“فَيَفيضَ الشُّكر في قلوب الكثيرِين…” (2 قور 4:5 -15)

بقلم الخوري كامل كامل،

كلُّ شيءٍ مِن العَدم، هذا مَبدأ الخَلق. كلُّ شيءٍ مِن “اللّاشيء”. قَبْل الخَلق “ما كان” في أي مكانٍ وبعد الخلق أصبح موجودًا. الخالق هو الربّ والمخلوق، هو كلّ ما في الوجود 

لكنّ الخَلق لا يَقتصر على العالم وما يحويه، ولا على الإنسان وما يملكه من روحٍ وفكرٍ وأحلامٍ، بل الخَلق في الرّحمة والتعزية والمحبّة والإنسانيّة…

خلَق الربّ النّور من الظلمة “لِيُشْرِقْ مِنَ الظُّلمَةِ نُور!” لِتَستنير النّفوس وتَعرف مجد الله في المسيح.

فالخَلق هو تحوّل المادّة إلى روحٍ، والجماد إلى حياةٍ وينابيع متفجّرةٍ من المشاعر الإنسانيّة الرّقيقة المشبَعة من حرارة الرّوح، تُذيب جليد العقول المتحجّرة فتَنفتِح أبواب الرّحمة على وجه الأرض.

البشارة خَلقٌ جديدٌ، يحملها رَسولُ الحبّ رغم عدم أهليّته، لأنها لَيْست من ذاته وفوق قدراته وتفوق إمكانيّاته. “نَحْنُ لا نُبَشِّرُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ نُبَشِّرُ بِيَسُوعَ المَسِيحِ رَبًّا، وبِأَنْفُسِنَا عَبِيدًا لَكُم مِنْ أَجْلِ يَسُوع”.

البشارة هِبةٌ ونِعمةٌ مجانيّةٌ من الله القويّ غَير المحدود، أفاضها على الإنسان الضّعيف المحدود “نَحْمِلُ هذَا الكَنْزَ في آنِيَةٍ مِنْ خَزَف، لِيَظْهَرَ أَنَّ تِلْكَ القُدْرَةَ الفَائِقَةَ هِيَ مِنَ اللهِ لا مِنَّا”.

فالنّور من النّور ولَيس مِن الظّلمة، والحياة من الحياة ولَيْست مِن الموت، وكما يجتاح النّور قوّة الظلام بِلحظةٍ، هكذا تجتاح الرّحمة قوّة الشرّ بِلَحظة.

ألَيْست النّفس التّائبة خَلقًا جديدًا؟ ألَيس الغفران خَلقًا جديدًا؟ أليس السّلام والفرح والتّعزية والرّجاء خَلقًا جديدًا؟

 يشارِك الرّسول الله في الخَلق، رغم ضعفه. صحيحٌ أنّ جسده هشٌّ “آنيةٌ من خزف”، ينكسر من شدّة ضعفه، لكنّه “هيكل الرّوح القدس” يحمل مجد الله الذي اعتبَره بولس “الكنز” الذي يَظهر للنّاس حين تنكسِر هذه الآنية الخزفيّة، أي عندما تَقبل الحبّ كَحبّة الحِنطة وتتلاشى عن ذاتها وتَطمر أنانيّتها وتنتفِخ، لا بِنفسها، بل بالله، حينئذٍ تُثمر تلك الحبّة، وتُعطي كلّ واحدةٍ خمسِين لا بَل مِئة.

 تأوّه إرميا النبيّ من شِدّة ضُعفه أمام المهمّة الكبيرة (أنْ يكون نبيًّا للأمم) التي أوكَلها له الربّ قائلاً: “آهِ أيّها السَيِّدُ الرَّبُّ هاءنذا لاَ أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لأَنِّي وَلَدٌ” (إرميا 6:1)، فجاءَه الردّ سريعاً “لاَ تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ فأَنَّكَ لكُلِّ مَنْ أُرْسِلُكَ لَهُ تَذْهَبُ وَكُلُّ مَا آمُرُكَ بِهِ تقول. لاَ تَخَفْ مِنْ وُجُوهِهِمْ فإنِّي أَنَا مَعَكَ لأُنْقِذَكَ، يَقُولُ الرَّبُّ” (إرميا 1: 7-8).

لا يَخاف الرّسول الاضطهاد ولا يأبَه الضّيقات ولا يَهرب من معركةٍ، لا يَسحقه ضيقٌ، لا يَيأس من حيرةٍ، يَشعر أنّه غير مُهملٍ رغم الاضطهاد، وغير هالكٍ رغم شدّة النّبذ.. هذا هو الرّجاء المسيحيّ ” نَحْمِلُ في جَسَدِنَا كُلَّ حِينٍ مَوْتَ يَسُوع، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا في جَسَدِنَا”.

الخَلق مِن العدم… النّور مِن الظّلمة… الحياة مِن الضّعف. “فَإِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَوْمًا إِلى المَوْت، مِنْ أَجْلِ يَسُوع، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا في جَسَدِنَا المَائِت”. حياة الرّسول على شفير الموت، لا بَل في “جبّ” الموت!! “فَالموتُ يَعْمَلُ فينَا، والحَيَاةُ تَعْمَلُ فيكُم”.

هي رَقصة الحياة والموت، والغَلبة تكون على “الحافّة” على “الشّعرة” على “النّفس الأخير” على “فِلس الأرملة” على آخر غَبرة طحينٍ في “الميزر” (أرملة صَرفة صيدا) على آخر سمكتَين وكم رغيفٍ من الخبز (غذاء طفل) على أقدام الصّليب على الحدّ الفاصل بين الظّلمة وبُزوغ الفجر …

إنّنا “آنيةٌ من خزف”.. هذا الاعتراف هو انتصارٌ في حدّ ذاته فأجسادنا ضعيفةٌ، وهي مِن طينٍ لا تَصمد في الأزمات، تَنهار أثناء العواصف والمحن.

نَعيش كمَن يُصارع الرّيح: ضيق العَيْش يكاد يَسحقنا ولا يَستطيع، حيرةٌ قاتلةٌ تَعصف بِنا يأساً ولا تستطيع، نَبذٌ حادّ يكاد إهلاكنا ولا يَستطيع، اِضطهادٌ مريرٌ يكوي العِظام ولا يَستطيع، نُسلَّم دائماً للموت ولا نموت، في جسدنا المائت نحمِل بذور الحياة “فَالمَوْتُ يَعْمَلُ فينَا” لِتفنى “الأنا” ويحيا “الله” لِنموت “نحن” وتحييون أنتم “الحَيَاةُ تَعْمَلُ فيكُم”.

مَن يقبَل هذه المغامرة الخطيرة، مَن يَعِش الموت عن ذاته، مَن يَكُن مائتًا أمام الخطيئة، مَن يَغمر صليبَه ويمشِ دربَ الجلجلة تَظهر فيه حياةُ المسيح “نُسَلَّمُ دَوْمًا إِلى الموت، مِنْ أَجْلِ يَسُوع، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا في جَسَدِنَا المائِت”.

تلك هي الطّريق، مِن الصّلب إلى القيامة حينِها يَصل الإنسان إلى مِلء قامة المسيح ويُنشِد مع بولس “مع المسيح صُلِبتُ، فأحيا لا أنا، بَل المسيح يحيا فيَّ” (غلاطية 20:2).

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp