محاضرة للخوري جان بول شربل،
من أبرشيّة صيدا المارونيّة، منشِّئ في الإكليركيّة البطريركيّة المارونيّة في غزير.
“وهكَذا سرَى الـمَوتُ إِلى جَميع النّاس لأَنَّهُم جَميعًا خَطِئوا…” (رو 5: 12 – 17)
بِاسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
في بدايةِ لقائِنا، نَسألُ اللهَ أن يُرسِلَ إلينا روحَه القدُّوس لِمَعونَتِنا، فنَتَقرَّبَ مِن كلمَتِه المقدَّسةِ الّتي تَعضُدُ ضُعفَنا، أي عَدمَ قُدرتِنا على الإحاطةِ بها بِكُلِّ أبعادِها؛ ونَستَنيرَ بها فَنَزرعَها في قلوبِ الآخَرين مِن خلالِ تَبشيرِهم بها. كما نَطلبُ شفاعةَ العذراءِ مَريم وجَميعِ القدِّيسِين، وخصوصًا القدِّيسِ بولس الّذي نتأمَّلُ اليومَ في نَصٍّ مِن كِتابَتِه.
مساءَ الخَير لَكُم جميعًا. أَشكرُ هذه الجماعةَ، – الّتي تَعرَّفتُ إليها مؤخَّرًا -، على دعوتِها لي اليوم لمشارَكَتِكُم في هذا اللِّقاء. باركَ اللهُ رسالتَكُم، أنتم العِلمانيِّين الّذينَ تَعمَلون على نَشرِ كَلِمةِ اللهِ في هذا العالَم؛ فَدَوْرُكُم اليومَ في الكَنيسة، هو أكثرُ فَعاليّةً مِن دَورِ الـمُكرَّسِين.
النصّ الإنجيليّ:
“فكَما أَنَّ الخَطيئَةَ دَخَلَتْ في العالَمِ عَن يَدِ إِنسانٍ واحِد، وبِالخَطيئَةِ دَخَلَ الـمَوت، وهٰكذا سَرى الـمَوتُ إِلى جَميعِ النَّاسِ لِأَنَّهُم جَميعًا خَطِئوا… فالخَطيئَةُ كانَت في العالَمِ إِلى عَهْدِ الشَّريعة، ومَع أَنَّه لا تُحسَبُ خَطيئَةٌ على فاعِلِها إِذا لم تَكُنْ هُناكَ شَريعة، فقَد سادَ الـمَوتُ مِن عَهْدِ آدَمَ إِلى عَهْدِ موسى، سادَ حتَّى الَّذينَ لم يَرتَكِبوا خَطيئَةً تُشبِهُ مَعصِيَةَ آدم، وهو صُورَةٌ لِلَّذي سيَأتي. ولٰكِن لَيسَتِ الهِبَةُ كَمِثْلِ الزَّلَّة: فإِذا كانَت جَماعَةُ النَّاسِ قد ماتَت بِزَلَّةِ إِنسانٍ واحِد، فبِالأَوْلى أَن تَفيضَ على جَماعَةِ النَّاسِ نِعمَةُ اللهِ والعَطاءُ المَمْنوحُ بِنِعمَةِ إِنسانٍ واحِد، أَلا وهو يسوعُ المسيح. ولَيسَتِ الهِبَةُ كَمِثْلِ ما جَرَّت مِنَ العَواقِبِ خَطيئَةُ إِنسانٍ واحِد. فالحُكْمُ على أَثَرِ خَطيئَةِ إِنسانٍ واحِدٍ أَفْضى إِلى الإِدانة، والهِبَةُ على أَثَرِ زَلَّاتٍ كَثيرةٍ أَفضَت إِلى التَّبْرير. فإِذا كانَ المَوتُ بِزَلَّةِ إِنسانٍ واحِد قد سادَ عن يَدِ إِنسانٍ واحِد، فما أَحْرى أُولٰئِكَ الَّذينَ تَلَقَّوا فَيضَ النِّعمَةِ وهِبَةَ البِرِّ أَن يَسودوا بالحَياةِ بيَسوعَ المسيحِ وَحدَه”.
التأمّل في النّص الإنجيليّ:
إخوتي، إنَّ بعضَ النُّصوصِ مِن رسائلِ مار بولس تَبدو، للوَهلةِ الأولى، صَعبةً للفَهم، خصوصًا أنَّها تُقرأ في اللِّيتورجيّةِ المقدَّسة، ممّا يَجعلُ المؤمِنُ غيرَ مُعتادٍ عليها، وبالتَّالي غيرَ قادرٍ، في الكثيرِ من الأحيانِ، على اكتِشافِ الكُنوزِ الموجودةِ فيها. إخوتي، لم تَعرفِ الأرضُ شَخصًا قادرًا على فَهمِ حقيقةِ عَمَلِ المسيحِ مِن أجل المؤمِنِين وفَهمِ جَوهرِ الـمَسيحيَّةِ، أفضَلَ مِن بولسَ الرَّسول. يُخبرُنا القدِّيسُ بولس، في رسالتِه إلى أهلِ أفسُس، أنّه اختارَ المسيحَ إلهًا له، وأنّ سِرَّ المسيحِ قد انكشَفَ له بِنَعمةٍ مِن الله. وهنا نَسألُ، ما هو المقصود بِعبارةِ “سِرّ”؟ إنَّ المقصودَ هنا بِعبارة “سِرّ” هو التَّدبيرُ الخلاصيّ الّذي أعَدَّهُ اللهُ للإنسان. في الكثيرِ من الأحيانِ، نَعجزُ عن فَهم ما قامَ به المسيحُ لأجلِنا، كما نَعجزُ عن فَهمِ عَمَلِ الرُّوحِ القدسِ في حياتِنا، عندَ قُبولِنا لله. إذا أدَركْنا هويّتَنا الحقيقيّة، أي ما معنى أن نَكونَ مسيحيِّين حقيقيِّين، – وأنا لا أقولُ ذلِكَ عن تَكَبُّرٍ، لا قَدَّرَ الله -، فإنَّنا سَنُبادِرُ إلى عَيشِ التَّواضعِ أكثَرَ وإلى الانطلاقِ نَحوَ الآخَرِ لِخدمَتِه، فنتمَكَّنُ من إيصالِ البِشارةِ الحقيقيّةِ له. إذا فَهِمْنا فِعلاً ما معنى أنّ الربَّ قد تَجسَّدَ مِن أجلِنا، وتَألَّمَ وماتَ وقامَ وصَعِدَ إلى السَّماء، فإنّه، – كما قالَ لي يومًا أحدُ الـمُرشِدين-، إمَّا أن نُصابَ بالجنونِ أو نَموتَ؛ وإنْ لم نُصَب بِشَيءٍ مِنهما، فهذا يعني أنّنا لم نَتَمكَّنْ بَعدُ مِن فَهمِ عَمَلِ المسيحِ الخلاصيّ. إنطلاقًا مِن هذا الكلامِ، نَستطيعُ أن نَفهَمَ سَببَ “جُنونِ” مار شربل بالله،- والجُنونُ هنا هو مِن النَّاحيةِ الإيجابيّةِ لا السَّلبيّة- ؛ وأن نَعرِفَ سَببَ تَقديمِ القدِّيسةِ تريزيا دو كالكوتا حياتَها للمَسيح، وأن نعرِف سبَبَ غَرَقِ القدِّيسةِ تريزيا الأفيليّة في حُبِّ المسيح. ومِن خلالِ حياةِ القدِّيسِين، نَستطيعُ أن نَكتَشِفَ الفَرقَ بَينَنا وبَينهُم، فَهُم تمكَّنوا من فَهمِ عظمةِ محبَّةِ اللهِ لهم وللبَشريّةِ جمعاء، فآمَنوا بالمسيحِ حَقيقةً. إخوتي، بعدَ خِبرَتي مع المسيحِ في حَياتي الكهنوتيّة، – الّتي أَصبحَ لها مِن العُمرِ ستَّ عشرةَ سنةً-، أستطيعُ أن أقولَ لَكُم إنّني أكتَشفُ يومًا بعد يومٍ عَظمةَ هذا الإلهِ الّذي أُؤمِنُ به، وأن أُعلِنَ لكم أنّ يسوعَ هو الحقيقةُ الوَحيدةُ في هذا العالَم، وهذا ما يؤكِّدُ عليه أيضًا بولسُ الرَّسولُ في رسالتِه إلى أهلِ رومة.
إنّ رسالةَ بولسَ الرَّسولِ إلى أهلِ روما تَعكسُ قِمَّةَ نُضوجِه الرُّوحيّ: فهذه الرِّسالةُ كَتَبَها بولسُ حوالي سنة 57 أو 58 ميلاديّة، أي أثناءَ رحلَتِه التَّبشيريَّةِ الثَّالثة. إنّ هذه الرِّسالةَ تَختَلِفُ عن سائرِ الرَّسائلِ الّتي كَتَبَها بولس، أمثالَ الرِّسالةِ إلى أهلِ تسالونيقي أو أهلِ غلاطية أو أهلِ كورنثوس: فالرِّسالةُ إلى أهلِ روما تَنقلُ إلينا العَقيدةَ المسيحيّةَ المبنيّةَ على الاختبارِ الرُّوحيّ لِبُولسَ الرَّسولِ مع المسيحِ يسوع؛ في حينِ أنّ الرَّسائلَ الأُخرى كُتِبَت بِهَدَفِ حلِّ مشاكلَ داخلَ البيئةِ المسيحيّةِ الّتي بَشَّرها بولس، كحَوادثِ الزِّنى أو الانقساماتِ بين المؤمِنِين، فكان يُرسِلُ إلَيهم تِلكَ الرَّسائلَ ليُشجِّعَهُم على عَيشِ الطَّهارةِ في الحالةِ الأُولى، وعلى عَيشِ المحبَّةِ في الحالةِ الثَّانية. إنّ التَّعابيرَ الّتي استعملَها بولسُ الرَّسولُ في رسالتِه إلى أهلِ روما، تَبدو صَعبةً للفَهمِ بالنِّسبةِ إلى المؤمِنِ، ولكن إذا تمكَّنَ هذا الأخيرُ مِن الإمساكِ بشريطِ الحَبكةِ لِهذه الرِّسالةِ، فإنَّه سيَتَمكَّنُ مِن فَهمِ العُمقِ الرُّوحي لها. إخوتي، كان بولسُ الرَّسول يَنوي زيارةَ روما، ولكنْ لأَسبابٍ نَجهَلُها، تمَّ تأجيلُ هذه الرِّحلة، ممّا دَفعَه إلى كِتابةِ هذه الرِّسالةِ إلَيهم، فَتمكَّنَّا مِن مَعرفةِ ما أرادَ قَولَه لهم شفهيًّا.
“فكَما أَنَّ الخَطيئَةَ دَخَلَتْ في العالَمِ عَن يَدِ إِنسانٍ واحِد، وبِالخَطيئَةِ دَخَلَ الـمَوت، وهٰكذا سَرى الـمَوتُ إِلى جَميعِ النَّاسِ لِأَنَّهُم جَميعًا خَطِئوا…”: في هذا النَّصِّ مِن رسالتِه إلى أهلِ روما، يُخبِرُنا بولسُ الرَّسول أنَّ البشريّةَ كانت تَعيشُ منذُ نشأتِها في الخطيئةِ، لأنَّها لم تَكُنْ تَعرفُ الله. وهنا نَطرحُ السُّؤال: ما هو مفهومُ الخطيئةِ، بالنِّسبةِ إلى بولس؟ إخوتي، بالطَّبعِ، إنَّ بولسَ الرَّسولَ لا يَقصِدُ هنا بِعبارةِ “الخطيئة”، الخَطايا المتعارَفَ عليها كالسَّرقةِ والزِّنى والقَتلِ وسِواها، بل ما يَقصِدُه بولسُ بِهَذه العِبارة هو الخطيئةُ الأصليَّةُ، إذ أضافَ “أل” التَّعريف إلى عبارةِ “خطيئة”، قائلاً “الخطيئة”. مِن خلالِ كلامِه عن الخطيئةِ، يُذكِّرُنا القدِّيسُ بولسُ بِسِفرِ التَّكوينِ الّذي يُخبِرُنا عن سقوطِ آدمَ في الخطيئة. إنّ الخطيئةَ الأصليّةَ هي، بِكُلِّ بساطةٍ، تَنصيبُ الإنسانِ ذاتَه مكانَ الله، طالبًا من اللهِ التَّنَحيَ جانبًا ليَتمكَّنَ هو، أي الإنسانُ، مِن التَّحكُّمِ بِكُلَّ ما خَلَقَه اللهُ له.
إنّ اللُّغةَ العِبريّةَ تُشبِهُ إلى حدٍّ بَعيدٍ اللَّهجةَ اللُّبنانيّة: فالفِعل “عَرف” في اللَّهجةِ اللُّبنانيّة، يَعني “عَلِم”، أي “قرَّر”؛ فَمَثلاً: حين تَطلبُ الأمُّ من ابنِها أن يَترُكَ كلَّ وسائلِ اللَّهو الَّتي يستَخدمُها للانكبابِ على الدَّرسِ تَحضيرًا لامتحاناتِه، يُبادِرُها الطِّفلُ قائلاً إنّه “يَعرفُ” ما عليه القيامُ به، وهذا يعني أنّه يَعلَمُ متى يَحينُ الوقتُ للبَدءِ بالدَّرس، بمعنى آخَر هو الّذي يُقرِّرُ متى يَحينُ موعدُ الدَّرس. هذا ما يَقصدُهُ كاتبُ سِفرِ التَّكوينِ بِعبارةِ “معرفة الخير والشَّر” (تك 2: 9).
عندما وَضعَ الإنسانُ اللهَ جانبًا، وبدأ يأخذُ القراراتِ وَحدَه، “اصطَدَم بالحائط”، أي أنَّه وقَعَ في الخطيئة، إذ اعتبرَ نفسَه قادرًا على التَّمييزِ ما بينَ الخَير ِوالشَّرِ، وهذا الأمرُ هو غيرُ صَحيحٍ إطلاقًا، إذ ما قد يراهُ إنسانٌ خيَرًا بالنِّسبةِ إليه، قد يراه آخَرُ شرًّا، والعكسُ صَحيح. إخوتي، في هذا الإطارِ، على الإنسانِ أن يُدرِك أنّه مَخلوقٌ محدودٌ في الزَّمانِ والمكانِ، وهو بالتَّالي غيرُ قادرٍ على رؤيةِ الأمورِ بِشَكلٍ شاملٍ، ولذا هو يَحتاجُ إلى مَن يُساعِدُه في ذلك، لذلك عليه التَّحلِّي بالتّواضعِ والطَّلبُ إلى اللهِ مساعدتَهُ، لأنّ اللهَ هو الوحيدُ القادرُ على رؤيةِ الأمورِ بِشَكلٍ شامِلٍ وصحيحٍ، فَهو الـمَرجعُ الإلهيّ الوحيدُ للإنسان. إنّ الله هو الوحيدُ القادرُ على مساعدةِ الإنسانِ في مَعرفةِ ما إذا كان الطَّريقُ الّذي يَسلُكه يَقودُ إلى الحياةِ الأبديّةِ أَمْ إلى الهلاكِ الأبديّ.
أُنظُروا إلى العائلاتِ الّتي تَبكي بِسَببِ الشَّبيبةِ الّتي تَسيرُ في طريقِ الهلاك، لأنّ هذه الأخيرةَ تَرفضُ الانْصِياعَ لأيِّ تَوجيهٍ يُعطى لها، طالبةً من أهلِها التَّنَحيَ جانبًا والسَّماحَ لها بِتَكوين خِبرَتِها الخاصّةِ في هذه الحياة، متَّخذَّةً القراراتِ الّتي تُرضيها. للأسف، يَعتَبِرُ قِسمًا مِن الشَّبيبةِ النَّصائحَ الّتي تُقدَّمُ له تَقييدًا لحُريَّتِه، في حين أنَّها “دَرابْزِينٌ” له، أي أنّها تُشكِّل سَنَدًا له تُساعِدُه في السَّير في الطَّريقِ الّذي يَقودُ إلى الحياةِ، فلا يَقَع. إنّ الّذي يَصعدُ السُّلَّم، أي الدَّرجَ، يَتمسَّكُ بالحافَّة كي لا يَقعَ، فالحافّةُ لا تُقيِّدُ حركةَ الإنسانِ بل تُساعِدُه على صعودِ الدَّرجِ أو نُزولِه بِكُلِّ أمانٍ. إخوتي، إنّ الحياةَ ليسَتْ سَهلةً بل صَعبةٌ، إذ تُقدِّمُ للإنسانِ أمورًا كثيرةً تَحثُّه على تَجربَتِها، ولكن لَيسَ كلُّ شَيءٍ نافعًا للإنسانِ، لذا عليه أن يَختارَ الأمورَ الّتي تَقودُه إلى الحياة، وهو بالتَّالي لَيس مُجبَرًا على تَجربةِ كُلِّ ما تُقدِّمُه له الحياة. إنّ الإنسانَ لَيسَ مَصنوعًا مِن أجلِ عَيشِ اللَّذّةِ فقط، لذا عندما يَعيشُها بِشَكلٍ مُفرِطٍ، يَتحوَّلُ إلى أحمقَ ومَجنونٍ. في رسالتِه إلى أهل روما، يُخبِرُنا القدِّيسُ بولس عمَّا فَعَلَتْه الخطيئةُ بالإنسان، إذ أبعَدَتْه عن اللهِ أوًّلا، فتمَكَّنتْ من دَفعِه إلى السَّيرِ في طريقِ الهلاك، مِن خلالِ قيامِه بأمورٍ لا تُرضي اللهَ، قائلاً لنا: “وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا اللهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لا يَلِيقُ. مَمْلُوئِينَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَزِناً وَشَرٍّ وَطَمَعٍ وَخُبْثٍ مَشْحُونِينَ حَسَداً وَقَتْلاً وَخِصَاماً وَمَكْراً وَسُوءاً. نَمَّامِينَ مُفْتَرِينَ مُبْغِضِينَ لِلَّهِ ثَالِبِينَ مُتَعَظِّمِينَ مُدَّعِينَ مُبْتَدِعِينَ شُرُوراً غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ. بِلاَ فَهْمٍ وَلاَ عَهْدٍ وَلاَ حُنُوٍّ وَلاَ رِضىً وَلاَ رَحْمَةٍ”(رومة 1: 28-30). حين يَستَسلمُ الإنسانُ إلى رغباتِه، فإنّه وَلا شكَّ سيَقومُ بما يَعجُز العَقلُ البَشريّ عن تَصوُّرِه.
إخوتي، إنَّ أكثرَ خلائقِ اللهِ أذيّةً للآخَرين هو الإنسان، وإلَيكُم مِثالاً يؤكِّدُ لكم ما أَقول: إذا قُمتُم يومًا بِزيارةِ إلى الغابة، فإنَّكم ستُلاحِظون أنَّ الأسدَ الجائعَ يَترَّبصُ لإيجادِ فَريسةٍ تُشبعُ حاجتَه إلى الطَّعام، فإذا وَجَدَها انقَضَّ عليها والتَهمَها، ومتى انتهى من أكلِها، فإنّه لن يعودَ يلتَفِتُ إلى أيّ حيوانٍ آخَرَ في الغابةِ ليَكونَ فَريسةً له، لأنّه سَدَّ حاجتَه إلى الطَّعام. أمّا إذا أرادَ الإنسانُ الحصولَ على التَّسليّةِ في هذا العالَم، فإنّه لن يتوقَّفَ عن ذلك، حتَّى وإنْ نالَ كميّةً تَفوقُ حاجاتِه؛ بعبارةٍ أُخرى إنَّ الإنسانَ مُستَعِدٌّ، لا لأنّ يَقتُلَ حيوانًا واحدًا في الغابةِ وحَسب، بل هو مُستَعدٌّ لأن يَحرِقَ الغابةَ كُلَّها مِن أجلِ الحصولِ على التَّسليةِ الّتي يَطلُبُها ولن يَكتفي. إخوتي، في داخلِ كلِّ إنسانٍ كميَّةُ شَرٍّ لا تُوصَفُ، وعلى الرُّغمِ مِن كُلِّ ذلك، يَقومُ الإنسانُ بِلَوم اللهِ على كلِّ ما يَتعرَّضُ له مِن شرورٍ في حياتِه. إنّ ما يَحدثُ في الحَربِ الدَّائرةِ في وَطنِنا هو خيرُ دليلٍ على ذلك: إذ نُشاهِدُ على التِّلفاز مُدُنًا كاملةً تُدمَّرُ بِكَبسةِ زِرٍّ واحدة. فهل يَستطيعُ العَقلُ البَشريُّ أن يَقبلَ أنّ اللهَ يُميِّزُ بين المتحارِبين؟! مَن الّذي أعطى الإنسانَ الحقَّ في وَضعِ حدٍّ لحياةِ أخيه الإنسان؟! إخوتي، إنّ الله الّذي خَلَقَكَ هو نفسُه الّذي خَلَق أخاكَ الّذي تُحارِبه. إخوتي، إنّ الحَرب الّتي نَعيشُها اليومَ تُلخِّصُ مسيرةَ الإنسانيّةِ الخاطئة، الّتي طَلبتْ من اللهِ التَّنحيَ والسَّماحَ لها بإدارةِ هذا العالَمِ مِن دونِ اللُّجوءِ إليه.
في هذا النَّصِّ من الرِّسالةِ إلى أهلِ روما (رومة 1: 28-30)، يَقومُ بولسُ الرَّسولُ بِتَعدادِ بَعضِ الصِّفاتِ الــمُرعِبةِ النّاتجةِ عن انفصالِ الإنسانِ عن اللهِ، وهي حوالَي عِشرين صِفةً تقريبًا؛ وإلى هذه اللّائحةِ يُمكِنُنا إضافةُ العديدِ مِن الصِّفاتِ الّتي تَنتُجُ عن هذا الانفصال. إخوتي، في العهدِ القديمِ، يُخبرُنا سِفرُ التَّكوينِ أنّ الله طَلَبَ إلى آدمَ وحوَّاءَ ألا يأكُلا مِن شجرةِ مَعرفةِ الخيرِ والشَّرِّ، ليَقولَ لنا إنَّ دخولَ الخطيئةِ على حياةِ الإنسان يُشبِهُ دُخولَ قطعةِ الطَّعام إلى جِسمِه، فكما يَدخُلُ الطَّعامُ إلى داخلِ الإنسانِ فيُصبحُ جزءًا منه، كذلك الخطيئةُ تَدخُلُ إلى أعماقِ الإنسان وتُصبحُ جزءًا منه. مِن خلالِ هذه القصَّةِ الرَّمزيّةِ، أرادَ كاتبُ سِفرُ التَّكوينِ أن يَقولَ لنا إنّ الخطيئةَ تُفسِد كلَّ شيءٍ من دونِ استثناء، بَدءًا من الطَّعام.
إليكُم مِثالاً على ذلك، على الرُّغم مِن كَوني كاهنًا أُصلِّي يوميًّا وبلا انقطاع، فإنِّي أشتعِلُ غَضبًا حين أسمعُ كلمةَ سوءٍ تُقالُ عنِّي. وهنا نَطرحُ السُّؤال: مِن أين يأتي هذا الوَحشُ في داخِلنا؟ إنّه ناتجٌ عن انفصالِنا عن اللهِ بالخطيئة.
يُخبرُنا العهدُ القديمُ أنّ اللهَ حاولَ مساعدتَنا في التَّخلُّصِ مِن الخطيئةِ، مِن خلالِ الوصايا ومِن خلالِ الأنبياء؛ أمَّا في العهدِ الجديدِ، فَيُخبرُنا بولسُ الرَّسول أنّ الشَّريعةَ لم تَتمكَّنْ مِن تَخليصِ الإنسانِ مِن الخطيئةِ، وذَلِك لِسَبَبَين: الأوَّل، هو: أنّ بعضَ البَشرِ لم يعرِفوا الشَّريعةَ ولم يَسمعوا بها، فكانوا يَرتكِبون الخطايا وهُم غيرُ مُدركين ما يَفعَلون، لذا لم تَتمكَّنِ الشّريعةُ مِن تَخليصِهم؛ أمَّا الثّاني، فيَعودُ إلى أنّ الّذين عَرفوا الشَّريعةَ وسَمِعوا بها لم يتمكَّنوا مِن الالتزامِ بها. وإليكُم مِثالاً على ما أقول: حينَ يَقومُ الإنسانُ بِصُورةِ أشعةٍ لجزءٍ من جَسدِه للكَشفِ عن مَرضٍ معيّنٍ، فإنَّ آلةَ التَّصويرِ والتِّقنيَّ في التَّصويرِ، يَستطيعانِ تَشخيصَ مرَضِه، ولكنَّهما يَعجزانِ عن إعطائِه العِلاجَ الـمُناسِبَ لِمَرضِه، فالعلاجُ يَتطلَّبُ مُتابَعةً مِن المريضِ لِوَضعِه الصِّحيِّ مع الطَّبيبِ المختَّصِ والانصياعِ لإرشاداتِه. هكذا أيضًا هي حالُ الشَّريعةِ، إذ جاءتْ وكَشَفَتْ للإنسانِ أنّه يَعيشُ في الخطيئةِ أي أنّه لا يَسيرُ في الطَّريقِ الصَّحيحِ الّذي يَقودُ إلى الملكوت، طالبةً منه أن يَبحثَ بِنَفسِه عن الدَّواءِ لِخطيئتِهِ.
إخوتي، إنّ الإنسانَ الّذي يُعاني مِن الزِّنى أو القَتِل أو السَّرقةِ يَجدُ صعوبةً في التَّوقفِ عن ذلك بسهولةٍ، لا بل يزدادُ في ممارسةِ هذه التَّصرُّفاتِ الخاطئةِ، فالـمَثَلُ يَقولُ:”كلُّ ممنوعٍ مَرغوبٌ”. وهنا يُطرَحُ السُّؤالُ: ما هو الحَلُّ إذًا؟ في هذا الإطارِ، يُخبِرُنا بولسُ الرَّسولُ أنّه عانى مِن هذا الأمر، إذ قال: “مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟”(رو 7: 24)، ثمَّ يتابعُ حديثَه، فيَقولُ لنا إنّه حاولَ بِشتَّى الطُّرقِ التَّخلُّصَ مِن الخطيئةِ عِبر حِفظِ الشَّريعةِ وممارسَتِها، ولكنَّه لم يَفلحْ في التَّخلُّصِ منها لأنّ في داخلِه أمورًا صالحةً يَعجزُ عن القيامِ بها، لذا صَرَخَ قائلاً: “مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟”(رو 7: 24). عاش مار بولس طفولتَه في طرطوس، وكان مجتَمعُه يَتألَّفُ مِن قبائلَ تَعيشُ جَنبًا إلى جنبٍ، وكانَت إحدى تِلكَ القَبائلِ تَعمدُ إلى معاقبةِ القاتِلِ عَبر رَبطهِ بِجُثَّة المقتولِ ثُمَّ تَرمِيهِما معًا في بئرٍ عميقةٍ، فتَتَحلَّلُ جُثَّةُ المقتولِ وتتآكَلُ القاتِلَ الّذي لا يزالُ حيًّا. يُقالُ إنّ مار بولس قد رأى يومًا هذا المشهدَ فانطَبَع فيه، ولهذا قال: “مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟”(رو 7: 24). مِن خلالِ هذه العِبارة، يطلبُ بولسُ الرَّسولُ المساعدةَ من اللهِ كي يَتخلَّصَ من هذا الجَسدِ الّذي يَقودُه إلى الموتِ بِسَببِ الخطيئةِ، لأنّه لا يَستطيعُ ذلكَ وَحدَه. ثُمَّ يُضيفُ بولسُ الرَّسولُ صارخًا إلى اللهِ، صَرخةَ شُكرٍ للهِ قائلاً: “أَشْكُرُ اللهَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا! إِذاً أَنَا نَفْسِي بِذِهْنِي أَخْدِمُ نَامُوسَ اللهِ وَلَكِنْ بِالْجَسَدِ نَامُوسَ الْخَطِيئةِ” (رو7: 25).
إذًا، إخوتي، إنّ الكِتابَ المقدَّسَ يُنيرُ عَقلَ الإنسانِ ولكنَّه لا يَستطيعُ أن يَنتشِلَه مِن الخطيئةِ، إذ لا شيءَ يستطيعُ أن يُخلِّصَ الإنسانَ مِن ضُغفِه إلَّا علاقتُه بالربِّ يسوع، فهي الوحيدةُ القادرةُ على شِفائِهِ مِنَ الخطيئة. لقد تَجسَّدَ الربُّ في أرضِنا وأخذَ جسدًا مِثلَنا، وحَملَ كُلَّ ضُغفِنا، كي يُطهِّرَ هذه البشريّةَ من خطاياها، فيَتَمكَّنَ عندَها مِن إعطائِها روحَه القدُّوس. وفي هذا الإطارِ، يَقولُ لنا بولسُ الرَّسول إنّ اللهَ قد صارَ لَعنةً مِن أجلِنا، كي يُبرِّرَنا. إذًا، الحلُّ الوحيدُ للتَّخلُّصِ مِن خطيئتِنا هو أن نسمَحَ للهِ بأن يَسكُنَ فينا، فيَتمكَّنَ مِن تَطهيرِنا من الدَّاخلِ. إنّ الربَّ لا يُعطينا شَرائعَ طالبًا مِنّا الالتزامَ بها، بل يَطلُبُ مِنّا أن نُسكِنَه في قلوبِنا فيَتَمكَّنَ مِن مساعَدَتِنا على التَّخلُّصِ من كُلِّ الخطايا. أنا، كإنسانٍ، لا أستطيعُ أن أتوقَّفَ عن قَتلِ الآخَرين مِن دونِ مَعونةِ الله، إذ في جلسةِ قهوةٍ واحدةٍ، أستطيعُ أن أقتُلَ كلَّ سُكّانِ الحيِّ بِلساني. أنا،كإنسانٍ، لا أستطيعُ وحدي مِن دونِ اللهِ أن أتوقّفَ عن السَّرقةِ، فالسَّرقةُ لا تقتصرُ على سَلبِ الأمورِ الماديّةِ، إنّما تَشمَلُ اشتهائي لِمَا يملِكُه الآخَرون. مَن سيُطهِّرُ لي لِساني، ومَن سَيُغيِّرُ لي نظرتي إلى كُلِّ مَن حولي؟ مَن سيَجعلُني مُقتَنعًا بِما لديّ؟ وَحدَهُ رُوحُ اللهِ القدُّوسِ الموجودُ في داخلي قادرٌ على ذلك.
إخوتي، هذه هي المسيحيّةُ، باختصار. إنّ القدِّيسَ بولسَ يَقولُ لنا: “أنتُم الَّذينَ اعتَمدتُم بالمسيح، قد لَبِستُم المسيح” (غل 3: 27). إنْ لم نَلبَسِ المسيحَ، فلن نَجِدَ حلّاً لِمشاكِلِنا؛ لذلك، علينا إخوتي، أن نَسمحَ للرُّوحِ القُدسِ الموجودِ في داخِلِنا أن يَعمَل فينا. إنّ الرُّوحَ القدسَ وحدَه قادرٌ على أن يَجعلَنا نَحتَرِمُ الآخَرين ونُحبُّهم ونُقدِّسُهم. وبالتّالي، فإنّ كلَّ مُعتَقدٍ يَدفعُ النَّاسَ إلى قَتلِ بعضِهم البَعض هو لَيسَ مِن الله، فاللهُ غيَّر مجرى التَّاريخِ عندما تَجسَّدَ وَسَط شَعبِه وماتَ من أجل خلاصِ البَشريّة جمعاء. إنّ إلهًا لا يُشارِكُ البشريّةَ حياتَها، ويكتفي بإعطائِها الشَّرائعَ لتُمارِسَها على الأرضِ، ويَعيشُ بَعيدًا عنها أي في السَّماء، هو مَدعوٌّ للبقاءِ في سمائِه البَعيدةِ عن البَشر؛ كذلك الأمرُ بالنِّسبةِ إلى إلهٍ ضَعيفٍ لا يَعرِفُ كيف يُدافِعُ عن نَفسِهِ، ويَحتاجُ دائمًا إلى الإنسانِ كي يُدافِعَ عنه، هو أيضًا إلهٌ مرفوضٌ ومطلوبٌ منه البقاءُ في سمائهِ البَعيدةِ عن البشر. إخوتي، لا نَحتاجُ إلى مِثل تِلك الآلهةِ في حياتِنا، بل نَحتاجُ إلى إلهٍ قادرٍ على تَخليصِ الإنسانِ مِن ضُعفِه البشريّ، مِن خلالِ قَضائِه على الخطيئةِ والموت.
إذًا، لا خلاصَ لنا إلّا بِتَمسُّكِنا بيَسوعَ المسيح. مع المسيحِ يَسوعَ فقط، نَستطيعُ الوصولَ إلى الملكوتِ والحصولَ على الخلاصِ، لا بِفَضلِ أعمالِنا الصّالحةِ إنّما بِفضلِ دَمِه المسفوكِ على الصَّليبِ مِن أجلِنا. بِقَدرِ ما نُغرَمُ بالربِّ، بَقَدرِ ما نَسمحُ له بالتَّغلغُلِ أكثرَ في كيانِنا. إنَّ الربَّ يَتغلغَلُ في كيانِنا مِن خلالِ قراءتِنا للكتابِ المقدَّسِ، ومِن خلالِ مثابرَتِنا على تَناولِ القُربانِ المقدَّسِ، ومِن خلالِ جلوسِنا معه، فتُصبحُ أفكارُنا مشابهًةً لأفكارِ المسيح، كما يَقول لنا بُولس الرَّسول. إخوتي، أنا لا أحتمِلُ أن أُعمِّدَ طِفلاً، إن لَم يكن هناك مِن خلاصٍ لهذا الطَّفلِ بالربِّ يسوع. إنّ الإنسان يرتَكِبُ الخطيئةَ مِن خلالِ جَسدِه، لذا مِن الضَّروري أن يَتجسَّدَ اللهُ ويتَّخذَ جسدًا مِثلَ الإنسانِ، كي يتمكَّنِ مِن تَطهيرِ هذا الجسدِ البَشريّ، مِن خلالِ عَملِه الخلاصيّ. لقد تجسَّدَ الربُّ في ما بيننا آخذًا جَسدًا بشريًّا، وعندما صَعِد إلى السَّماء، صَعِد بجسدِه الممجَّدِ، لذلك أصبح بإمكانِ الإنسانِ أن يتناوَلَ جسَدَ الربِّ يسوعَ ودَمَه من دون أن يَموتَ، لأنَّ الربَّ قد قَدَّسَ هذا الجسَدَ ومَنحَه الخلاصَ.
إذًا، إخوتي، إنّ الحَلَّ الوحيدَ لِضُعفنا البشريّ، أي لوقوعِنا في الخطيئةِ، هو أن نَسمحَ للهِ أن يَتغلغلَ فينا، مِن خلالِ استقبالِنا لِرِوحه القدُّوسِ فينا، فنتمكَّنَ بِوَاسطتِه من أن نُصبحَ مُشابِهِين للمسيحِ يسوع.
إذًا، مِن خلالِ النَّصِ الّذي نتأمَّلُ به اليوم، أرادَ بولسُ الرَّسول أن يَقولَ لنا إنّه كما تمكَّنَتِ الخطيئةُ مِن الدُّخولِ إلى البشريّةِ مِن خلالِ آدمَ وحوَّاء، كذلك تَستطيعُ النِّعمةُ أن تَدخُلَ إلى البَشريّةِ مِن خلالِ يسوعَ المسيح. وَهُنا يَهمُّنا الإشارةُ إلى أنَّ الربَّ يسوعَ يمنَحُ خلاصَه لِكُلِّ البَشريّةِ مِن دونِ استثناءٍ، ولكنَّه لا يَفرِضُ ذاتَه على أحد. إذًا، القرارُ يعودُ للإنسانِ: إمّا أن يَقبَلَ مشروعَ اللهِ، ألا وهو عَمَلُ يسوعَ الخلاصيّ، فيُصبحَ ابنًا لله؛ وإمَّا أن يَرفُضَ هذا المشروعَ، فيَبقى في خطيئتِه. لقَد طَلَبَ المسيحُ يسوعُ مِن كلِّ مَن يؤمِنُ به أن يُناديَ اللهَ الآبَ “أبانا”، وبالتَّالي حينَ أتجرّأُّ على مناداةِ اللهِ الآبِ “أبي”، عليّ أن أسعى كي أكونَ فِعلاً ابنًا له، على صورةِ ابِنِه الوحيدِ يسوعَ المسيح، مِن خلالِ الاتِّحادِ به. حينَ أنتَقِلُ من هذا العالَمِ، سألتقي وَجهًا لِوَجه مع اللهِ، وهنا يجبُ أن يرى فيّ اللهُ الآبُ صورَةَ ابنِه يسوعَ الّتي نِلتُها يومَ معمودَّيتي، لا صُورتي القديمةَ الّتي كُنتُ عليها قَبل أن ألتقيَ بالمسيحِ يسوع. إنّ صورةَ المسيحِ الّتي زُرِعَتْ فيّ يومَ معموديّتي يجبُ أن تَنموَ فيّ، فأكونَ على مِثالِ القدِّيسِين الّذين تمكّنوا من الإمِّحاء مُظهِرينَ صورةَ يسوعَ المسيحِ فيهم لا صُورَتَهم الخاصَّة، فتمكَّنَ المؤمِنون من لقاءِ المسيحِ مِن خلالهم. إخوتي، حين تَزورون عنَّايا، تلاحظون أنَّ الحجارة في ذلك المكانِ، تَدفعُكم إلى الصّلاةِ، وهذا الأمرُ لا يعودُ إلى قوّةِ مار شربل إنّما إلى تَماهيهِ بالمسيحِ إلى درجةِ الذَّوبانِ به. هذه هي مُهمَّتي على هذه الأرض: أن أسعى إلى نموِّ صورةِ المسيح فيّ، مهما كانت وَظيفتي في هذا العالَم: طبيبًا أو مُهندِسًا، فلاّحًا أو عاملاً بسيطًا، أُمًّا أو أبًا،… حين أنجحُ في هذه الـمَهمّةِ أستطيعُ أن أدعوَ اللهَ “أبانا”.
إخوتي، ليس المطلوبُ منكم أن تتشَّبهوا بحياةِ مار شربل، فتتركوا مسؤوليّاتِكم في هذه الحياةِ لتَعيشوا حياةَ الزُّهدِ والنُّسكِ الّتي عاشَها مار شربل، بل المطلوبُ منكم أن تسعوا إلى القداسةِ أينما كُنتم، فتُتابِعوا حياتَكم في هذا المجتمعِ، وتَكسِبوا بأعمالِكم الأموالَ وتَصرفوها في سبيلِ خِدمةِ الآخَرين، وبطريقةٍ تُرضي الله. إنّ دعوةَ اللهِ لِمار شربل هي دعوةٌ خاصّة، ولكنْ لِكُلِّ واحدٍ منّا دعوةٌ في هذا العالَم. نحن مدعوّون إلى التَّماهي مع المسيح: فنَعيشُ العطاءَ بجذريّةٍ كَما عاشَه هو، وتُصبحُ أفكارُنا أفكارَ المسيح، ونظرتُنا إلى مَن حَولَنا نَظرةَ المسيحِ إليهم، وأُربيِّ أولادي، على سبيلِ المِثال، كما يرغبُ المسيح.
إخوتي، كي أتمكَّنَ من مشابهةِ المسيحِ، عليّ أن أسمَحَ له بالتّغلغُلِ في كياني. إنّ الشَّريعةَ تُساعدني في معرفةِ الطَّريق الّذي يقودني إلى الحياةِ، ولكنَّ المسيحَ هو الوحيدُ القادرُ على مَنحي الخلاصَ، إذا سَمحتُ له بالسُّكنى في داخِلي. “أنتم الّذين اعتمدتُم بالمسيح، قد لَبِستُم المسيح” (غل 3: 27)، وهذا يعني أنَّنا نُصبحُ هياكلَ للرُّوحِ القدس. عندما يُدرِكُ المؤمِنُ أنّه أصبحَ مَسكِنًا للثّالوثِ الأقدس، كما يَقولُ لنا بولسُ الرَّسولُ في رسالتِه إلى أهلِ رومة الإصحاح 8، فإنّه سيَتَغيَّرُ من الدَّاخل، أي ستَتَغيّرُ نَظرتُهُ إلى شريكِه في الحياةِ وإلى أولادِه، وإلى مُوظَّفِيه إذا كان صاحبَ عَملٍ، وإلى مُدرائِه إذا كان موظَّفًا بسيطًا. إنّ نَظرةَ المؤمِنِ ستَتَغيّرُ لأنّه سيَنظُرُ إلى كلِّ مَن حولَه على أنّهم صورةُ المسيحِ في هذا العالَم والّتي عليه أن ينمِّيَها في داخِله. هذا هو الحلُّ الوحيدُ لمجتمعِنا أن تنموَ صورةُ المسيحِ فينا وفي الآخَرين: فبِدونِ يسوعَ المسيح، لا سلامَ، مهما كَثُرَتِ المعاهدات. حين تنمو فينا صورةُ المسيحِ، فهذا يعني أنّنا أصبَحْنا على استعدادٍ لإعطاءِ ذواتِنا للقريبِ كما للعدوّ. إنّ السّلامَ في هذا العالَمِ يتحقَّقُ عندما يَسودُ مَنطِقُ المسيح.
إخوتي، إنّ مَنطِقَ المسيحِ ليس مَنطِقَ ضُعفٍ بل هو مَنطِقُ قوَّةٍ، إذ مِن السَّهلِ جدَّا على الإنسانِ أن يُسارِعَ من أجلِ الحصولِ على السِّلاحِ لمحاربةِ الآخَرِ به، ولكنَّ الأصعبَ هو أن يُعلِنَ المؤمِنُ غفرانَه لِكُلِّ مَن تعرَّضَ له بالأذيّةِ، ومسامحتَه لهم، لأنّه يَرغبُ في فَتحِ صفحةٍ جديدةٍ مع الآخَرين، مُعطيًا بذلك قيمةً للإنسان. هذا هو الرَّجلُ الّذي يحتاج إليه عالَمُنا: رَجُلٌ يُعلِنُ عن رغبَتِه في الصَّفحَ والغفرانِ عن الآخَرين، فتَتحقَّقُ فيه صورةُ المسيحِ الحقيقيّة.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.