محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،

عيد الظهور الإلهيّ،

إنّ الكنيسة تعيش اليوم زمن الظهور الإلهيّ، الّذي يُعرَف شعبيًّا بزمن المعموديّة. إنّ المؤمِنِين، عبر العصور، لم يُدرِكوا الأهميّة الروحيّة لهذا العيد، بدليل وجود قلّة في العادات والتقاليد الشعبيّة الخاصّة بهذا العيد.كما أنّ كُثُرًا منهم، اعتقدوا أنّ هذه الأعياد هي أعياد خاصّة بالمسيح كونه هو الّذي عاشها، ولكن في الحقيقة، هذه الأعياد تخصّ المؤمن أكثر ممّا تخصّ المسيح. إنّ زمن المعموديّة ليس زمن معموديّة يسوع وحسب، إنّما زمن معموديّة المؤمِن الخاصّة.

إنّ الأعياد اللّيتورجيّة والكنَسيّة ترتكز على كلمتين هما: الذِّكرى والذِّكر. إنّ تاريخ الإنسان يُقسَم إلى قِسْمَين: عصر ما قبل التاريخ، وعصر التاريخ. إنّ فترة “ما قبل التاريخ” هي الفترة الّتي لم يُدوِّن فيها الإنسان شيئًا ممّا اختبره وعاشه، وبالتّالي لم يتمكَّن الإنسان المعاصر مِن معرفة اختبارات النّاس في ذاك الزَّمان، لأنّ أخبارهم قد اندثرت مع موت معاصريهم. إنّ الإنسان بدأ تدوين تاريخه في عصر”التاريخ”، وبالتّالي أصبح الإنسان المعاصر قادرًا على معرفة ما عاشه أولئك في تلك الفترة الزمنيّة، إذ وصلت إليه أخبارهم عبر ما دوَّنوه. إنّ الإنسان يسعى دائمًا ليُوَثِّق اختباراته ويُدوِّنها، لأنّها تُشكِّل الدليل على وجوده وجذوره. 

إذًا، إنّ التاريخ يرتكز على الذّاكرة الإنسانيّة، فالإنسان هو المخلوق الوحيد القادر على تدوين اختباراته الحياتيّة مستندًا على حواسه، وبالتّالي يستطيع نقل أخباره إلى الأجيال القادمة ومشاركتهم بها من خلال كتاباته. إنّ التَّناقل الشفهيّ الكلاميّ مفيدٌ لفترة محدودة من الزَّمن، أمّا في الأمَد البعيد، فلا بديل له عن الكتابة، لذا دوَّن الرّسل ما اختبروه مع المسيح مخافةَ أن تَتعرّض تلك البشارة إلى النِسيان مِن ذاكرة الإنسان أو إلى التشويه في نقلها، فكان الإنجيل. في زمن الرّسل، عاش المسيحيّون الإيمان المسيحيّ، ولم يكن هناك ضرورةٌ لكتابة اختباراتهم مع المسيح، لأنّهم عاصروه وعرفوه عن قُرب، غير أنّ الكتابة باتت ضروريّةً عندما بدأ الموت يُغيِّب الرّسل الواحد تلو الآخر. كتب بولس رسائل إلى كلّ الّذين نَقَلَ إليهم البشارة، مِن أجل تصحيح مسارهم وسلوكهم، بعد أنْ لاحظ سوء فَهمِهم للبشارة الّـتي بشَّرهم بها. إذًا، إنّ الذَّاكرة الإنسانيّة هي الّتي تصنع تاريخ الإنسان، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الّذي يتمتّع بذاكرة منطوقة من بين كلّ المخلوقات، ولذا فَهو يستطيع أن يتذكّر ما عاشه ويشهد به، إمّا بالكلام أو بالكتابة. إذًا، “الذّكرى” تُشير إلى ذاكرة الإنسان، وأمّا “الذِّكر” فهو الشهادة لكلّ ما يتذكّره الإنسان.

في الأسرار الإلهيّة، يعيش المؤمِن “الذِّكرى” و”الذِّكر”، إذ يتذكَّر عملَ الله الخلاصيّ في تاريخه البشريّ، فيَذكُرُه للأجيال اللّاحقة شاهدًا لإيمانه بالله. في القدّاس الإلهيّ، يتذكّر المؤمِن مسيرته مع الله، فيَتَوجّه إليه بالصلاة طالبًا منه تقديس ما يُقدِّمه له مِن مياه أو قرابين، وبالتّالي فإنّ المؤمِن لا يصلّي إلى إله تصوّراته وتخيُّلاته، إنّما للإله الحاضر في تاريخه عبر الأجيال. أثناء الاحتفال بالمعموديّة، يقوم الحاضرون بتَذَكُّر تاريخ الله مع شعبه، فيسألونه مباركة المياه ومباركة الإنسان الّذي يتقدّم مِن سرّ المعموديّة، فيُصبِح المعمَّد عضوًا في الكنيسة، وتاريخ شعب الله يُصبح تاريخه الخاصّ بفعل معموديّته. إنّ انتماء كلّ معمَّدٍ إلى الكنيسة، هو انتماءٌ إلى تاريخ شعب الله، وبالتّالي فإنّ دخول المعمَّد إلى تاريخ الله سيكون فاعلاً، وسيغيّر في هذا التاريخ. 

إنّ تاريخ شعب الله سيحوي اسم كلّ معمَّدٍ في الكنيسة، أكان ملتزمًا بالله أم بعيدًا عنه. فالله لا يلِدُ الإنسان مِن جديد إنْ لم يسلك هذا الأخير بحسب رضى الله ومشيئته، وبالتّالي هذا ما يُفسِّر عدم مَنح المعموديّة إلّا مرّة واحدة. إنّ سفر أعمال الرسل يتكلمّ عن المعموديّة الّتي تُمنَح مرّة واحدة، كما تُعلِن الكنيسة ذلك في قانون إيمانها إذ تقول: “ونعترف بمعموديّة واحدة”. بعد خروج المؤمِن مِن جُرن المعموديّة، يصبح المعمَّد خليقة جديدة على صورة الله ومثاله كما كان يسوع المسيح، كما يصبح ابنًا لله، أي أنّه يشارك المسيح في ميراث الله. إنّ إغراءات هذه الدنيا وآلامَها، تُغيِّر المؤمِن وتُشَوِّه صورة الله فيه الّتي نالها في المعموديّة. إنّ هدفَ العيد والأسرار الإلهيّة تصحيحُ مسيرة المؤمِن الحياتيّة، فالعيد هو فرصةٌ لليقظة الروحيّة.

إنّ المعموديّة تجعلُ المؤمِن أهلاً للشهادة، من خلال مواهبه الّتي يُنعم بها الله عليه. في المحاكم البشريّة، يتمتّع الشاهد في قضيّة معيّنة، بمصداقيّة وشفافيّة، وإلّا أصبحت شهادته مشكوكًا بأمرها؛ كذلك على حياة المؤمِن، أن تشهد لإيمانه، وبالتّالي يجب أن يتمتّع بمصداقيّة وشفافيّة في عيشه لما يؤمِن به، وإلّا تحوّل إلى مصدر شكّ للآخرين وسببًا في ابتعادهم عن الله. في معموديّته على نهر الأردّن، غطس الربّ يسوع في المياه وتعمَّد على يد يوحنّا المعمدان. في هذه المعموديّة، ظهر الله الثالوث: ظهر الروح القدس على شكل حمامة على رأس يسوع الابن، وسُمِع صوت الآب مِنَ السّماء قائلاً عن المسيح: “هذا هو ابني الحبيب الّذي به سُرِرت”. إنّ “ابني الحبيب”و”سُرِرت” كلِمَتان تدلّان على رضى الله على يسوع المسيح. ولكنَّ السؤال هو: كيف يُسَرُّ الله بابنه قَبلَ أن يبدأ هذا الأخير رسالته؟ إنّ مسرَّة الأب بابنه، بحسب المنطق البشريّ، ترتكز على سلوك الابن. غير أنّ مسرّة الله مختلفة عن مسرّة البشر، إذ لا يفرح الله بابنه يسوع نتيجة سلوك هذا الأخير في رسالته الّتي بدأها بعد المعموديّة، إنّما يفرح الله بالابن نتيجة ثقته بأنّ ابنه يسوع لن يخيِّب له ظنّه. 

إذًا، إنّ سبب سرور الله بابنه يسوع، هو طاعة هذا الأخير لله ولمشيئته: فإنْ عاش المعمَّد الطاعة لله، فَسيختبر ما عاشه المسيح في أثناء المعموديّة، إذ سيسمع صوت الله الآب قائلاً فيه: “أنتَ ابني الحبيب الّذي به سُرِرت”. إنّ المؤمِنِين يُشكِّلون مصدرَ سرور الله على الرّغم مِن خطاياهم وأذيّتهم وظُنونِهم، فَمَسرّة الله بهم غير مرتبطة بسلوكهم الـمُخجل، بل مرتبطة باختيارهم البُنُوَّة لله مِن خلال المعموديّة. إنّ الإنسان يفرح حين يُدرِك أنّ الله يُسَرّ به ويقبَلُه كما هو، وقد تبنّاه إذ جعله ابنًا له بالمعموديّة. إذًا، إنّ عيد الظّهور الإلهيّ هو عيد الفرح. إنّ الله غير قادر على التخلّي عن الإنسان إذ إنّ طبيعة الله تمنعه مِن ذلك فَهيَ تتَّسِم بالرّحمة والمحبّة. إنّ الله يتخلّى عن هويّته الإلهيّة إنْ حاسب الإنسان على خطاياه من دون رحمة ومحبّة، ويتحوّل إلى قاضٍ بشريٍّ، وعندها ستهلك البشريّة بأسرها لا محالة. في عيد الظهور الإلهيّ-كما في كلّ الأعياد- تَظهر محبّة الله ورحمته للبشر. في العيد، يتذكّر الإنسان ما قام الله به مِن أجله، فيُدرِك أنّ إلهه رحومٌ ومحبٌّ، وهذا ما يدعوه إلى الفرح والابتهاج.

في العيد، يُعبِّر الإنسان عن فرحه وابتهاجه بِطُرقٍ متعدّدة: فقد يُعبِّر البعض، مثلاً، عن فرحهم عبر تحضير حلوى العيد “الزلابيّة”، وآخرون بإضاءة مصابيح شُرُفات المنازل، وآخرون بِطُرقٍ أخرى مختلفة. إنّ كلّ وسائل التعبير هذه، لا يجب أن تخلو من معنى العيد الحقيقيّ، فهي مِن شأنها أن تساعد المؤمِن على عيش العيد في كلّ نواحي حياته: فالنّساء اللّواتي يُحضِّرن “الزلابيّة”، يَقُمَن بتغطيسها بالزيت، وبذلك يتذكّرون ما قام به يسوع المسيح في نهر الأردّن، إذ غطس في المياه. إنّها لَنِعمةٌ مِن الله أن يكون الإنسان كائنًا مُعبِّرًا: إنّ الّذين يَكبِتون مشاعرهم هُم أشخاص يُعانون من أمراض نفسيّة وعصبيّة وجسديّة متعدّدة. إنّ الإنسان لا يُعبِّر عن حبّه أو جفائه للآخر من خلال الكلام وحسب، إنّما أيضًا مِن خلال الجسد، إذ إنّ إلقاءَ الإنسانِ التحيّةَ والسّلامَ، مثلاً، على أشخاص تربطه بهم علاقة محبّة، تختلف عن طريقة إلقاء الإنسان نفسَ التحيّةَ على آخرين تربطه بهم عداوة، أو لا تربطه بهم أيّة معرفة. إنّ طريقة تعبير الإنسان عن فرحه تختلف عن طريقة تعبيره عن حزنه: فالآخرون يستطيعون معرفة حالة الإنسان مِن خلال طريقة تعبيره، ولكنّ الآخرين لا يستطيعون معرفة مقدار الحزن أو الفرح الّذي يعيشه الإنسان في داخله، لذا فَقَدْ يجد البعض بعض طُرق التعبير مبالغًا بها. 

إنّ الإنسان هو الشخص الوحيد القادر على معرفة مدى عُمق حزنه أو فرحه. إنّه لَخَطرٌ كبير على الإنسان أنْ يبني فرحه على الأمور الدنيويّة، وقد حذّرنا المسيح مِن ذلك في الإنجيل. إنّ مدّة التعبير عن الفرح قصيرة جدًّا، غير أنّ الفرح يدوم لفترة أطول: فإنْ انتهى فرح الإنسان مع انتهاء العيد فهذا دليلٌ على أنّ المؤمِن لم يفهم معنى العيد الحقيقيّ، ولكنْ إنْ كان فرحه دائمًا فهذا يعني أنّه أدرك حقًّا معنى العيد. وبالتّالي، فإنْ فَهِمَ الإنسان الحدث حقيقةً، شَعَرَ بالفرح في هذا العيد العظيم؛ وإنْ لم يَفهَمه، فإنّه سيعتبر هذا العيد عيدًا بسيطًا وفرَحُه فيه سيكون قصير الأَمَد، وذلك لأنّ ذهنيّة العالم هي الّتي غَلَبَت على مفهومِه للعيد. إنّ الكنيسةَ تدعو المؤمِنِين إلى عيش الفرح والتعبير عنه وِفقَ ذهنيّة الإنجيل. إنّ الإنسان قد يجد صعوبةً في التَمييز لعَيشه فرح العيد إذ قد يعتقد أنّه يعيش فرح الرّوح في هذا العيد، في حين أنّه يعيش مَرَحَ العالم.

إنّ العبادة قد تتحوّل عند المؤمِن في بعض الأحيان إلى عادة، إذ قد يُمارِسُها من دون تفكير في موضوع عبادته. إنّ ما يتحرّر الإنسان من التفكير فيه، أي مِن تحليله وفهمِه، يتحوّل إلى عادة وبالتّالي يَفرغ من معناه. إنْ حُذِفَ حرف الباء من كلمة “العبادة”، تتحوَّل تلك الكلمة إلى “العادة”، والحرف المحذوف أي “الباء”، هو حرف شِفاهيّ، أي أنّه يصدر عن شفاه الإنسان الّتي منها تخرج كلّ الكلمات، وبالتّالي فإنّ العبادة تتحوّل إلى عادة عندما تخلو مِن الشهادة أي مِن إعلان المؤمِن لها بكلامه. إنّ الشهادة تتضمّن سماع الإنسان ورؤيته للحدث الّذي يشهد له، إضافةً إلى خِبرَتِه في عيش الحدث. إنّ الكنيسة الّتي تتَّبِع التقليد الشرقيّ، تدعو المؤمِن في نهاية زمن كلّ عيد، إلى “قدّاس وَداع العيد”، ويكون ذلك في آخر أيّام العيد، ويتضمّن القدّاس احتفالاً بكلّ مباهج العيد المتعارف عليها. إنّ الكنيسة تدعو المؤمِن من خلال “قدّاس توديع العيد” إلى أن يتذكّر ما حَمل له العيد مِن ثمار روحيّة، كما تُشجّعه على المحافظة عليها والمثابرة على عيشها كي تعطي المزيد مِن الثِّمار في العيد المقبل. إنّ العيد لا تنتهي ثماره ونتائجه مع انقضاء مرحلته، فالعيد لا ينتهي بحلول العيد، كما تقول ذهنيّة العالم، بل يبدأ العيد بحلول العيد، وَفق ذهنيّة الإنجيل.

إنّ معموديّة الماء والرّوح لا تُمنَح إلّا مرّة واحدة في الكنيسة، ولكنّ ثمار هذا العيد هي معموديّة الفكر والرّوح بواسطة الكلمة الإلهيّة، فالكلمة الإلهيّة تُعمِّد فكر كلّ مَن يسمعها ويقبلها في حياته. إنّ بولس الرسول يُخبرنا أنّ المسيح هو العريس، وقد أحبّ كنيسته للغاية حتّى أنّه بَذل نفسه مِن أجلها، إذ جعلها عروسةً له. وعندما أراد المسيح تجديد عهده مع الكنيسة، غسلها بماء المعموديّة وطهّرها بواسطة الكلمة الإلهيّة. ولذلك، فإنّ لكلّ سرّ من الأسرار الكنسيّة ما يناسبه مِن نصوص في الأناجيل والرسائل، أي في الكلمة الإلهيّة. إنّ المؤمِن يُصبح مشتركًا في عطايا الله له، في نهاية كلّ سرّ يناله. إنّ المؤمِن لا يستطيع الاشتراك في عطايا الله له إلّا إذا كان طاهرًا ونقيًّا مِن كلّ دَنس. وهذه الطهارة لا يستطيع الإنسان تحقيقها من دون معونة الله له، لذا يقوم الله بغسل المؤمِن بماء المعموديّة وبالكلمة الإلهيّة. إنّ “الذِّكرى”، و”الذِّكر” لحدثٍ معيّنٍ في الكنيسة، يتمّ بكلمات ينطقها المؤمِن، تعبِّر عن فرحه بالحدث الإلهيّ الّذي يتذكّره فيقيم ذكراه.
في عيد الظهور الإلهيّ، يحتفل المؤمن بمعموديّته الخاصّة لا بمعموديّة المسيح. كانت معموديّة يوحنّا مِن أجل توبة الخطأة، ودعوتهم إلى تصحيح مسارهم؛ غير أنّ يسوع لم يكن محتاجًا إليها فهو البارّ والقدّوس، ولكنَّه أراد الاعتماد على يد يوحنّا مِن أجل تتميم برّ الله. ولذلك، فإنّ معموديّة يسوع على يد يوحنّا المعمدان لم يكن مِن شأنها أن تزيد المسيح طهارةً، بل أن تساعد النّاس على إدراك برّ الله إذ انفتحت السّماء لأجلهم وسُمِع صوت الآب، وظهر الرّوح القدس على شكل حمامة. إنّ برّ الله كاملٌ ولم يكن بحاجة لأنّ يتعمَّد المسيح كي يكتمل. إن معموديّة يسوع على يد يوحنّا كانت الوسيلة الّـتي استخدمها الله ليُعلن للبشر أجمعين عن برّه. 

أراد يوحنّا المعمدان إظهار تواضعه حين رفض في بادئ الأمر تعميد يسوع، لِعِلمِه أنّه طاهر، غير أنّه عاد وسكب المياه على رأس يسوع، من أجل إتمام برّ الله. وبالتّالي، فعلى المؤمِن أن يسعى إلى عدم تعطيل مشروع الله بتواضعه. إنّ الكتاب المقدّس يخبرنا أمورًا قد تثير استغرابنا لقبول الله بها، كأن يقبل بِكذبةِ ابراهيم حين أنكر أنّ سارة هي زوجته، في سبيل تخليص روحه، أو كأن يقبل بخداع يعقوب لأبيه اسحق. إنّ مشروع الله لا يتعطّل بسبب خطايانا، ولذا نجد أن الله قَبِل بها وجعلها تخدم مشروعه الخلاصيّ. إنّ الله هو الوحيد الّذي يحقّ له استخدام كلّ الوسائل، من أجل تحقيق الخلاص. إنّ خطايا الإنسان لا يمكنها أبدًا تعطيل مشروع الله الخلاصيّ، ولكنّها تستطيع أن تجعل الإنسان خارج مشروع الله لأنّها تعبِّر عن رغبة الإنسان برفض الخلاص. على المؤمِن ألّا يُضيِّع وقته في محاولة التخلّص مِن خطاياه، فيرفض قبول الأسرار الإلهيّة والمشاركة فيها بحجَّة هذه الخطايا، فلا يحصل على الخلاص الذي يمنحه إيّاه الله. ولذلك، فإنّ الأعياد هي سبب فرح للمؤمِن إذ تُظهِر له مدى عظمة محبّة الله ورحمته له، كما أنّ فرح الإنسان المستمِرّ بعمل الله الخلاصيّ، يجعل العيد حاضرًا في كلّ أوان.

إنَّ الّذين اهتمّوا بتنظيم الحياة اللّيتورجيّة، ووَضْعِ السَّنوات الطّقسيّة الخاصّة بكلّ كنيسة، هم قدِّيسون بلا شكّ، إذ إنّهم حاولوا من خلال أعمالهم هذه أن يساعدوا المؤمِنِين على اكتشاف ورؤية ما قد رأوه واختبروه هم أنفسهم مع الله. إنّ الإنسان يتقدَّس حين يكتشف في قيامة الربّ يسوع مِن بين الأموات كلّ فرحه، وعليه بالتّالي أن يسعى إلى دفع الآخرين إلى القداسة عبر نَقلِه هذا الفرح إليهم، فالفرح يُعدي. إنّ الابتسامة قد تكون أصدق تعبير عن إيمان الإنسان بالله، وهي إحدى طُرُق الشهادة عن لقاء المؤمِن بالرّب. إنّ الابتسامة هي إحدى وسائل التبشير بالمسيح، إذ إنّ للابتسامة قوّة الكلمة، وما يُقصَد بالابتسامة هنا، هو الفرح النابع من المسيح، أي من القلب.

إنّ عيد الظهور الإلهي هذه السَّنة، هو فرصةٌ لكلّ مؤمن كي يُعيد للعادة معناها الروحيّ، فتصطلح العادة وتصبح عبادة لله، كما يدفع هذا العيد كلّ مؤمِنٍ إلى تحويل مرَحَهُ العالميّ إلى فرحٍ بالرّوح، فلا يفارقه الفرح بعد ذلك الحين. إنّ الفرح له تعابيره الخاصّة ومعاييره أيضًا، ولا يُعبَّر عنه بالضرورة من خلال إعطاء المال للآخرين. فكما أنّ الفضيلة تُعدي الآخرين،كذلك الرذيلة، وبالتّالي فإنّ الفرح والحزن ينتقلان إلى الآخرين بالعدوى بواسطة المؤمِن. غير أنّ التعزيّة لا تأتي مِن البشر إنّما مِن الله، لذلك انتظارُ المؤمنِ الحصولَ عليها مِن البشر هو مَضيعةٌ للوقت. إنّ الفرح السماويّ يأتي إلى المؤمِن بواسطة الآخرين المحيطين به، ولذا فإنّ المؤمِن مدعو لأنّ يكتشف هذا الفرح الحقيقيّ أوّلاً في داخله ثُمّ في الآخرين. إنّ مشاكل هذه الدّنيا وضغوطاتها على الإنسان، تدفع بالمؤمِن إلى الإحباط واليأس، وبالتّالي إلى التوقّف عن تحقيق مشروع الله في حياته، ذلك من الشيطان لتعطيل مشروع الله في داخل الإنسان. إنّ الروح القدس يأتي لنجدة المؤمِن في أوقات الشّدة والـمِحَن، فلا يلغي له المشاكل، إنّما يُساعده على مواجهتها، وعلى دفعه إلى رؤية تعزيات الله له في هذه الظروف الّتي يمّر بها. عندما يتعمَّد المؤمِن، فإنّه يخرج من جُرنِ المعموديّة ابنًا لله، ولكنّ العالم الّذي يعيش فيه المؤمِن يبقى على حاله، غير أنّ نظرته إلى أمور هذه الدّنيا هي الّتي تتبدّل وتتحوّل، إذ يتعلّم كيف يتعامل مع هموم الدّنيا، فينقل المؤمِن إلى العالم عدوى الفرح الداخليّ، دون أن يسمح للعالم بأن ينقل إليه فرحه الزائل.

في عيد الظهور الإلهيّ ظهر الثالوث الإلهيّ، ولكنْ كلّ أقنوم منه قد ظهر بطريقة مختلفة عن الآخر: فالآب ظهر من خلال الصوت أي من خلال الكلمة، والابن ظهر في الإنسان القابل للمعموديّة، والرّوح بشكل حمامة ترمز أيضًا إلى السلام. إذًا، إنّ كلّ معمَّد يحصل على الكلمة الإلهيّة والتعزية الإلهيّة الّتي تُعطي السّلام، وبالتّالي فإنّ كلّ معمَّد هو أيقونة المسيح. إنّ المسيح هو أيقونة الله الوحيدة على الأرض، فإنّ كلّ إنسان معمَّد يتحوّل إلى أيقونة جديدة عن المسيح.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp