محاضرة للأب ابراهيم سعد،
من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،
تأمّل في مسيرة الصوّم،
إنّ موضوعنا اليوم هو، الصّوم بحسب اللّيتورجيا الشرقيّة الأرثوذكسيّة، وسنتناول في حديثنا مسيرةَ الصّوم في هذه الكنيسة، مِن خلال شرحِ آحادِ الصّوم. إنَّ الاختلاف بين اللّيتورجيا الغربيّة واللّيتورجيا الشرقيّة، لا يُعبِّر عن تناقُض في ما بينهما إنّما يُعبِّر عن غنى كلّ ليتورجيا وتكامُلِها الواحدة مع الأخرى، وذلك في سبيل تقوية الإيمان عند المؤمنين، خاصّةً في هذا الزَّمن المبارَك.
ليس الصّومُ في الكنيسة فريضةً إنّما هو ترتيبٌ وتدبيرٌ في الكنيسة، نابعٌ مِن حالة يعيشها المؤمنون، ويُعبِّرون عنها بطُرقٍ مختلفة؛ والصّومُ هو إحدى وسائل التعبير. إنّ التّعبير عن هذه الحالة الإيمانيّة الّتي يعيشها المؤمِنون، ليسَ تعبيرًا جافًّا، إنّما هو تعبيرٌ مُتغيِّرٌ بحسب اختلاف الأزمنة الطقسيّة الكنسيّة. إنّ الصّوم قد تطوَّر عبر التّاريخ قَبلَ وصولِه إلى حالته النهائية الّـتي نعرفها اليوم: ففي البدء، كانت مدّة الصّوم الفِصحيّ لا تتعدّى الثلاثة أيّام، وقد تطوّرَت مَع الزّمن إلى أن أصبحت أسبوعًا واحدًا، ومع الوقت امتدَّت هذه المدّة لِتَصلِ إلى الأربعين يومًا؛ وقد أُضيفَ على هذا الصّوم الفصحيّ الأربعيني أصوامًا أخرى،كَصَوم الرّسل، وصوم الميلاد، وصوم السيّدة. إنّ الصّومَ هو ترتيبٌ تربويّ يهدف إلى مساعدة المؤمِن على ترويض ذاته، ولا نقصِدُ هنا بترويض الذات، ضبطَ المؤمِن لأهوائه، إذ على المؤمِن ضبطَ أهوائِه طيلة أيّام حياته لا في فترة الصّوم فقط.
إنّ الصّوم يُعبِّر عن حقيقة وِحدَة جسدِ المسيح السرّي، أي الكنيسة، وإنّنا لا نقصد بهذا الكلام وِحدَة الأشخاص الأقوياء في الكنيسة، إنّما وِحدَة الأشخاص الأقوياء مع أولئك الضُعفاء. إذًا، ليسَ الصّومُ تعبيرًا عن التزام المؤمِن بِرَبِّه إنّما هو تعبيرٌ عن التزامِه أمام الله بالآخر، أيًّا يكن هذا الآخر. إنّ الأزمة الّتي يعيشها المؤمِنون في الصّوم ناتجة عن اعتبارهم زمنَ الصّوم، زمنًا مخصّصًا لِضبطِ الأهواء وترويض النّفس. بهذا الاعتقاد الخاطئ للصّوم، يضع المؤمِنون حول الصّوم هالةً تُمكِّنهم مِنَ التباهي بالإنجازات الخاصّة الّتي يقومون بها، وتُعطِيهم صلاحيّةً لإدانة الآخرين. إنّ الصّومَ الأربعينيّ، يُعرَف أيضًا بِـ”صَوم الفِصِح”، لأنّ خاتمتَه هي الصَّلب والقيامة، أي الخلاص: إنّ الربّ يريد مَنْحَنا الخلاص في نهاية هذه المسيرة، إنّه يريدُ خلاصَنا من الموتِ الأبديّ وأن يَمنَحنا الملكوت السّماويّ. إنّ الربّ لم يحكم في حياته على أحدٍ مِنَ البَشر، وقَولُه إنّه جاء ليُخلِّص البشر لا ليُدينهم هو البرهان على ذلك، كما أنّ غفرانه لصالِبيه يُشكِّل برهانًا إضافيًّا إذ قال وهو مُعلَّقٌ على الصّليب: “اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يَفعَلون”. إنّ الربّ لم يُدِنْ أحدًا على الرّغم مِن امتلاكه هذا الحقّ كَونَهُ الله، وبالتّالي أراد القول إنّ الحصول على الخلاص لا يُعطينا الحقّ في إدانة الآخرين.
إنّ الوجهَ الوحيد للخلاص هو الله: فالله يَمنَح جميع البشر الخلاص، غير أنّ الإنسان قد يرفض خلاص الله له، فيَجعل نفسَه بعيدًا عن الله، وذلك من خلال مواقفه الحياتيّة العملانيّة. في اليوم الأخير، يجد الإنسان نفسَه قدّام الله أمام خياريْن، إمّا الحصول على الخلاص، وإمّا الدينونة الأخيرة، واختيار الإنسان في هذا اليوم يرتكز على موقفه مِن الله وعلى أعماله في هذه الأرض الفانية، فإن كان رافضًا لله نالَ الدينونة والعذاب الأبديّ، وإن كان عائشًا وِفق تعاليم الله، فإنَّ الخلاصَ سيكون نصيبَه الأخير. غالبًا ما ينطلق المؤمِن في مسيرة الصّوم صوب الصّلب والقيامة بِروح الإدانة، فَهوَ يُدين نفسَه على تراخيه وإهماله وكسله، إذ إنّ نور الربّ قد أضاء حياته وجَعَلَه يرى أخطاءَه الكثيرة، لكن على المؤمِن ألّا يتناسى أنّ رحمة الله عظيمة، وهي أكبر من خطاياه. إنّ الصّومَ هو مسيرة خلاصٍ لا دينونة، لذا على المؤمِن أن يَتقبَّل خلاص الله له، دونَ أن يُعطي نفسَه الحقَّ لإدانةِ ذاته، أو لإدانة الآخرين، إذ إنّ ذلك مَضيَعةٌ للوقت، ولا فائدة منه.
إنّ مسيرةَ الصّوم ترتكز على فرحِ القيامة. إنّ أحدَ مدخلِ الصّوم في الكنيسة الّتي تتّبع التقليد الشرقيّ الأرثوذكسيّ، يُسمّى بـ “أحد الغفران”، وفيه تقرأ الكنيسةُ نصًّا إنجيليًّا يدعو المؤمِنين إلى غفران أخطاء بعضهم البعض، على مثالِ غفرانِ الله لنا. إنّ أحدَ الغفران هو الأحد الّذي يَختِم أسبوعَ مرفعِ البَياض، مُعلنًا بدءَ الصّوم. في التقليد الشرقيّ الأرثوذكسيّ، هناك مَرْفَعين: مرفعُ اللّحم، ومرفعُ البَياض. في أسبوع مَرفع اللّحم، يَعمَدُ المؤمنون إلى تناولِ اللّحمِ بكثرةٍ في هذا الأسبوع، قبل أن يتمّ رَفعُه عن الموائد يوم الأحد، الّذي يتمّ فيه قراءة إنجيل الدينونة: “كنت جائعًا ومريضًا وسجينًا…”.
إنّ قراءة هذا الإنجيل في أحد مرفَع اللّحم مِن شأنِه أن يُحفِّزَ المؤمنين على الاهتمام بالآخر المحتاج خلال فترة الصّوم. إنّ الصّومَ يُصبح مصدرَ فرحٍ للمؤمِن، حين يغفر للآخرين زلّاتهم تجاهه، تعبيرًا عن فرحه بغفران الله له كلّ خطاياه، على الصّليب. إذًا، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، يتمّ دعوة المؤمنين إلى عيش الرّحمة والغفران لا إلى الدينونة، أي إلى عيش المسامحة والغفران وخدمة الآخر، مِن خلال الأناجيل الّتي تُقرأ على مسامِعهم في الذبيحة الإلهيّة، في الآحاد التحضيريّة للصّوم. الصّومُ هو دعوةٌ لكلّ مؤمنٍ كي يحوّلَ اهتمامه إلى الآخر لا إلى ذاتِه، ساعيًا إلى تلبية حاجات الآخر قدرَ المستطاع.
كُثُرٌ هم الأشخاص الّذي يُعلنونَ على وسائل التواصل الاجتماعيّ، انقطاعهم عنها في فترة الصّوم، ولكنّ انقطاعهم هذا يترافق مع شعورهم بالحسرة والألم والندم على ذلك. إخوتي، إنّ كانت وسائلُ التواصل الاجتماعيّ مفيدةً، فلا يجب الانقطاع عنها في فترة الصّوم، بل على العكس، علينا استخدامها في فترة الصوم كوسيلة للتبشير بالمسيح. أمّا إن كانت تلك الوسائل مُضرّةً للنَّفس، فيجب الانقطاع عنها لا في فترة الصّوم وحسب، إنّما في كلّ أيّام حياتنا. إنّ أبوابَ السّماء لن تُفتَح أمام المؤمنين جرّاء حرمان ذواتهم من بعض الأمور مع شعورهم بالألم نتيجة هذا الانقطاع. إنّ المؤمن لا يصوم من أجل انفتاحِ أبواب السّماء له، إنّما يصوم لأنّه في السّماء، أي أنّ صومَه لن يكون سببًا في اقتراب المؤمن من الله، إنّما الصّوم هو نتيجة قُربِ المؤمن مِن الله.
إنّ هدف الصّوم هو الاهتمام بالآخر، وثماره ستكون عظيمة إن أدّى اهتمام المؤمِن بالآخر إلى اهتمامه بِذاته. فاهتمام المؤمِن بالآخر هو إعطاء هذا الأخير حاجته. إنّ العطاء ينعكسُ فرحًا على قلب المحتاج،كما وأنّه سينعكس بعد ذلك فرحًا في قلب الـمُعطي. في بداية الصّوم، على المؤمِن أن يتّخذ قرارًا بالسّعي إلى زرع الفرح في قلوب الآخرين، وذلك تعبيرًا عن فرحِه بغفران الربّ له على الصّليب، ليتمكّن في نهاية الصّوم من الوصول إلى فرح القيامة. ليس الصّوم زمنَ عبوس وَحُزنٍ وإماتاتٍ جسديّة مؤلِمة، إنّما هو زمنُ فرحٍ بغفران الربّ لنا. إنّ الصّوم ليس فترة انقطاع عن الآخرين من أجل تقوية العلاقة مع الله، بل إنّه فترة لإعادة التواصل مع الآخرين، والسّعي لتلبية حاجاتهم. في الصّوم، لا يجب الانقطاع عن الطّعام لأنّه سيّئ وغير مفيد، أو بسبب تعلُّق المؤمِن به، بل على المؤمِن الانقطاع عن الطّعام في سبيل تحويل هذا الطّعام إلى آخرَ قد حرَمَتْهُ الظُّروف المعيشيّة من الحصول عليه. ليسَ الصّومُ تدريبًا بوذيًا للنَّفس، ولا تأمُّلاً تجاوزيًّا.
إنّ الصّوم عند سائر الدّيانات، يُكبِّل الإنسان ويَفرِضُ عليه بعض الالتزامات، أمّا الصّومُ عند المسيحيّين، فهو عبارة عن فترةٍ يعيشها المؤمِن تساعده على التَحرُّر مِن كلِّ القيود الّـتي تُكبِّله وتَمنَعُه من الوصول إلى الحريّة. لا يستطيع المؤمِن الوصول إلى الحريّة الحقيقيّة إلاّ إذ ارتبط بالآخرين المحتاجين، وهذا الارتباط سيُحرِّره من كلّ القيود دون أيّ مجهودٍ منه. إنّ المؤمِن الّذي يعيش الحريّة الحقيقيّة لا يمتنع عن الطّعام في الصّوم والحسرةُ تملأ قلبَهُ، إنّما يمتنع عنه رغبةً منه في تقديم هذا الطّعام لِآخرَ يحتاجه، وبالتّالي فإنّ هذا الانقطاع يُشعِر الصائم بالفرح لا بالكآبة والحسرة. إنّ انقطاع المؤمِن عن الطّعام لا يتحوّلُ إلى فضيلةٍ إلّا عندما يُقدِّم هذا الطّعام إلى الـمُحتاج. إنّ الصّومَ الحقيقيّ ليس فترةَ انقطاعٍ عن العالم للتواصل مع الله، عبر تقديم السّجود والصّلوات له، بل إنّ الصّوم الحقيقيّ هو ذلك الصّوم الّذي يُعاش مع الآخر المحتاج والـمُهَمَّش الّذي يَضَعه الله أمامك، طالبًا منك مساعدته. إنّ الله يدعونا في زمن الصّوم إلى عبادته في الآخر المتروك والمهمشّ، وإلى تحويل كلّ تقدِّماتنا له إلى الآخر، وإلى طلب الغفران منه لأنّ الله يسكن فيه.
إنّ الكنيسة تَمنح المؤمنُ الحريّةَ الكاملة في التزام الصّوم أو عدمه، إذ إنّها تؤمِن بحريّة الإنسان الّتي تَجعلُه يتَحمَّلُ مسؤوليّة قراراته. فالحريّة هي تَحرُّر الإنسان من شيءٍ معيّن لارتباطه بأمرٍ آخر أكثر أهميّة بالنسبة له. إنّ أهمّ ارتباطٍ في الحياة هو الارتباط بالحُبّ، ولذا يَشعُر الإنسان بالحريّة إثر ارتباطه بالآخرين، نتيجة حبِّه لهم. إنّ الحبّ هو الارتباط الّذي يجعل المؤمِن يشعر بالحريّة غير أنّ الحبّ هو عبوديّة طوعيّة للمحبوب. لا يستطيع الإنسان أن يُجبر الآخر على الحبّ أو الكراهيّة، فهذه المشاعر تنبع مِن داخل الإنسان وتُعبِّر عن حريّته. إنّ البعض يعتقدون أنّ الصّوم هو زمن عيش المؤمِن لبرنامجٍ خاصّ بهذه الفترة الطقسيّة الخاصّة. إخوتي، إنّ هذا الاعتقاد خاطئٌ، فالصّوم هو زمن اللّابرنامج، إنّه زمن الحريّة الحقّة. على كلّ مؤمِن أن يُدرِك سببَ التزامه بالصّوم، أو عدم التزامه به: فالصّوم لا يكون من أجل ضبط الأهواء إنّما من أجل إشباع حاجة الآخر المحتاج. إنّ عدمَ الالتزام بالصّوم لا يكون نتيجة استخفاف المؤمِن بعادات الصّوم وتقاليده بحجّة أنّ الصّوم لا يكون عن الطّعام بل عن الخطايا، وصوم اللّسان، بل يكون تعبيرًا عن رغبة المؤمِن في التحرّر من كلّ القيود الّـتي تُكبِّله، مع الالتزام بِمَدّ يد العون لكلِّ محتاجٍ مهما كانت حاجته.
على الصّائم ألّا ينظرَ إلى غير الصّائم نظرة إدانة، كما أنّه على غير الصّائم ألّا ينظر للصائم نظرة استخفاف واحتقار لممارساته الدينيّة. إنّ الفرق كبير بين “الّذي يصوم كي” وبين “الّذي يصوم لأنّ”: إنّ المؤمِن لا يصوم كي يحصل على السّماء، بل يصوم لأنّه في السّماء. إنّ المؤمِن الصائم الّذي يَعطشُ مثلاً، يستطيع أن يشرب الماء حتّى قبل أن يحين موعد الفطور، لأنّه من الأفضَل له عدم إضاعة الوقت في صراعه مع ذاته حول إمكانيّة الشرب قبل موعد الفطور، وتكريس هذا الوقت للآخر المحتاج إلى خدمة أو مساعدة. إنّ الصّائم الّذي يلبيّ إحدى الدّعوات إلى الغداء أو العشاء، عليه أن يتناول مِن الطّعام الّذي يُقدَّم له، لأنّ في عدم تناوله من الطّعام جرحًا لمحبّة الآخرين له، أصحاب الدّعوة. علينا ألّا نكون أسرى الصّوم، فالمحبّة هي أقوى من الصّوم، لكنّ هذا الكلام لا يعني عدم الصّوم، كما أنّه لا يعني الإفراط في المآكل، إذ على المؤمِن التحلّي بنعمة التمييز، كما عليه السّعي لعيش الشفافيّة في حياته، لأنّ في ذلك انعكاسًا وشهادةً لمصداقيّته في عيشه للإيمان.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.