محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،

إقامة لعازر وقيامة المسيح،

إنّ الأسبوع العظيم، الّذي يسبق عيد الفِصح، يبدأ بسبت لعازر لا باثنين الآلام. إنّ هذا الأسبوع هو عظيم لأنّه يبدأ بإقامة لعازر وينتهي بقيامة المسيح يسوع مِن بين الأموات. وأَوجُه الاختلاف عديدة بين إقامة لعازر وقيامة المسيح: ففي إقامة لعازر يَظهَرُ مجد الربّ وسلطانه على الموت. إنّ التّلاميذ الّذي اختبروا ورأوا عظمة المسيح وقدرته على إقامة الموتى في حادثة لعازر، لم يتمكّنوا مِنَ التغلّب على خوفهم مِنَ الموت، وكأنّهم لم يختبروا قوّة الله على الموت، لذا عانوا من الخيانة والشكّ والهروب عند اعتقال المسيح وموته على الصليب. إنّ إقامة لعازر من الموت تتَّسِمُ بنفحةٍ خاصّة إذ إنّ المسيح أقام لعازر في اليوم الرابع، أي بعد أن فَقَدَ أهلُه الأمل في عودته إلى الحياة إذ إنَّ جسد الميّت يبدأ بالتحلُّل في اليوم الرابع لوفاته. 

إنّ إقامة لعازر من الموت، تُشبه إلى حدّ كبير قيامة المسيح من الموت: فَفي إقامة لعازر، طلب المسيح مِن الحاضرين إزاحة الحجر عن باب القبر، ومِن ثمّ صرخ بالميّت طالبًا منه الخروج من القبر، وقد كان الميّت ملفوفًا بالأقمطة؛ أمّا في قيامة المسيح، فقد كان الحجر مُدحرجًا عن باب القبر، وقد وُضِعت الأقمطة جانبًا مرّتبة، حيث كان يرقد المسيح. في إقامة لعازر من الموت، نجد تأكيدًا لقول المسيح لتلاميذه: إنّ الّذين يسمعون صوت الربّ يحيَون، فلمّا سمع لعازر صوت المسيح يدعوه قائلاً: “يا لعازر هلّم خارجًا”، قام من القبر وخرج ملفوفًا بالأقمطة. من خلال هذه الحادثة، أراد الربّ أن يشرح لتلاميذه ما الّذي سيحدث في موته وقيامته، غير أنّ التّلاميذ لم يفهموا شيئًا لأنّ الخوف قد اعتراهم عند رؤيتهم لعازر قائمًا من رقاده.

في أحد الشعانين، دخل المسيح أورشليم، كما يدخل الملك المنتصر في الحرب إلى مدينته، فالأطفال والكبار استقبلوه حاملين أغصان النّخيل هاتفين له: هوشعنا، أي “يهوه هو مخلِّصنا”. إنّ الربّ قد منح الخلاص لشعبه بدخوله أورشليم، غير أنّ الخلاص في الفِكر اليهوديّ فهو خروج الشَّعب من أرض مِصر، أرض العبوديّة، وخلاصهم مِن يد فرعون وظلمه لهم، أمّا الخلاص الّذي يمنحه الربّ فهو نتيجة ظلم الشَّعب للمسيح حين دخل إلى أورشليم، فالمسيح قد مات نتيجة ظُلمِ أهل بيته له، ولكنّه بموته منحهم الخلاص. في دخول المسيح إلى أورشليم، تمّ الخروج الحقيقيّ، فالخروج الحقيقيّ لا يكون بانتقال المؤمن من مكانٍ إلى آخر، إنّما بانتقاله من حالةٍ إلى أخرى: من حالة الموت إلى حالة القيامة. في حادثة إقامة لعازر من الموت، أظهر المسيح قوَّتَه على الموت، غير أنّ لعازر عاد ومات في الجسد، وانتظر القيامة الأخيرة، أمّا قيامة المسيح من الموت فكانت القيامة الأخيرة: إنّها القيامة العامّة الّـتي تمّت قبل أوانها بشخص المسيح يسوع، كي يتمكّن المؤمنون مِن إدراك حقيقة مصيرهم بعد الموت، هم الّذين “أَمَّنوا وآمنوا، وكانوا أُمناء لكلمة الله”، فلا يعود الموت يُخيفهم، إذ إنّه لا يُشكِّل النّهاية. إنّ موت المؤمن لا يُشكِّل نهايته، إلّا إذا كان متمسِّكًا بقديمه، فالحياة الجديدة لا يمكن أن تبدأ مع المحافظة على القديم، وبالتّالي يجب أن يكون هناك نهاية لكلّ شيء قديم، كي تكون هناك بداية لحياة جديدة. 

إنّ حياة المؤمِن الجديدة تبدأ أوّلاً بإيمانه بالربّ يسوع، إذ عليه أن يترك عباداته القديمة، الّتي تؤدي به إلى الهلاك، وأن يقبل بالمسيح مُخلِّصًا وحيدًا له، فيقوم بمسيرة إيمانيّة معه، لا تنتهي إلاّ بالموت الجسديّ. إنّ نهاية الإنسان الجسديّة هي بداية لحياته الجديدة في الملكوت، مع الربّ يسوع القائم من الموت. إنّ قيامة المسيح مِن بين الأموات هي البرهان الأكيد على قيامة الأموات، إذ على حدّ قول الرّسول بولس، لو لم يقم المسيح، لما كان هناك من قيامة للأموات، ولكانت كرازتنا باطلة، فارغة من معناها. إذًا، في استعداده للأسبوع العظيم، يطرح المؤمِن على ذاته أسئلةً حول انتظاراته في هذا الأسبوع، واختباراته الّـتي يودّ عيشها.

في هذا الأسبوع، يقترب المؤمِن من آخِرته، أي من انتهاء زمنه الأرضيّ. فإن كانت قيامة المسيح هي الآخرة أي القيامة العامّة، فهذا يعني أنّ المؤمِن في هذا الأسبوع، يتذوّق طعم الآخرة وهو لا يزال في هذه الحياة الفانية. ولكن لا يمكن للمؤمِن اختبار الآخرة في العيد، ومِن ثمّ العودة إلى عاداته القديمة بعد انتهاء العيد، إذ يجب أن يحمل هذا العيد تغييرًا جذريًّا للمؤمِن، وهذا التغيير الجذريّ يكون على مستوى الفهم لعمل الله الخلاصيّ للبشر بحدّه الأدنى، وتغييرًا جذريًّا على السلوك بحدّه الأقصى. 

لقد قال أحد الفلاسفة، إنّ يسوع المسيح النّاصريّ هو آخر مسيحيّ على هذه الأرض، إذ لم يتمكّن هذا الفيلسوف مِن أن يجد مسيحيّين يُدِركون حقًّا رسالة المسيح ويحاولون عيشها ونقلَها بفرح إلى الآخرين. ويوافقه الرأي الفيلسوف الإلمانيّ “نيتشِه” الّذي عبّر عن الأمر نفسه قائلاً إنّ إله المسيحيّين مات ولم يقم، بدليل وجوه المسيحيّين العابسة الّتي لا تُعبِّر عن فرحهم بقيامة إلههم. في الآونة الأخيرة، نشهد أزمةً كبيرة يعاني منها المسيحيّيون إذ يجدون في إيمانهم مصدر تعبٍ لا مصدر فرح، فهم يشعرون أنّ الإنجيل يفرض عليهم متّطلبات حياتيّة يصعب عليهم عيشها، إذ يستطيع غير المؤمنين القيام بما يمنتع المؤمِن عن القيام به بسبب إيمانه، عندها يتحوَّل الإيمان المسيحيّ إلى عبءٍ ثقيل يُرمى على عاتق المؤمنين. إنّ المؤمن الّذي يقوم بما يجب الامتناع عنه حسب إيمانه، يشعر بضعفه البشريّ وبنقصِه، فيختبر عدم كماله، ممّا يدفعه إلى الشعور بالكآبة، الّتي تؤدي إلى الشكّ والقلق، وبالتّالي يتحوَّل إيمانه لا إلى مصدر فرح، بل على العكس مِن ذلك إلى مصدر لحزنه وكآبته، ويفقد المؤمِن أمانه الّذي يمنحه إيّاه إيمانه، ليتحوَّل إلى قلقٍ وخوفٍ من مصيره الأبديّ. إخوتي، إنّ المسيح قد قام، لذا لا داعي لكلّ هذا الخوف، والقلق.

إنّ الذبائح الّتي كانت تفرضها الشريعة على المؤمنين لم تكن كفيلة بأن تُطهِّر الإنسان وتجعله منَزَّهًا عن الوقوع في الخطيئة من جديد، لذا كان من الضروريّ أن يتجسَّد المسيح، لِيمنح المؤمنين به الخلاص الّذي وعد به الله البشر في العهد القديم. “ولـمّا تمّ ملء الزمان، أرسل الله ابنه”، تعني أنّ الله قد أرسَل ابنه إلى البشريّة حين وَجَدَتْ تلك الأخيرة أنّ لا فائدة لها من كلّ العبادات القديمة الّـتي تمسَّكت بها، إذ إنّها عاجزة عن منحها الخلاص. إذًا، تَجسَّدَ المسيح حين وصلت البشريّة إلى قمّة اليأس من قديمها، فمنحها الخلاص، الّذي كانت تنتظره. إنّ كلّ انتصارٍ أرضيّ قام به البشر، كان سببًا في توَهُّمهم أنّ فيه خلاصهم، غير أنّ الربّ أراد أن يقول لهم إنّ هذا الانتصار ما هو إلاّ بداية لعبوديّة جديدة لهم. إنّ أعمال الله لا يستطيع الإنسان أن يتوَقَّعها، إذ إنّ كلمة الله تحصر الإنسان فتضع له قوانينَ لا يجب أن يتخطّاها لأنّ في ذلك أذيّة له وللآخرين، ولكنّها لا تحصر الإنسان، لأنّ الله حرٌّ حتّى مِن كلمته. 

إنّ حريّة الله كاملة، لذا ارتضى بالعبوديّة الكاملة حبًّا بالإنسان فَتَجسَّد آخذًا صورة العبد. عندما رأى الإنسانُ اللهَ في صورة العبد الضعيف، سكب فيه كلّ ظلم خطيئته، فكان الصّلبُ عقابَ الله على خطايا البشر، ورَضيَ بهذا العقاب كي يعلّمنا الحبّ على الطريقة الإلهيّة. إنّ الله قد قَبِل عبوديّة الحبّ، فأوصَله حبّه إلى تحمُّلِ بُغضِ البشر له. لقد اعتقد الإنسان أنّ الشيطان قادرٌ على أن يغلب المسيح يسوع بالموت، غير أنّه كان مُخطئًا في ذلك: لقد استفاد الشيطان مِن ظلم الإنسان لربّه، فأدرك الموت يسوع، لكنّ الشيطان لم يتمكّن من قهر الله، إذ إنّ الله أَعلن القيامة العامّة قبْلَ أوانها بقيامة المسيح مِن بين الأموات. إنّ قيامة يسوع مِن بين الأموات هي دلالة على أنّ الفساد لا يمكنه أن يُدرِك عدم الفساد، ولا يستطيع البلاء أن يدرك ذاك الّذي لا يستطيع أن يطاله البلاء. إنّ قيامة المسيح مِن بين الأموات هي من أجل أن يُدرِك الإنسان أنّ الله هو المنتصر، وبِه وحده يكون الخلاص إذ لا يستطيع الفساد والموت أن يُدركاه، وبالتّالي نستطيع القول: أين غلبَتُك يا جحيم؟ وأين نصرُكَ يا موت؟ إنّ المسيح قد قام حقًّا.

إنّ الحياة ليست مرحلة يعيشها الإنسان بعد ولادته منتظرًا الموت، كما يعتقد البعض فيقولون هلُّموا نفرح في هذه الحياة، إذ إنّنا إلى الزوال صائرون حين يُدرِكنا الموت، ولنستفِد مِن ملاهي هذه الحياة، لأنّ في الآخرة لا وجود لهذه الملاهي. إن كنّا نعيش هذه الحياة ونحن ننتظر الموت، فإننّا سنعيش في حالةٍ رفضٍ للموت، ترافقها حالة من التّعلق المرضيّ بهذه الحياة الفانية، لذلك يصبح الإنسان أنانيًّا وطمّاعًا… إنّ أزمة الإنسان الّتي يُعاني منها نتيجة خوفه من الموت، انتهت بإقامة لعازر من الموت، وبإعلان المسيح القيامة العامّة بقيامته من الموت، فلا داعي بعد الآن للخوف من الموت، لأنّ المسيح قد انتصر على الموت ومنحنا بانتصاره الحياة الأبديّة في السّماء. إنّ المسيح بقيامته من بين الأموات جعل الآخرة حاضرة في عيون البشر منذ هذا الزّمان. 

إنّ ولادة المؤمن بالمسيح، أي بالمعموديّة، تجعله إنسانًا جديدًا ينتظر الموت الجسديّ في هذه الحياة لأنّه يترّجى القيامة والحياة الأبديّة في الملكوت مع الربّ. إذًا، لم تعد الحياة تنتهي بالموت الأرضيّ بل تتعدّاه لتشمل الحياة الأبديّة مِن خلال القيامة، وبالتّالي فقد أصبح المؤمن ينتظر موته في هذه الفانية بفرح، لا بحالة استسلام لها، وذلك لأنّ القيامة من الموت ستكون مِن نصيبه. إنّ حياة المؤمن تتغيَّر حين يُدرِك القيامة، إذ لا يعود يزْدَري هذه الحياة لأنّه إنسانٌ مائت، بل يزدريها لأنّها قد تُشكِّل له عائقًا يمنعه من رؤية قيامة المسيح. إنّ الصّوم هو مرحلةٌ يتذكَّر فيها الإنسان أنّه لا يجب أن يخاف من الموت، لأنّ المسيح قد انتصر عليه، ومنحنا القيامة. إنّ الصوّم هو فترة تساعد الإنسان على التآلف مع فكرة الموت إذ إنّ الصّوم يُشكِّل دعوة للإنسان كي يموت بطريقة يوميّة عن الأمور الدّنيويّة الزائلة. يبدأ المؤمِن، هذا الأسبوع العظيم، بعد أن كان شاهدًا لقدرة الله العظيمة على الموت من خلال إقامة لعازر، لذا يفرح المؤمِن ويُهلِّل للمسيح المنتصر على الموت، فيهتف قائلاً: “هوشعنا في الأعالي”. في العهد القديم، كانت الأعلام والبيارق تُرفَع عند عودة الملك من الحرب، لتُعلِن عن انتصاره في الحرب، كذلك رُفعِت أغضان النّخيل والزّيتون في أورشليم، حين دخلها المسيح، وبالتّالي فإنّ الشَّعب قد أَعلَن انتصار يسوع على الموت. في يوم الشعانين، لم يَعُدْ المسيح منتصرًا على الموت، بل إنّه في دخوله إلى أورشليم، دخل الحرب مع الموت، ففي دخوله إلى أورشليم بدأت مسيرة الآلام تمهيدًا لموته مصلوبًا. إنّ المؤمِن يحبّ دائمًا علامات الانتصار لذا رفع أغصان النّخيل يوم دخول المسيح إلى أورشليم، فعلامات النّصر هي رمز للحياة، وعلامات الانكسار هي رمز للموت. إنّ يوم الشعانين يبدأ بفرح الشعانين، وينتهي بإعلان بدء أسبوع الآلام.
إنّ أسبوع الآلام في الكنيسة الشرقيّة الأرثوذكسيّة، يبدأ مساء أحد الشعانين، بصلاة الخَتَن: “ها هوذا الخَتَن يأتي في نصف اللّيل، فطوبى للعبد الّذي يجده مستيقِظًا، وأمّا الّذي يجده متغافلاً فهو غير مستحقّ، فانظري يا نفسي ألاّ تستغرقي في النّوم، فيُغلَق عليكِ خارج الملكوت، بل كوني منتبهة صارخة: قدّوس قدّوس قدّوس.” إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تبدأ هذا الأسبوع بقراءة إنجيل التينة الّتي لا تُعطي ثمرًا، لتُذكِّر المؤمن بعدم الوقوع في الإحباط واليأس إن وجد نفسه لا فائدة منه مثل هذه التينة، لأنّ الربّ يدعوه في بداية هذا الأسبوع ليُشاركه في مسيرة آلامه.
وتقرأ الكنيسة في اليوم الثاني من أسبوع الآلام إنجيل العذارى العشر، هؤلاء العذارى الّلواتي كانت خمس منهنّ حكيمات، والخمس الأُخريات كُنَّ جاهلات. وفي قراءتها لهذا الإنجيل تدعونا الكنيسة الشرقيّة إلى الاستعداد لملاقاة الربّ إذ ما من أحدٍ منّا يستحقّ لقاء الربّ.
وفي اليوم الثالث من أسبوع الآلام، تقرأ الكنيسة الأرثوذكسيّة على مسامعنا نصّ خيانة يهوذا، الّذي باع سيّده بثلاثين من الفِضَّة، وسلّمه إلى الجنود بقبلة: “أبقبلة يا يهوذا، تُسلِّم ابن الإنسان؟”، ومن ثمّ ندِم على فِعلته هذه، فذهب وقتل نفسه شنقًا. إنّ يهوذا لم يفهم تعليم المسيح له، من خلال شهادته على إقامة يسوع للعازر، لذا عاقب نفسه على فعلته المشينة بقتل نفسه شنقًا. إنّ الكنيسة من خلال هذا النّص تريد أن تُخبِرنا أنّ شهادتنا على إقامة لعازر من الموت، ومشاركتنا في يوم الشعانين، غير كافيَيْن كي نشعر بأنّنا نمتاز عن الآخرين، فالمسيح يطلب منّا الانحناء وخدمة الآخرين، وغسل أرجلهم كي نستحقّ أن نكون الأكبر في ملكوت الله.

في اليوم الرابع من أسبوع الآلام، يدعونا المسيح إلى الانحناء وخدمة الآخرين وغسل أَرجُلِهم، كما فعل هو، ومن ثمّ يدعونا إلى مشاركته الوليمة. لقد أعطى المسيح جسده ودمه في يوم خميس الأسرار، ودعاهم إلى تكرير هذا الأمر في كلّ مرّة يجتمعون للصّلاة. إنّ الجسد هو دليل على الحضور، والدّم يرمز إلى الحياة، وبالتّالي فإنّ المسيح أعطى تلاميذه حضوره فيما بينهم، وأعطاهم كلّ حياته، لذا لا داعي للخوف متى شاهدوا الموتَ يضرِبُه. إخوتي، ما الّذي ينتظره التّلاميذ بعد من يسوع؟ لقد أقام لعازر، ودخل أورشليم منتصرًا على الموت، وغسل أرجل تلاميذه، وتناول الطّعام معهم، وأعطاهم حضوره وحياته، وعلى الرّغم من كلّ ذلك، لم يفهموا مغزى كلّ تلك الأعمال العظيمة الّـتي قام بها يسوع. إنّ بطرس بقيَ عديم الفهم لِمـا صنعَ يسوع في العشاء، فاعترض على المسيح عندما أراد غسل رِجليه، ولكنّه عاد وانصاع لرغبة المسيح، الّذي غسل له رِجلَيه كباقي الرّسل. إنّ الإنجيل يُخبرنا عن حماس بطرس، حين قال للمسيح إنّه لن يتركه أبدًا حتّى وإن تركه الآخرين، لكنّ المسيح هدّأ مِن حماسه حين أخبره أنّه سينكره ثلاث مرّات. 

وبالتّالي فإنّ المسيح يدعونا من خلال الكنيسة إلى عدم اليأس من ذواتنا، وعدم الشّعور بالإحباط إن وقعنا في التّجربة كما حدث مع بطرس الرّسول، فإنّنا جميعنا غير مستحقِّين لما فعله الربّ من أجلنا، غير أنّه يتوجّب علينا الاستعداد وقبول عمل الله الخلاصيّ لأجلنا. إنّ عظمة قيامة المسيح تكمن في أنّه منحنا الحياة الأبديّة على الرّغم من عدم استحقاقنا لها، إذ لا يستحقّ أحد من البشر أن يشارك الله وليمته في الملكوت، ولا أحدَ منّا يستحقّ موت المسيح لأجله. إذًا، لا يجب أن تقف خطايانا حاجزًا بيننا وبين المسيح فبطرس ويهوذا لم يكونا أفضل منّا حالاً، ولكنّ المسيح قام ومنحنا القيامة، على الرّغم من كلّ ذلك. إنّ بطرس قد أنكر المسيح خوفًا من الموت، ولكنّ المسيح منحه القيامة العامّة. إخوتي، إنّ ارتكاب خطيئة واحدة كفيلة بأن تدفعنا إلى ارتكاب المزيد، كما فعل بطرس، إذ إنّه أنكر المسيح ثلاث مرّات وعاد وحلف أنّه لا يعرف المسيح على الرّغم من إدراكه أنّ الحِلفان أمرٌ غير جائزٍ بحسب الوصايا.

إنّ يوحنّا الحبيب هو الشخص الوحيد بين الرّسل الّذي رافق المسيح إلى الصّليب. لم يذكر الإنجيليّ يوحنّا في سرده لقصّة الصلب اسمه بل قال عن نفسه إنّه التّلميذ الّذي أحبّه يسوع. وبالتّالي، فإنَّ مَن يبقى ويستمّر مع المسيح إلى النّهاية هو الحبيب، كائنًا مَن يكون. ولكنّ السؤال الّذي يُطرح هو: مَن بقي مع مَن: هل بقي يوحنّا الحبيب مع يسوع المصلوب، المتألِّم على الصّليب؛ أم أنّ يسوع هو الّذي بقي مع يوحنّا الوحيد؟ إنّ الإجابتين جائزتان. 

إذًا، الّذي بقي قرب المصلوب هو ذاك التّلميذ الّذي ألقى رأسه على صدر المسيح. ويقول القدِّيس أوريجانوس، ذلك المفكِّر واللّاهوتيّ الكبير إنّ يوحنّا قد أخذ كلّ لاهوته مِن هذا الإتّكاء على صدر المسيح، أي أنّه اخذ كلّ اللّاهوت مِن قلب المسيح، إذ إنّ الإنجيليّ يوحنّا قد اشتهر بلاهوته الّذي دوَّنه في إنجيله. فلا يجوز، إذًا، للمؤمن أن يُشارك في هذا الأسبوع العظيم وهو يتلهّى بخطاياه وخطايا الآخرين، أو برؤيته المضطربة إلى الدّنيا، لأنّ المسيح غير الـمُدرَك قد جعل الخلاص والقيامة حقًّا للمؤمن على الرّغم من كلّ خطاياه الفظيعة. لقد رافق سمعان القيرواني يسوع إلى الجلجلة، عِوَضًا عن سمعان بطرس الّذي أنكره. إنّ سمعان القيرواني هو مِن مدينة قيروان، أي أنّه من غير اليهود، أو من يهود الشَّتات. بعد حذف أحرف العلّة من كلمة “قيروان” في اللّغة اليونانيّة، يبقى لنا كلمة تعني الجمجمة ومعناها الجلجلثة، وبالتّالي فإنّ سمعان القيرواني هو الّذي وصل مع المسيح إلى درب الجلجلثة، حيث تمّ الصَلب. إنّ سمعان بطرس، تلميذ يسوع، قد هرب من الجلجلة ومِن حمل الصّليب؛ وسمعان القيرواني، ذاك الغريب عن أورشليم والشَّعب اليهوديّ، قد رافق المسيح إلى الجلجثة، وبالتّالي لا يستطيع أحد الوصول إلى الجلجثة إلّا إذا نظر إلى النّهاية وقَبِل بها.

إنّ “سمعان” هو الاسم اليهوديّ للقدِّيس بطرس، غير أنّ يسوع أعطاه اسمًا آخر وهو “الصّخرة” أي بطرس. وكذلك الأمر مع شاوول، إذ أعطاه الله اسم بولس. إنّ الاسم يعني الحياة، لذا عند معموديّة الإنسان، يُعطى طالب العماد اسمًا جديدًا للدلالة على ولادته الجديدة مع المسيح. إنّ الإنجيل يُعيد لبطرس اسمه القديم “سمعان”، بعد نكرانه للمسيح، ولكنّه أعاد له اسم “بطرس” بعد أن بكى بكاءً مرًّا مُعلنًا توبته، وبعد أن أعلن عن حبّه للمسيح حين ظهر له القائم من الموت، الّذي عاد وكلّفه من جديد بـمَهمّة رعاية القطيع. إذًا، إنّ الإنجيل يدعونا إلى عدم اليأس وعدم الشعور بالإحباط لأنّ توبتنا عن خطيئتنا كفيلة أن تعيد لنا المهمّة الّتـي أَوْكَلَنا الله بها، والّتـي نُزِعت منّا بسبب خطايانا. إنّ بطرس لم يتمكّن من الوصول إلى الجلجلة وأخذ مكانه شخصٌ آخر هو سمعان القيروانيّ، كما قد يكون يوحنّا الحبيب هو الّذي أخذ مكان بطرس الرّسول قرب الصّليب.

وفي يوم سبت النّور، على المؤمن أن يختبر الصمّت والسّكون، فيختار الشخصيّة الّـتي تمثِّله في مشهد الصَّلب، وذلك قبل أن تُعلَن قيامة المسيح من بين الأموات، لأنّه حين يتَّخذ قراره سيشعر إمّا بالفرح لدى تلقيّه خبر قيامة المسيح، أو بالحزن، وذلك مرتبطٌ بقيامته. كانت الكنيسة الأولى تمنح الموعوظين، أي طالبي المعموديّة، ذلك السّر في يوم سبت النّور أي قبل إعلان قيامة المسيح، وذلك كي يتمكّن هؤلاء من المشاركة في فرح الفِصح، وبالتّالي، فإنّ كلّ الّذين يشتركون في سرّ المعموديّة، يشتركون أيضًا في فرح القيامة، فرح الفِصح. فعلى المؤمِن، إذًا، أن يدخل الفِصح باستنارة جديدة كي يتمكّن من المشاركة في فرح الفِصح حين تُعلَن قيامة الربّ.

إنّ الرّسل قد تضعضعت نفوسهم واضطربت حين تمّ الإعلان عن القيامة، إذ إنّ قيامة الأموات تعني القيامة العامّة، وبالتّالي انتهاء الدّينونة ومجيء الملكوت. لقد اضطربت نفوسهم لخبر القيامة لأنّهم كانوا غير مُدرِكين لِما يجب القيام به. إنّ الرّوح القدس قد أعطى الرّسل ما يتكلّمون به كي يتمكّنوا من إعلان قيامة المسيح من بين الأموات، فالربّ قد أرسل إلى تلاميذه الرّوح القدس، كي يُرشِدهم ويُعلِّمهم ما عليهم أن يتكلّموا به. وبعد حلول الرّوح القدس على التّلاميذ في العليّة بشكلِ ألسنةٍ من نار، انطلق بطرس في مخاطبة الجموع مُعلنًا أنّ ذاك الّذي قام اليهود بصلبِه هو حقًا المسيح الربّ.

إخوتي، علينا التحلّي بذهنيّة الفِصح كي نتمكّن من المشاركة في عيد الفِصح، عيد القيامة، أي أنّه علينا أن نتذكَّر أنّ المسيح قد قام، وبالتّالي علينا عدم التوقّف عند الأذية الّتي نوجِّهها صوب الآخرين، أو التوقّف عند الأخطاء الّتي ترتكب من الآخرين بحقّنا. فلنسعَ في هذا الفِصح إلى الصَّفحِ عن الآخرين ومصافحتهم، لأنّ اليوم هو يوم القيامة، والقيامة العامّة قد تمّت أي أنّه لا وجود ليوم آخر غير ذلك اليوم، إذ إنّ كلّ الأيّام الّتي تلي يوم القيامة هي مشابهة له، ولذا يُطلق على اثنين القيامة اسم “اثنين الباعوث”، فهو يوم مشابه ليوم القيامة. في الروزنامة الّتي نستخدمها، هناك سبعة أيّام، لا ثمانية، غير أنّ يوم القيامة هو اليوم الثامن إذ لا وجود لأيّام أخرى بعده، فالقيامة العامّة قد تمّت، بقيامة المسيح من بين الأموات. 

في الإنجيل نقرأ عبارة “في اليوم الثامن”، أو عبارة “بعد ثمانية أيّام”، في الكلام عن ظهور المسيح لتلاميذه في العليّة حين كانت الأبواب موصدة. إنّ اليوم الثامن هي عبارة تُستَعمل للدلالة على أنّ هناك زمنًا جديدًا قد بدأ، وهو زمن القيامة. إذًا، نحن نُشارك في أسبوع الآلام، بعد أن نكون قد اختبرنا في إقامة لعازر، قدرة المسيح على الموت، وتذّوقنا طعم القيامة الّتي سنحصل عليها عند قيامة المسيح من بين الأموات. إنّ مؤمنين كُثُر يعتقدون أن العيد ينتهي بإنتهاء فرصة العيد، غير أنّه في الحقيقة على المؤمِن ألّا يعود إلى حالته القديمة بعد انتهاء العيد، إذ عليه أن يُعلن انتصار المسيح على الموت.

عسى أن تُشكِّل “إقامة لعازر وقيامة المسيح”، عنوانًا لصليبنا في هذه الحياة، وأن لا يتحوَّل ذلك العنوان إلى تهمةً كالكتابة الّـتي وُضِعت فوق صليب المسيح. على شعارنا في الحياة، أن يكون “إقامة لعازر وقيامة المسيح”، كي نتمكّن مِن أن نقطع الطريق على كلّ شِدّة وضيقة نعاني منها، ولا تدعها تبعدنا عن محبّة المسيح، فنردّد مع بولس الرّسول: إنّ لا شيء يفصلنا عن محبّة المسيح، لا شدّة، ولا ضيق، ولا أيّة محنة في هذا العالم. المسيح قام!

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp