محاضرة للأب ابراهيم سعد،
من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،
هل يمكن للصّلاة أن تُغيّر الواقع؟
إنّنا، كمؤمنين، نصلّي قبل اتِّخاذ القرارات في حياتنا، طالبين مِنَ الربّ أن يدلّنا على الاختيار السليم. ولكنّ السؤال هو: كيف لنا أن نُدرِك إن كانت اختياراتنا، وبخاصّة تلك الّـتي نتَّخذها في حياتنا اليوميّة، تتوافق مع مشيئة الله أم لا؟
إنّ البعض يقولون لنا، عندما نُعاني من الشَّدائد: هذا هو واقع الحياة وعلينا تقبُّلَه كما هو، ويشكِّكون في قدرة الصّلاة على تغيير الواقع. وهنا السؤال، يُطرَح من جديد: هل تستطيع الصّلاة حقًّا أن تُغيِّر الواقع الّذي نعيش فيه؟
إنّ الإنسان هو كائنٌ حرٌّ، أي أنّه يتمتّع بالحريّة الكاملة لاتِّخاذ القرارات الّتي يراها مناسبة لحياته الخاصّة. ولأنّ الإنسان حرٌّ، فهو مسؤول إذًا، عن نتائج قراراته، أسلبيّة كانت أم إيجابيّة. إنّ تَحمُّل الإنسان مسؤوليّة قراراته لا يجب أن يدفعه إلى عدم اتِّخاذ القرارات في حياته، إذ “إنَّ الدّنيا لا تستطيع أن تُعلِّم الإنسان إلّا إذا علَّمت فيه”، أي أنّ الإنسان لا يَنضُج إلّا مِن خلال قراراته الخاطئة، وتَحَمُّله لنتائجها الّـتي تعلِّمه دروسًا لمدى الحياة.
إنّ الإنسان لا يتَّخذ قراراته بطريقةٍ اعتباطيّة بل بطريقةٍ واعية مُستَندًا على الـمُعطيات المتوفِّرة لديه، ومستندًا على فَهمِه لرضى الله عليه. لذا على الإنسان التحلّي بالشَّجاعة واتِّخاذ القرارات حتّى ولو كانت تقديراته خاطئة، لأنّه من الأفضل له اتِّخاذ قراراتٍ خاطئة على البقاء في مكانه وعدم اتِّخاده لأيّ قرارٍ في حياته. فمثلاً، حين صَنَع الإنسان طيّارةً، تَوَقَّع حدوث أعطالٍ فيها واضطراره إلى اصلاحها، وإلى معاكسة الرِّياح لمسار الطائرة في الجوّ. ولكن يجدر بنا الإشارة إلى أنّ الإنسان ليس مسؤولاً عن تَحَطُّم الطائرة النَّاتج عن هبوب الرِّياح بشكلٍ مفاجئ، وكذلك لا يمكننا أن ننسبَ ذلك إلى الله، فَمِثل تلك الكوارث قد تحدث في أيّ مكان وأيِّ زمان، مهما تنوعَّت الصناعات ومهما اختلفت قرارات الإنسان.
إنّ اتِّخاذ الإنسان بعض القرارات اليوميّة في حياته قد يبدو أسهل من اتِّخاذه قراراتٍ مصيريّة كاختيار شريك لمدى الحياة، أو اتِّخاذه قرارًا بتغيير وظيفةٍ وسواها من القرارات. إنّ الله لا يتدخّل في قرارات الإنسان، فالله قد وَهَب الإنسان عقلاً كي يُفكِّر في الأمور الحياتيّة ويتَّخذ القرار الأَمْثَل بالنسبة له. على الإنسان أن يُشبِّع عقلَه مِن كلمة الله الّتي تمنحه القوّة وبُعد الرؤية، وبالتّالي تساعده على اتِّخاذ القرار الأكثر توافُقًا مع مشيئة الله. لا يمكننا أن نُنكِر وجود ظروفٍ خارجةٍ عن إرادة الإنسان، تُعاكسه وتعرقل مسيرته في هذه الحياة. فمثلاً، قد يتَّخذ الإنسان قراراً بتوسيع نطاق عمله، ولكنّه يُفاجَأ بأوضاع البلاد الطارئة على المستوى الأمنيّ والاقتصاديّ، فيتراجع عن قراره الّذي اتَّخذه، فيشعر إثرَ ذلك بالفشل. في هذه الحالة إخوتي، علينا الاعتراف بأنّ فَشلَ الإنسان في مِثل هكذا قراراتٍ، لا يعود لا إلى الله ولا إلى الإنسان بحدِّ ذاته، بل يعود إلى الظّروف الّتي عاكست الإنسان وحالَت دون نجاحه في تنفيذ ما يصبو إليه.
عندما يواجه الإنسان في حياته صعوباتٍ لا حلَّ لها، يَنصَحُه البعض بِتَقبُّل الواقع لأنّه لا قدرة له على تَغييره؛ غير أنّ الإنسان يرفض تقبُّل ذلك الواقع الجديد، فيلجأ إلى الصّلاة مُعتقدًا أنّها ستُخلِّصه من هذا الواقع الأليم. إنّ الصّلاة إخوتي، ليست عملاً سحريًّا، فهي غير قادرة على تحويل الواقع إلى ما يتلاءم مع رغبات المؤمنين، ولا هي قادرة على تغيير سلوك البشر وتحويلهم فجأة من أشرار إلى صالحين. إنّ الصّلاة تدفع الإنسان إلى تغيير سلوكه، ليُصبح أكثر توافقًا مع مشيئة الله، كما أنّها تنوِّر عقله فتُعطيه نظرة شموليّة للأمور المحيطة به، وتُلهِمه على اتِّخاذ القرارات الصائبة.
إنّ الربّ يسوع يُوبِّخ المؤمنين به لأنّهم يهتمّون بالأمور الزائلة الأرضيّة أكثر من اهتمامهم بالأمور الروحيّة الباقية، قائلاً لهم: “أُطلبوا أوَّلاً ملكوته وبرَّه، وكلّ شيءٍ يُزادُ لكم” (متّى6: 33)، ويدعوهم إلى التشبُّه بزنابق الحقل وطيور السّماء، الّتي يرزقها الله حاجتها من دون قيامها بأيّ مجهودٍ. إنّ انشغال الإنسان بالأمور الحياتيّة يخلق فيه شعورًا بالكآبة والإحباط، ويجعله إنسانًا جامدًا غير قادر على اتِّخاذ القرارات، بمعنى آخر، إنسانًا ميِّتًا في حين أنّه لا يزال حيًّا، وهنا تكمن الخطورة. إنّ الإنسان يستطيع أن يجابه ذلك الجمود من خلال توطيد علاقته بالربّ، إذ تزرع فيه روح الحياة، وتجعله إنسانًا قادرًا على تحدّي كلّ الصّعوبات ومواجهتها، وإحداث التغييرات في حياته. إنّ الصّلاة لا تستطيع أن تُغيِّر الإنسان، ولكنّها تمنحه قوّةً على التغيير، وتزرع فيه روحًا إيجابيّةً فينظر إلى الأمور المحيطة به بطريقة إيجابيّة. إنّ أخطر تجارب الشِّرير تكمن في زرع هذا الأخير روح السلبيّة في عقل الإنسان، فينظر إلى الأمور المحيطة به بطريقة سلبيّة. عندما يقع الإنسان في هذه التجربة، فإنّه عند أوّل صعوبةٍ تعترضه، يسعى إلى معرفة قيمته في نظر ذاته لا في نظر الله، فيطرح السؤال: ما قيمتي؟ ما نفع وجودي في هذه الحياة؟
إنَّ الإنسان يُصاب بالكآبة والإحباط، حين يُدرِك صورته في نظر ذاته، أمّا حين يُدرِك صورته الحقيقيّة في عينيّ الله، فإنّه سيتخطّى فشله ويسعى إلى الأمام. إنّ الإنسان يُنمّي في داخله الرّوح الإيجابيّة من خلال الصّلاة، وقراءته لكلمة الله والتأمّل فيها، ومطالعته الكُتُب الروحيّة، إذ تَحثُّه على مواجهة صعوباته الحياتيّة والعمل على تغيير الواقع قدر المستطاع. إنّ الصّلاة تساعد الإنسان على تقبُّل واقعه وعدم الوقوع في اليأس، إن لم يتغيّر الواقع المحيط به.
على الإنسان السَّعي إلى تغيير واقعه الّذي لا يرغب فيه، ولكن في حال فَشَلِه في ذلك، عليه ألّا يسمح لتلك الأوضاع بأن تؤثِّر عليه فتُغيِّره من الدّاخل، وتنقله من حالة الرّجاء إلى حالة اليأس والإحباط. لكلِّ مشكلةٍ حلٌّ، ولكن الحلّ لا يكمن بالضرورة بزوال المشكلة، إنّما بمحاولة الإنسان تجاوُزها؛ وبالتّالي على الإنسان ألّا يسمح للمشاكل الّـتي تعترضه في حياته بأن تُعرقِل مسيرته صوب الله. وإليكم مثلاً من حياتي الخاصّة: جرّاء الصّعوبات الّتي أتعرَّض لها في حياتي الكهنوتيّة، قرّرت اعتزال إحياء السَّهرات الإنجيليّة. غير أنّ حضور أحد الشباب إلى إحدى السَّهرات الإنجيليّة وَتَذَمُّره من الأوضاع التّي يعيشها في حياته اليوميّة، جعلني أُعيد النَّظر في قراري والتّراجع عنه، لأنّني شعرت في تلك اللّحظة بقيمة العمل الّذي أقوم به، إذ لَـمَستُ حاجة ذلك الشاب إلى سماع كلمة الله الـمُحيية، فقرّرت الاستمرار في إعلان كلمة الله للآخرين. إنّ كلمة الله قادرةٌ على إحداث تغييرٍ في حياة الإنسان الّذي يسمعها ويتفاعل معها، إذ تدفعه إلى رؤية الأمور المحيطة به بروح إيجابيّة، وتقتل فيه كلَّ مَيْلٍ لليأس.
مِنَ الطبيعيّ أن يضطرب المؤمن ويقلق، أمام الصُّعوبات الّتي تواجهه، ولكن مِن غير الطبيعيّ، استسلامه لتلك الصُّعوبات متجاهلاً إمكانيّته على تغيير الأوضاع الّـتي يعيشها، من خلال الصّلاة ومعاشرته لكلمة الله. إنّ يسوع هو خير مثالٍ لنا في حياتنا، فهو لم يستسلم لليأس ولشعوره بالفشل حين وجد نفسه وحيدًا يوم حُكِمَ عليه بالموت، بل تسلَّح بكلمة الله، وكان يردِّدها باستمرارٍ مِن أعلى صليبه، فدخل الملكوت مُنتصرًا بقيامته من بين الأموات. لم يستسلم الربّ يسوع لمطالب اليهود حين طلبوا منه النُّزول عن الصَّليب، بل أكمل مسيرته الخلاصيّة للبشر إذ إنَّ هدفه هو خلاص البشر لا البحث عن مملكة أرضيّة له. إنّ الإنسان الّذي يستسلم لليأس يُصبح ألعوبةً في يدِ الشِّرير. إنّ الإنسان يعيش في صراعٍ يوميّ وشبه دائم، يقوم على مواجهته لصعوبات الحياة بالتفاؤل والرّجاء، حين يُدرِك قيمته في نظر الله، بدلاً من الاستسلام لليأس والإحباط، حين يرى قيمة نفسه في نظره وفي نظر البشر. إنّ نظرة الإنسان إلى ذاته، أمام الفشل، تدفعه إلى الاستسلام لليأس والإحباط، إذ يشعر أنّ لا قيمة له، ولا أمل لديه في تغيير الأوضاع الّتي يُعاني منها؛ كما أنّ نظرة النّاس إليه تدفعه إلى الانغماس أكثر فأكثر في تلك الحالة، إذ يلقون الضوء على إخفاقاته. فمثلاً لو تراجعتُ عن إعلان كلمة الله، لما شكّل ذلك مشكلةً للبعض، إذ يُدركون أنّ البشارة لا تتوقّف على شخصٍ معيَّن، فالربّ قادرٌ أن يصنع مِنَ الحجارة أبناءً لإبراهيم؛ غير أنّ غيرتي الرسوليّة مَنَعَتْني مِنَ التوقّف عن إعلان كلمة الله للمؤمنين لأنّي أشعر بمسؤوليّتي في المساهمة في زرع الإيمان في النّفوس.
من هنا، نلاحظ أهميّة علاقة المؤمن بالله، فهي تجعله يُدرِك قيمته في نظر الله لا في نظر البشر، فيعرِف أهميّة العمل الّذي يقوم به. إنّ علاقة المؤمن بالله، لا تتوقّف عند تمتمة الصّلوات، بل تقودنا إلى التعمُّق أكثر فأكثر في معنى الكلمات الّـتي نُردِّدها في الصّلوات. هذا ما نكتشفه بعد كلّ محاضرة روحيّة، إذ نلمس تغييرًا في ذهنيّات الحاضرين نتيجة تعمُّقهم بكلمة الله، وهذا ما عبّر عنه أيضًا النبيّ حزقيال في سِفره، حين قال إنّ كلمة الله قادرة على إحياء العظام الميِّتة.
في ظلّ الأزمات، على المؤمن عدم الاستسلام، بل عليه تجنيد كلّ طاقاته لحلّ الوضع غير المرغوب به، فيقوم بكلّ المبادرات الممكنة، متسلِّحًا بالرّجاء أنّ هناك أملاً للتغيير. إنَّ فتور الهِمّة عند المؤمن، تؤكِّد تَخلِّيه عن روح الإيجابيّة الّتي تنبع من معاشرته لكلمة الله، وتنعكس سلبًا على المحيطين به، إذ ينقل إليهم روح اليأس والإحباط لا روح الرّجاء والفرح. هذا ما يُسمّى بِتَبادل الطاقات، إذ إنّ كلّ إنسان يتمتّع بطاقةٍ إيجابيّة وأخرى سلبيّة: فإن تغلّبت الطاقة الإيجابيّة فيه على الطاقة السلبيّة، أصبح إنسانًا إيجابيًّا ينقل إلى الآخرين روح الأمل والرّجاء والفرح؛ أمّا إذا تغلّبت عليه الطاقة السلبيّة، أصبح إنسانًا ينقل إلى الآخرين روح اليأس والفشل والإحباط. يستطيع الإنسان طلب المعونة من الآخرين، لمساعدته في حلِّ مشكلته إن لم يتمكّن من حلِّها بمفرده، بعد استنفاذ كلّ طاقاته. قد يكتشف الإنسان صِغَر مشكلته حين يتكلّم فيها مع آخرٍ، كما قد يُدرك عظمتها، فيتساعد مع أخيه الإنسان لإيجاد حلٍّ لها.
على الإنسان ألا يتمادى في عيش حالة الحزن الناتجة عن خيبةِ أملٍ في الماضي، أو عن خوفٍ من المستقبل، لأنّ الماضي قد مضى، ولم يعد موجودًا، والمستقبل لم يحِن وقته بعد، ونحن نعيش في الحاضر الّذي يمرّ كالبرق، الّذي ما إن نعيشه حتّى يُصبح من الماضي. إخوتي، إنّ الإنسان لا يعيش في الحاضر، بل هو يعيش اللّحظة الحاضرة فقط، الّتي ما إن يعيشها حتّى تُصبح من الماضي القريب، فالحياة هي عبارة عن “حاضرٍ متوالٍ” لا ماضٍ متراكم، ومستقبلٍ قادمٍ إلينا بمفاجآته منها محزنة وأُخرى مُفرِحة. إنّ الحاضر هو هديّة من الربّ فلنحاول الاستفادة من لحظاته، ولنعِشها بفرح، فتمنحنا الحيويّة والقوّة اللازمتان لمواجهة الصُّعوبات القادمة، فالمستقبل قد يحوي على صعوباتٍ وتحدّيات أكبر وأقوى. لذا، فلنتحلّى بروح الإيجابيّة، ولنزرعها في نفوس الآخرين، فيشعر الآخرين من خلالنا بنفحاتِ الرّوح المسكوبة فينا نتيجة معاشرتِنا لكلمة الله.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.