابنُه، فلا تخاف منه بعد الآن.

إنّ الإنسان يُصاب بالكآبة، لا نتيجة عوامل خارجيّة وحسب، إنّما بسبب غياب أحد هذه العناصر السّتة الأساسيّة من الـمُركَّب “ت” في حياته اليوميّة. في مقابل هذا الـمُركَّب العلاجيّ للكآبة، المؤلَّف من ستّة عناصر تبدأ بحرف “ت”، مُركَّبٌ آخر يؤدِّي إلى إصابة الإنسان بمرض الكآبة، مؤلَّفٌ هو أيضًا من ستّة عناصر تبدأ بحرف “ت”، ومِنها التكبُّر. وهنا يكلِّمنا بولس الرَّسول في رسالته إلى أهل غلاطية عن أعمال الجسد وثمار أعمال الرُّوح، قائلاً: “ولكن إذا كان الرُّوح يقودكم، فَلَستُم في حُكم الشريعة. وأمّا أعمال الجسد فإنَّها ظاهرة، وهي الزّنى والدّعارة والفُجور وعبادةُ الأوثان والسِّحر والعداوات والخِصام والـحَسدُ والسُّخط والـمُنازاعات والشِّقاقُ والتَّشيُّع والـحَسَد والسُّكر والقَصفُ وما أشبه. وأُنبِّهُكم، كما نبَّهتُكم مِن قَبلُ، على أنَّ الّذينَ يَعملون مِثلَ هذه الأعمال لا يَرثونَ مَلكوت الله. أمّا ثمر الرُّوح فَهو الـمَحبَّةُ والفرحُ والسّلام والصّبرُ واللُّطف وكرَمُ الأخلاقِ والإيمانُ والوداعة والعفاف. وهذه ما مِن شريعةٍ تتعرَّض لها.”(غلاطية 5: 13-28). 

إنَّ ثِمار الرُوح هي حِصنُ الإنسان ضدَّ الكآبة. إنَّ الربَّ يسوع قد سمّى إبليس “سيِّد هذا العالم”. على المؤمِن أن يُحاربَ كلَّ فِكرٍ عالميّ بِثِمار الرُّوح، لأنّ فِكر العالم هو مَصدَرٌ للكآبة. في زمن الصّوم، على المؤمِن التهرُّب من كلّ “مشغوليّة”، في تحضير الأكل الصّياميّ، لأنَّ الصّوم لا يقتصر على شكله الخارجيّ وحسب، إنّما على دخول الإنسان إلى أعماقه في محاولةٍ لاستعادة صفائه الدّاخليّ. إنَّ الصّوم يُسبِّب للبعض حالةً من الكآبة، لأنّهم ينظرون إلى الله على أنّه سيِّد أو ربُّ عملٍ، لا على أنّه أبٌ مُحبٌّ لهم. كذلك الأمر بالنسبة للصّلاة، فالبعض لا زالوا يُمارسونها عن خوف، لا عن رغبةٍ منهم في لقائهم بالحَبيب أي الله. الصّوم هو إشراك المؤمن جسده في الصّلاة، والصّلاة هي تصويم الإنسان نَفسَه عن كلّ ما لا يُرضي الله. إنَّ صومَنا وصلاتنا لا يمكنهما أن يظهرا للآخَرين إلّا من خلال محبّتنا للآخر، فالصّوم والصّلاة والآخر هي ثالوث المؤمِن. في النِّهاية أدعوكم إخوتي، إلى التخفيف من أحمالِكم للهموم الحياتيّة ورَميها على الله في الصّلاة، لأنّ ذلك يُخفِّف من نسبة إصابتكم بالكآبة. اسعوا في هذا الزّمن إلى البحث عن هذه العناصر السّتة في حياتكم والمحافظة عليها، إذ فيها علاجٌ أكيد لكآبتكم. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp