تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“إنجيل القدّيس يوحنّا الرّسول – الإصحاح الرّابع”
نُتابع، اليوم، ما كنّا قد بدأنا به الأسبوع الماضي في إنجيل يوحنّا. لقد تكلّمنا على النّقاش الّذي دار بين الربّ يسوع ونيقوديموس الّذي يُمثّل اليهود، وعلى كلامه عن المعموديّة والولادة بالرّوح. سينتقل الربّ يسوع إلى منطقة السّامرة حيث يلتقي بامرأةٍ سامريّةٍ. وكما تعلمون، هناك عداوة بين السّامريّين واليهود على الرّغم من أنّهم يؤمنون بالكُتُب الموسويّة الخمسة في التّوراة أيّ التّكوين، الخروج، العدد، اللّاويّين وتثنية الاشتراع. وسبب هذا الصّراع الكبير هو أنّ اليهود لا يعتبرون أنّ دم السّامريّين صافٍ لأنّهم اختلطوا بأممٍ أخرى، فبرأيهم أنّ كلّ من يختلط بالآخر يُصبح نجساً.
ولكنّ كلمة الله لا تستثني أحداً لذلك تُلاحظون قوله في هذا المقطع: “ترك اليهوديّة ومضى أيضاً إلى الجليل وكان لا بدّ له من أن يجتاز السّامرة” ذلك يُبيّن أنّه لا يملك خَياراً آخر على الرّغم من أنّه يستطيع أن يسلك الطّريق الّذي يُريد، ولكن كان لا بدّ لِعمل الربّ يسوع من أن يُعطي كلمة الله إلى الكلّ فلا يستثني أحدا،ً وبالتّالي كان لا بدّ له من أن يجتاز السّامرة. هو ليس مُجبَراً على أن يفعل ذلك ولكنّ رسالته هي الّتي تُجبِره على أن يُكملها على هذا الشّكل. وهكذا تنقّلت في الإنجيل في أعمال الرُّسُل من اليهوديّة فالسّامرة ثمّ إلى أقصى الأرض، إلى الأمم.
يُتابع: “فأتى إلى مدينةٍ من السّامرة يُقال لها سوخار، قرب الضّيعة الّتي وهبها يعقوب ليوسف ابنه. وكان هناك بئر يعقوب. فإذ كان الربّ يسوع قد تعب من السّفر، جلس هكذا على البئر، وكان نحو السّاعة السّادسة”. السّاعة السّادسة، بحسب توقيتنا، هي السّاعة الثّانية عشرة ظهراً. كان هناك ما يُسمّى بنوبات الحرس فكلّما مرّت ثلاث ساعاتٍ من الوقت هناك نوبة يُبدَّل فيها الحُرّاس مثلاً نوبة السّاعة السّادسة، نوبة السّاعة التّاسعة…
وبالتّالي السّاعة السّادسة، بحسب توقيتنا، هي السّاعة الثّانية عشرة ظهراً والسّاعة التّاسعة هي السّاعة الثّالثة بعد الظّهر. الغرابة، هنا، أنّ الربّ يسوع التقى بتلك المرأة عند السّادسة أيّ ظهراً. وكما تعلمون أنّه من المستحيل، في القُرى، أن تخرج امرأةُ لِتجلب المياه ظهراً فتكون أشعّة الشّمس حارقةً فيذهبْنَ إمّا صباحاً وإمّا مساءً. فلا تخرج أيّ امرأةٍ ظهراً إلّا إذا كانت بِحاجةٍ ماسّةٍ إلى الماء. لا وجود للصُّدَف في إنجيل يوحنّا، إذ إنّه يُذكر في الإصحاح التّاسع عشر أنّهم أخذوا الربّ يسوع لِيصلبوه عند السّاعة السّادسة، أي عندما بدأ التّعب والألم.
يقول في الإصحاح الرّابع: “تعب من السّفر، جلس هكذا على البئر فجاءت امرأةٌ من السّامرة لِتستقي ماءً فقال لها الربّ يسوع: أعطِيني لأشرب”. ليست المسألة، هنا، أنّ يسوع المسيح يُريد أن يشرب فهو جالِسٌ على البئر ولكنّه يُريد أن يقول للسّامرة إنّها ستموت حتّى لو شربت من هذا الماء، ولكن هناك ماءٌ من نوعٍ آخر، وحياةٌ أخرى هو يُعطيها، وهي كلمة الله الحيّ. يُتابع: “لأنّ تلاميذه كانوا قد مضَوْا إلى المدينة لِيبتاعوا طعاماً. فقالت له المرأة السّامريّة: “كيف تطلب منّي لِتشرب، وأنتَ يهوديٌّ وأنا امرأةٌ سامريّةٌ؟ لأنّ اليهود لا يُعاملون السّامريّين”. إذاً هناك سببان لرفضها إعطاءه لِيشرب الأوّل هو أنّها امرأةٌ والثّاني هو أنّها سامريّةٌ. “أجابَ الربّ يسوع وقال لها: لو كنتِ تعلمين عطيّة الله، ومَن هو الّذي يقول لكِ أعطيني لأشرب، لَطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماءً حيّاً. فقالت له المرأة: يا سيّد، لا دَلْوَ لكَ والبئر عميقة”. لم ينتقل الكلام بعد إلى مستواه العالي كما مع نيقوديموس عندما تفاجأ من قول الربّ يسوع إنّه سيولد مرّةً ثانيةً.
“فَمِن أين لكَ الماء الحيّ؟ ألعلّكَ أعظم من أبينا يعقوب الّذي أعطانا البئر وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟ أجاب الربّ يسوع وقال لها: كلّ مَن يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن مَن يشرب من الماء الّذي أُعطيه أنا فَلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الّذي أُعطيه يصير فيه ينبوع ماءٍ ينبع إلى حياةٍ أبديّةٍ”. تذكّروا عندما قال “أنا عطشان” وهنا يقول “مَن يعطش” إذاً هناك مُشابهةٌ بين حديث السّامريّين ووجود الربّ يسوع على الصّليب.
“قالت له المرأة: يا سيّد أعطِني هذا الماء، لِكي لا أعطش وآتي إلى هنا لِأستقي. قال لها الربّ يسوع: اذهبي وادعي زوجك وتعالَيْ إلى هنا. أجابت المرأة وقالت: ليس لي زوج. قال لها الربّ يسوع: حسناً قلتِ ليس لي زوج لأنّه كان لكِ خمسة أزواج والّذي لكِ الآن ليس هو زوجكِ هذا قلتِ بالصّدق. قالت له المرأة: يا سيّد أرى أنّكَ نبيٌّ، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون…”.
ويبدأ، هنا، نقاشٌ لاهوتيٌّ. يُمكنكم أن تعتبروا أنّ هذه المرأة خاطئةٌ لأنّه كان لها خمسة أزواج والآن هي تُعاشر رجلاً من دون زواج ولكنّي سأقترح عليكم قراءةً أخرى: طالما أنّ السّامريّين لا يقبلون إلّا بالكتب الموسويّة الخمسة وبالتّالي الربّ يسوع قال للسّامريّة إنّه كان لها خمسة أزواج والّذي لها الآن ليس زوجها. الزّوج هو السّند والأمان، وفي اللّغة القديمة، هو البعل كما له معنى آخر وهو إله الخصب الوثنيّ، الذي يُعطي الحياة عندما تمطر. إذا كنتِ تعتقدينَ، من خلال العقيدة الّتي تؤمنين بها، أنّ الحياة تأتيكِ من أحدهم فأنتِ مخطئة، أنا هو الّذي يُعطيكِ الماء الحيّ. إذاً، هنا، مقاربةٌ جديدةٌ بين الربّ يسوع الكلمة الحيّة، العهد الجديد، وبين ما هو قديم، القديم الّذي تسكنون فيه والّذي لا يُخلّصكم. لذلك اتُّهِمَ السّامريّون بأنّهم كانوا يشتركون في عبادات أخرى على الرّغم من إيمانهم بالكُتُب الخمسة.
يُتابع: “… وأنتم تقولون إنّ في أورشليم الموضِع الّذي ينبغي أن يُسجَدَ فيه”. هناك صراع بين اليهود والسّامريّين فيقول اليهود إنّ الله ظهر في جبل أورشليم أمّا السّامريّون فيقولون في جبل جرزيم، وقد قالت السّامريّة للربّ يسوع “أنتم” مُعتبرةً إيّاه من اليهود.
“قال لها الربّ يسوع: يا امرأةً صدّقيني أنّه تأتي ساعةٌ” قال “يا امرأةً” وقد قالها أيضاً في عرس قانا الجليل وعندما كان على الصّليب. عمل صَلْب الربّ يسوع هو عمل خلاصيّ لكلّ الأمم. نتذكّر أيضاً في عرس قانا الجليل “يا امرأة، لم تأتِ ساعتي بعد”، وعلى الصّليب “قد أتَت السّاعة”.
يُتابع: “… تأتي ساعةٌ لا في هذا الجيل ولا في أورشليم تسجدون فيها للآب، أنتم تسجدون لِما لستم تعلمون، أمّا نحن فنسجد لِما نعلم، فإنّ الخلاص هو من اليهود” ويعني أنّ عمل الله الخلاصيّ بدأ من هذه المجموعة أيّ اليهود. “ولكن تأتي ساعةٌ وهي الآن، حين السّاجِدونَ الحقيقيّونَ يسجدون للآب بالرّوح والحقّ لأنّ الآب طالِبٌ مثل هؤلاء السّاجِدينَ له.
الله روح (لقد قال هذه العبارة لنيقوديموس “المولود من الرّوح روح والمولود من الجسد جسد”) والّذين يسجدون له فبالرّوح والحقّ ينبغي أن يسجُدوا”. في إنجيل يوحنّا، سأل بيلاطس الربّ يسوع “ما هو الحقّ؟” ولم يُجِب الربّ يسوع، ولكن لو سأله “مَن هو الحقّ؟” لَكان أجابه. يقول الربّ يسوع: “تعرفون الحقّ والحقّ يُحرّركم”. إذاً في إنجيل يوحنّا، الربّ يسوع هو الحقّ. والّذين يسجدون لله بالرّوح القدس وبيسوع المسيح هم السّاجدون للحقّ فتُصبح العبادة الحقيقيّة بالرّوح القدس والربّ يسوع أيّ بكلمة الله المُحيِّية الّتي تُحييكم من جديد.
إذاً لا يُمكن الفصل بين الرّوح القدس والمسيح فإذا قبِلتَ كلمة الله تحصل على الرّوح. لذلك أصبحت المعموديّة بالماء والرّوح مع نيقوديموس. وقد دخل عنصرٌ جديدٌ وهو الرّوح القدس لأنّكَ لا تستطيع أن تعبد الله إلّا بالرّوح القدس لا النّاموس ولا العقائد ولا التّقاليد ولا جبل أورشليم ولا جبل جرزيم. إذاً تنتهي وظيفة العهد القديم عندما تقبل يسوع المسيح وكلمة الله فبالمعموديّة لا تعود خاضِعاً لأعمال النّاموس.
في هذا الإصحاح، يوضح يوحنّا على لِسان يسوع المسيح أنّ الّذين يسجدون له فبالرّوح والحقّ ينبغي أن يسجدوا أيّ تنتهي عقائدكم وعاداتكم وتقاليدكم بيسوع المسيح.
يُتابع: “قالت له المرأة: أنا أعلم أنّ مَسيّاً الّذي يُقال له المسيح، يأتي. فمتى جاء ذاك يُخبرنا بكلّ شيء. قال لها الربّ يسوع: أنا الّذي أُكلّمكِ هو” أيّ أنا أُخبِرُكِ بكلّ شيء. تذكّروا الإصحاح الأوّل من إنجيل يوحنّا “الله لم يرَهُ أحدٌ قطّ، الابن الوحيد الّذي هو في حِضن الآب هو الّذي يُخبر” إذاً لا خبر لديك عن الله وخلاصكِ وكلّ شيء إلّا من فم يسوع.
“وعند ذلك جاء تلاميذه وكانوا يتعجّبون من أنّه يتكلّم مع امرأة ولكن لم يقل له أحد ماذا تطلب أو لماذا تتكلّم معها. فتركت المرأة جرّتها ومضت إلى المدينة وقالت للنّاس: هلمّوا أنظروا إنساناً قال لي كلّ ما فعلت، ألعلّ هذا هو المسيح؟ فخرجوا من المدينة وأتَوْا إليه” تركت المرأة يسوع والجرّة أيّ أنّها لم تعد بحاجةٍ إلى الماء وذهبت للتّبشير بعد حادثة البئر كما أنّ المرأة ذهبت للتّبشير بعد حادثة الصّلب والقيامة إذاً يأتيك الخبر من حيث لم تنتظر.
يُتابع: “وفي أثناء ذلك، سأله تلاميذه قائلين: يا معلّم كلْ. فقال لهم: أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم. فقال التّلاميذ بعضهم لبعض: ألعلّ أحداً أتاه بشيءٍ ليأكل؟” لا يزال تلاميذه كما نيقوديموس والمرأة السّامريّة “بَشَريّين”.
“قال لهم الربّ يسوع: طعامي أن أعمل مشيئة الّذي أرسلني وأتمّم عمله” العمل والطّعام والشّرب هي طاعة الله ومشيئة الآب.
“أما تقولون إنّه يكون أربعة أشهر ثمّ يأتي الحصاد؟ ها أنا أقول لكم: ارفعوا أعينكم وانظروا الى الحقول إنّها قد ابيضّت للحصاد والحاصِد يأخذ أجره ويجمع ثمراً للحياة الأبديّة، لكي يفرح الزّارِع والحاصِد معاً”. إذاً كلاهما يشترك في الفرح، أيّ مَن يزرع الكلمة ومَن يحصد نتيجتها. “لأنّه في هذا يصدق القول: إنّ واحداً يزرع وآخرَ يحصد. أنا أرسلتكم لِتحصدوا ما لم تتعبوا فيه، آخرون تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم” هذه هي قصّة الكلمة الإلهيّة، يبدأ أحدهم بالتّبشير فتؤمن وتقبل وتُتابع المسيرة فيقبل آخر ويُكمل المسيرة.
إذاً دخل التّلاميذ على تعب المسيح، وتلاميذ الرّسل على تعب الرُّسُل، وهكذا دواليك حتّى يحين دورنا، دور القارئ الّذي يستمع إلى الإنجيل الآن. أنتَ دخلتَ على تعب غيرك وحصدتَ ما زرع غيرك وقبلتَ كلمة الله وأخذتَ الرّوح، وبالتّالي دخلتَ الحياة الأبديّة، فتكون وظيفتك أن تُكمل المسيرة. يُتابع: “فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السّامريّين بسبب كلام المرأة الّتي كانت تشهد له. فلمّا جاء إليه السّامريّون سألوه أن يمكث عندهم فمكث هناك يوميْن” كما عندما كان يسوع على الصّليب فبعد يومين من ذلك، قام في اليوم الثالث. كما أنّ الرّسول يمكث يوميْن فقط في المدينة الّتي يُبشّر فيها وينتقل إلى أخرى كي لا يبدو بأنّ مناخ هذه المدينة طاب له فيُصبح هدفه العيش فيها لا التّبشير.
“فآمَنَ به كثيرون جدّاً بِسبب كلامه وقالوا للمرأة: إنّنا لسنا بعد بسبب كلامكِ نؤمن لأنّنا نحن قد سمعنا ونعلم أنّ هذا هو في الحقيقة المسيح مُخلّص العالم” كان دَوْر المرأة أن تأتي بالعالم كلّه إلى المسيح. وفي الإصحاح الّذي يتكلّم على عرس قانا الجليل، في إنجيل يوحنّا، قالت لهم المرأة “مهما قال لكم فافعلوه”. وعندما تشاجر نثنائيل مع فيلبس قال له هذا الأخير “تعالَ وانظر” فلمّا رأى نثنائيل الربّ يسوع قال له “أنتَ ابن الله”. إذاً وظيفة الرّسول أو المُبشّر هي أن يأتي بك إلى يسوع. وكانت هذه مشكلة اليهود مع غير اليهود لأنّهم كانوا يعتقدون أنه عليهم أن يكونوا يهوداً قبل أن يُصبحوا مسيحيّين ولكن مَن يؤمن بيسوع المسيح يَخْلُص من دون الحاجة إلى النّاموس الموسويّ. لقد قال عن الربّ يسوع إنّه مُخلّص العالم وليس اليهود وحدهم، إذاً لقد وصلت كلمة الله إلى أقصى الأرض.
يُتابع: “وبعد اليوميْن، خرج من هناك ومضى إلى الجليل لأنّ الربّ يسوع نفسه شَهِدَ أنّه ليس لِنبيّ كرامةٌ في وطنه” كما قيل “إلى خاصّتِهِ جاء وخاصّته لم تقبله”.“فلمّا جاء إلى الجليل قبله الجليليّون إذ كانوا قد عاينوا كلّ ما فعل في أورشليم في العيد لأنّهم هم أيضاً جاءوا إلى العيد. فجاء الربّ يسوع أيضاً إلى قانا الجليل حيث صنع الماء خمراً. وكان خادِمٌ للملك ابنه مريضٌ في كفرناحوم، حين سمع أنّ الربّ يسوع قد جاء من اليهوديّة إلى الجليل، انطلق إليه وسأله أن ينزل ويشفي ابنه لأنّه كان مشرِفاً على الموت. فقال له الربّ يسوع: لا تؤمنون إن لم ترَوْا آيات وعجائب. قال له خادم الملك: انزل قبل أن يموت ابني. قال له الربّ يسوع: اذهب ابنك حيّ. فآمن الرّجل بالكلمة الّتي قالها له الربّ يسوع وذهب”. التّركيز، هنا، هو على الإيمان بالكلمة، فَتَخْلُص من دون الحاجة إلى المرور بالنّاموس الموسويّ.
“وفيما هو نازلٌ استقبله عبيده وأخبروه قائلين: إنّ ابنك حيّ. فاستخبرهم عن السّاعة الّتي فيها أخذ يتعافى، فقالوا له: أمس في السّاعة السّابعة تركته الحُمّى. فَفَهِمَ الأبُ أنّه في تلك السّاعة الّتي قال له فيها الربّ يسوع: إنّ ابنك حيّ. فآمن هو وبيته كلّه. هذه أيضاً آيةٌ ثانيةٌ صنعها الربّ يسوع لمّا جاء من اليهوديّة إلى الجليل”.
نستنتج من كلّ ما قرأناه في الإصحاح الرّابع من إنجيل يوحنّا أنّ في النّاموس اليهودي كلمةُ الله، وهو ليس اختراعاً بشريّاً ولكنّ الإنسان مزج كلمة الله بتقاليد البشر فأصبح هناك منتوجٌ جديدٌ، يكمن خطره في أنّك عندما تُريد السّيطرة على النّاس إمّا أن تستعمل بشدّةٍ كلمة الله أو أن تستعين بتقاليد النّاس حسب ما تقتضيه الحاجة. هذا ما كان يفعله اليهود وما يفعله المسيحيّون.
يقول في إنجيل يوحنّا: الخلاص هو بالربّ يسوع كلمة الله.
“إيمانك خلّصك” لا تعني أنّ رأيك في الربّ يسوع هو الّذي خلّصك، بل أنّ قبولك لعمل الربّ يسوع فيك هو الّذي خلّصك، فهو الأساس. كلمة الله المُحيِية هي الأساس وفعلها فيك يتمّ عبر قبولك بها. كلمة الله هي المُحْيِيَة ولا شيء يُشاركها في هذا وكلّما اشترك أمرٌ معها تشوّهت وفسدت. لذلك، انتبهوا من عاداتكم وتقاليدكم.
لا تمزجوا شيئاً مع كلمة الله فهي ليست كلمات وإنّما هي يسوع المسيح، لأنّكم تعتقدون أنّ ما يُخلّصكم هو كلمة الله، وهذه الأمور الّتي تمزجونها معها منها صومكم، صلاتكم، السّبحة، هي قوانينكم الّتي تضعونها حتّى تُنظّموا أمور الآخرين. يُسمّى ذلك، في اليونانيّة، “إيكونوميا” ومعناه التّدبير. والفرق شاسع بين التّدبير وبين اللّاهوت الّذي يُسمّى “الثّيولوغيّة” في اليونانيّة. على تدبيركم أن يكون خاضِعاً ومُنسجِماً مع إرادة الله لذلك كلّ هذه الأمور هي تربويّة وتدبيريّة ومفيدة طالما هي خاضِعة لِرِضى الله ولا أسباب أخرى.
فمثلاً تكلّموا على الصّوم انطلاقاً من رِضى الله عليه. ليس الصّوم إماتةً لأهوائك فتصوم أربعين يوما،ً وخلال أيّام السّنة الباقية لا تقوم بشيء. رِضى الله، في الصّوم، هو على سبيل المثال أنّك قبل الصّوم أنتَ تأكل وغيرك لا يأكل أمّا خلال الصّوم فأنت تتوقّف عن الطّعام لكي يأكل غيرك، لأنّك عندما تتوقّف عن الطّعام تُواجه، رمزيّاً، الموت والّذي كان في الموت يُصبح في الحياة. إذاً أنتَ خلال الصّوم تُواجِه الموت لكي يُواجِه غيرك الحياة. فالربّ يسوع، على الصّليب، واجه الموت لكي تُواجه أنتَ الحياة. هذا هو مفهوم الصّوم من خلال رِضى الله.
أنتم تُكبّلون النّاس بصنمٍ جديدٍ وهو الصّوم من خلال قول ما هي المأكولات المسموح بها خلال الصّوم وغير المسموح بها بعد أن حرّركم الرّبّ يسوع من كلّ صنم ومن كلّ عبادةٍ لكلّ وثنٍ، والصّوم صار وثناً فأرجعوه تحت رِضى الله. هدف الصّوم واحد وهو الفقير الّذي لا يأكل. أمّا إذا كان هدفه مُغايّراً فيُصبح صوماً بوذيّاً أو إسلاميّاً أو يهوديّاً. ليس الصّوم ألّا تتعلّقوا بالأمور الماديّة فيُمكنكم خلال السّنة كلّها أن تقوموا بضبط أنفسكم عنها ولا داعي لانتظار حلول الصّوم.
أنا لا أطلب إليكم ألّا تصوموا ولكن أن تضعوا صومكم تحت إرادة رِضى الله وهو واضح فيقول أشعيا النبي في الإصحاح الثامن والخمسين: ” نادِ بصوتٍ عالٍ، لا تُمسكْ، ارفعْ صوتَكَ كبوقٍ واخبِرْ شعبي بِتعدّيهم، واخبِرْ بيتَ يعقوب بِخطاياهم. إيّايَ يطلبون يوماً فيوماً ويُسرّون بِمعرفة طُرُقي كأمّةٍ عمِلَت بِرّاً لم تترك قضاء إِلهِها، يسألونني عن أحكام البرّ، يُسرّون بالتّقرّب إلى الله، يقولون: لماذا صمنا ولم تنظر؟ (لقد غيّروا مفهوم الصّوم) ذلَّلْنا أنفسنا ولم تُلاحظ؟ ها إنّكم في يوم صومكم توجِدون مسرّةً وبكلّ أشغالكم تُسخّرون، ها إنّكم للخصومة والنّزاع تصومون ولِتضربوا بِلكمة الشّرّ.
لستم تصومون كما اليوم لِتسميع صوتكم في العلاء. أمثْلِ هذا يكون صوم أختارُهُ؟ يوماً يُذلّل الإنسان فيه نفسه، يُحني رأسه ويفرش تحته مُسوحاً ورماداً؟ هل تُسمّي هذا صوماً مقبولاً للرّبّ؟ أليس هذا صوماً أختارُهُ: حلّ قيود الشّرّ، فكّ عقد النّير (العبوديّة)، وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كلّ نير؟ أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تُدخِل المساكين الفقراء التّائهين إلى بيتك؟ إذا رأيتَ عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك؟ حينئذٍ، ينفجر مثل الصّبح نورك”؟ يقول لكم ألاّ تُغيّروا مفهوم الصّوم وإلّا فأنتم لا تصومون بل تقومون بأمرٍ مختلفٍ. إذا كنتَ مُقتنعاً بأن تصوم فعليك بذلك، حتّى لو العالم كلّه لم يصم، لأنّ رِضى الله لا يحتاج إلى التّصويت. لماذا يُصبح الصّوم فرصةً للثّرثرة في حين أنّه يُعلّمك السّكوت ويُصبح فرصةً لإدانة الآخرين في حين أنّه يسمح لك أن تكتشف رحمة الله بدلاً من إدانته لك؟ لماذا يُصبح الصوم أعمال ناموس في حين أنّ الربّ يسوع قد حرّرك منها لِتدخل في قانون الحبّ وقانون الحريّة؟.
هنا يكمن الصّراع مع يوحنّا الإنجيليّ. لا يستطيع اليهود والمسيحيّون الّذين كانوا من اليهود أن يُصدّقوا أنّه يُمكن للوثنيّ إذا آمن بالمسيح أن يحصل على ما هم حصلوا عليه بالتّساوي. فيذهب الّذين صاموا والّذين لم يصوموا إلى قدّاس القيامة معاً ويتناولون جسد الرّبّ بالتّساوي. إذا كنتَ تصوم أو لم تكن، على الصّوم أن يكون معياره رِضى الله. فَلِكي يهرب الّذي لا يصوم من التزامٍ متّصل برِضى الله، يجعل صوم الآخرين سخيفاً.
إذاً صومك إمّا هو تعبيرٌ عن خضوعك لِرِضى الله إمّا هو تمرينٌ لك لتصبح خاضِعاً لِرِضى الله. ولكن لا تدخلوا في تقنيّات الصّوم فهو زمنٌ مباركٌ تعيشه ولكن ليس لوحدك وإنّما مع أحدهم وهو “لا أحد” أيّ أنّ الآخرين يعتبرونه مرذولاً كما وأنّه ليس إنساناً مثلهم، هو بالنّسبة إليهم “لا أحد”. هذا هو الّذي تصوم معه بِمشاركته لقمة الخبز أو حتّى ابتسامتك ونظرتك ومدَّ يدك له. شاركه حياتك كلّها الّتي تجعله يحيا. إن لم تأكل تمت ولكن غيرك عندما يأكل يعيش.
تذكّروا بولس الرّسول: “الموت يسري فينا والحياة فيكم،….. ” كأنّنا نحتوي على كنزٍ، نحن مضطهدون ولكنّنا لا نلعن أحداً، مُنْكَسِرون ولكنّنا لسنا يائسين، متعبون ولكنّنا نُبارِك بفضل الكنز الموجود فينا. أنتَ لا تأكل لكي تموت وتُشارك المسيح في آلامه، فهو مات على الصّليب كي تحيا، لذلك لا تأكل لكي يحيا الآخر. ببساطة لا داعي للكبرياء في عطائكم للفقير. إذاً أنت تُشارك أحدهم ببساطة من دون إجراء المؤتمرات واستعمال البوق، لكي يعلم الجميع، لأنّ رِضى الله يتطلّب السّريّة.
أنتّ تُصلّي من أجل سلام كلّ العالم، من أجل الحاضِرين كما من أجل الغائبين. صلّوا ببساطة الإنجيل وتواضع المسيح وهذا ما تعيشونه في تفاصيل الأمور. لك الحقّ في النّظر إلى صحن غيرك في حالةٍ واحدةٍ وهي إذا كان فارغاً فتملأه. هذا هو الصّوم.
في الإصحاح الرّابع من إنجيل يوحنّا، لم يتطلّع يسوع إلى خطايا المرأة السّامريّة بل تابع كلامه، فبدل من أن ينخفض إلى مستوى خطيئتها رفعها إلى مستوى الخلاص. هذا هو النّهج الّذي عليكم أن تتّبعوه مع الآخرين. ليست الحياة الرّوحيّة في أن تُصلّي لمدّة خمس ساعات أو أن تمتنع عن أكل ما تُحبّ، فالشّيطان يدخل في التّفاصيل ويجعلك تمزج بين كلمة الله وعاداتك وتقاليدك وأفكارك وعقائدك. هذا هو رِضى الله وإرادته. ليس صدفةً أنّ الربّ يسوع كان يبكي عرقاً ودماً، حين كان في بستان الزّيتون وفي طريقه إلى الصّليب، وهو يقول “لِتكن مشيئتك لا مشيئتي” على الرّغم من أنّها المشيئة نفسها. والآن هذه هي صلاتنا، فإذا كنتَ تملك رضى الله إذاً أنتَ ناجِح، وتعرف ذلك من خلال رجائك، إضافةً إلى أنّك على يقينٍ بأنّ رحمته أكبر من خطيئتك فلا تدعها تتغلّب على رحمة الله. لا يحقّ لك أن تشعر باليأس والإحباط وتقول إنّك سيّئ، لأنّ الله قال العكس وعليك أن تُصدّقه بدلاً من أن تصدّق نفسك.
ملاحظة: دُوّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.