محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،

لِمَ وجود جماعة روحيّة تصلّي من أجل الرّاقدين؟

إنَّ الكنيسة تُصلّي على نيّة الرّاقدين في ليتورجيّتها، فلا يخلو قدّاسٌ من ذِكر الراقدين، إضافةً إلى وجود تذكارات كنسيّة خاصّة بالموتى. وهنا السؤال يُطرَح: ما أهميّة وجودِ جماعةٍ تُصلّي للراقدين كجماعة “أذكرني في ملكوتك”، إن كانت الكنيسة تَذكُرهم في ليتورجيّتها؟ بكلام آخر، ما هي فعاليّة رسالة الصّلاة من أجل الراقدين، في نفوس المؤمنين الأحياء؟ أي رسالة جماعة “أذكرني في ملكوتك”.

إنّ الإنسان، هو كائنٌ اجتماعيٌّ، أي أنّه لا يستطيع العيش وحيدًا، إنّما مع آخرين. إنّ كلمة “مُجتمع” تدلّ على وجود أكثر من إنسانٍ واحد معًا. وهنا يُطرَح السؤال: ما هي الأُسُس الّتي تُبنى عليها الجماعة الموحدّة والمترابطة، والّتي تجعل من هؤلاء البشر الّذين يعيشون مع بعضهم البعض جماعةً واحدة؟ إنّ كلَّ جماعةٍ تُبنى على أساسَين مُهمَّين، هما: الذِّكرى والذِّكر. إنّ كلّ جماعة تتمتّع بتاريخٍ خاصٍّ بها، مِن صناعتها، وهي، أي الجماعة، تتذكَّره باستمرار فَتَذْكُرُه كلّما اجتمعت لتُذكِّر أعضاءها به. إنّ المجتمع اللّبنانيّ، يتذكّر تاريخه في يوم الاستقلال، إذ تمتلئ كلّ وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ بالأغاني الوطنيّة وبشعاراتٍ تُعبّر عن فرحة هذا المجتمع بحصوله على الاستقلال. إنّ ذاكرة الجماعة تدعم استمراريّتها، إذ إنّه حين ينتمي الإنسان إلى جماعةٍ معيّنة، فإنّه يتبنّى تاريخها، ويُصبح جزءًا منه، لذا يتوجّب عليه أن ينقل هذا التاريخ لأبنائه لضمان استمراريّة ذاكرة تلك الجماعة.

إنّ كلمة “ليتورجيّا”، هي كلمة يونانيّة مؤلّفة مِن كلمتين: “litos” وتعني شعب، و”ergon” تعني عمل، وبالتّالي تكون “اللّيتورجيا”، عمل الشَّعب. لم تظهر كلمة “ليتورجيّا” مع نشأة الكنيسة، بل كانت موجودة منذ القديم، أي منذ أيّام الامبراطوريّة الرومانيّة. تُشير كلمة “ليتورجيا”، إلى اجتماع مجلس الشُّيوخ، ممثِّل الشَّعب، مع القيصر لاتِّخاذ قراراتٍ حاسمة، تخصّ كلّ أبناء هذه الامبراطوريّة، ويبدأ هذا الاجتماع بعد ذِكر أحد الحاضرين لتاريخ الامبراطوريّة، فيتذكّر المجتمعون أنّهم جماعةٌ واحدة، وأنّ عليهم اتِّخاذ القرارات المناسبة لتعاظم الامبراطوريّة وبُنيانها واستمرارها. وهذا ما يحدث تمامًا خلال الاحتفال اللّيتورجيّ الكنسيّ، إذ يحضر المؤمِنون مِن كلِّ صوبٍ، ويجتمعون في الكنيسة، فيتذكّرون في القسم الأوّل مِن احتفالهم عملَ الله في تاريخهم البشريّ منذ بداية البشريّة أي مع آدم وحوّاء، وصولاً إلى الأنبياء وأخيرًا إلى الربّ يسوع الّذي جاء إلى أرضِنا ومات وصُلب من أجل خلاصِنا، ويُعلِنون أنّهم جماعةٌ واحدة تنتمي إلى شعب الله من خلال تلاوتهم دستور الإيمان، فيتمكّنون في القسم الثاني من طلب حلول الرّوح القدس على القرابين ليُحوِّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. إذًا، إنّ جماعة المؤمِنين الحاضرة في الكنيسة تتذكّر في كلّ احتفال ليتورجيّ تاريخ الخلاص وتَذْكُره، مُعلنةً محبّتها لبعضها البعض وإيمانها بالله. في القدّاس، لا يطلب كلُّ مؤمنٍ ما يريده من إلهه الخاصّ، إله تصوّراته؛ بل يطلب المؤمِن احتياجاته من الله، إله جميع الحاضرين، والربّ يُحقِّق له ما يمكنه تحقيقه.

إنّ تاريخ الكنيسة عبر الدُّهور، يُشهد عليها أنّها كانت تذكر الراقدين في صلاتها، وبالتّالي على الجماعة المؤمنة المحافظة على ذلك. ولكنّ السؤال الّذي يُطرَح هنا، هو: ما نفع صلاة الكنيسة من أجل الّذين ماتوا؟ إنَّ الكنيسة تَذكُر في صلاتها الراقدين لأنّها تؤمن بقول المسيح إنّ الّذين يموتون في الربّ هم أحياءٌ في ملكوته السماويّ. فالمسيح قد غلب الموت، وبالتّالي لم يعد الموت قادرًا على فصل الراقدين عن حضن الكنيسة، كنيسة المسيح. لذلك، أدخلت الكنيسة في ليتورجيّتها ذِكر الموتى، لتؤكِّد على وِحدَتها مع المنتقلين من بينها، وشراكتِها في الإيمان الواحد معهم، أي اشتراكها معهم في الذاكرة الواحدة. إنّ الراقدين يحضرون في كلّ احتفالٍ ليتورجيّ، ويشاركون الأحياء صلاتهم إلى الله، فهم يُشكِّلون مع الأحياء عائلةَ الآب الواحدة.

في عائلة الآب، المؤمن مسؤولٌ عن الجماعة، والجماعة مسؤولةٌ عن المؤمن، ولذا يُصلّي المؤمِن في هذه الأرض من أجل إخوته الراقدين، كما يُصلّي الراقدون من أجل إخوتهم في الأرض. ولكن عندما يتقاعس المؤمنون عن الصّلاة من أجل الراقدين، تظهر الحاجة إلى وجود مجموعة صغيرة من المؤمنين لتُذكّر إخوتها بعدم نسيان ذاكرة الكنيسة الّتي تعتمد الصّلاة من أجل الراقدين. إنّ تغاضِي المؤمنين عن الصّلاة لأمواتهم يشكِّل تشويهًا لصورة عائلة الآب الحقيقيّة، الّتي رسمها الآب لكنيسته. فكما أنّه، حين ينسى البعض عمل الرّحمة تجاه الفقراء، يبادر مؤمنٌ أو مجموعة صغيرة من المؤمنين، إلى مساعدة المحتاجين، فيشكِّل عملهم سبب يقظةٍ لباقي المؤمنين؛ كذلك حين ينسى المؤمنون الصّلاة من أجل الراقدين، يبادِرُ مؤمنٌ أو مجموعة من المؤمنين، إلى تذكير الآخرين بأهميّة ذلك، من خلال عملٍ روحيّ يقومون به، فيتذكّر المؤمنون ضرورة الصّلاة لإخوتهم المنتقلين من بينهم. هذه هي مواهب الرّوح القدس العاملة في الكنيسة، فبولس الرّسول يتكلّم عن هذه المواهب قائلاً إنّ الله خصّ كلّ مؤمنٍ بموهبة مختلفة عن أخيه الإنسان، ولذا على كلّ مؤمن أن يضع مواهبه في خدمة الجماعة. هذا ما تقوم به جماعة “أذكرني في ملكوتك”، إذ تضع موهبتها وهي الصّلاة من أجل الراقدين، في خدمة أبناء الكنيسة جمعاء.

إذًا، لا تُشكِّل الصَّلاة من أجل الراقدين ترفًا روحيًّا، بل هي مسؤوليّة وضعها الله على عاتق بعض المؤمنين، ليحملوا همَّ خلاص النّفوس على أكتافهم. فحين يُصلّي المؤمِن للّذين انتقلوا من هذه الأرض، فإنّه يقوم بإرجاع تلك النّفوس إلى صُلب اهتمامه، أي أنّه يعيد التواصل بين أبناء عائلة الآب الواحدة. إنّ الصلّاة من أجل الراقدين هي تعبيرُ حبٍّ من قِبَل الأحياء تجاه إخوتهم الراقدين، وهذا التعبير يجب أن يُصبح لا همَّ جماعة “أذكرني في ملكوتك” وحسب، بل همَّ المؤمنين أجمعين. وحين تُصبح “أذكرني في ملكوتك”، أي الصّلاة من أجل الراقدين، همًّا عند المؤمنين أجمعين، لا مانع وقتها من زوال تلك الجماعة، لأنّها جسرٌ اختاره الله، ليكون صِلَة الوصل بين أهل الأرض وأهل السّماء، وهذه الجماعة تُردِّد الآية المزموريّة القائلة:” لا لنا، لا لنا، يا ربّ لكنّ لاسمك نُعطي المجد”. إذًا، من الضروريّ أن يُصبح همّ “أذكرني في ملكوتك”، هَمَّ جميع المؤمنين، لكن ليس بالضرورة أن يُصبح جميع المؤمنين مُنتَمين لهذه الجماعة وأعضاءً فيها.

“أذكرني في ملكوتك” عبارةٌ تَلَّفَظَ بها إنسانٌ حيٌّ لا ميِّتٌ: فحين كان لصّ اليمين مُعلَّقًا على الصَّليب بالقرب من الربّ، سأله أن يذكُره في ملكوته، فاستجاب له الربّ. إنّ رغبة قلب هذا اللِّص هي عودته إلى الربّ قبل عودته إلى التُّراب. إنَّ عبارة “أذكرني في ملكوتك”، هي صلاة الأحياء قبل أن تكون صلاةً للأموات، إذ تشكِّل تعزيّةً روحيّة لكلّ مؤمن يريد العودة إلى الله قبل العودة إلى التُّراب. وفي هذا الصَّدد يقول الذهبيّ الفمّ، إن الصّلاة للراقدين تعود بالفائدة على الأحياء قبل الراقدين. إنّ أعضاء هذه الجماعة هم مؤمنون قد اختبروا محبّة الله، ولذا هم يشجِّعون إخوتهم الأحياء على اختبار محبّة الله من خلال حَثِّهم على الصّلاة للأموات.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp