تفسير الكتاب المقدّس،

الأب ابراهيم سعد،

“إنجيل القدّيس يوحنّا الرّسول – الإصحاح السّادس”

سنبدأ، اليوم، بالإصحاح السّادس من إنجيل يوحنّا وهو، كما سبق وقلتُ، مركز الإنجيل حيث يتكلّم على فصح جديد وعبور جديد. في الفصح اليهوديّ، يَعْبُر يسوع. الفصح عند اليهود يعني العبور من فعل فَصَحَ أي عَبَرَ، عندما عَبَروا البحر تارِكين مصر الّتي كانت ترمز إلى العبوديّة. لقد انتقلوا بواسطة المياه إلى الصّحراء ثمّ إلى الأرض الّتي اصطحبهم إليها الله كي يعبدوه. 

إذاً سبب وجودهم على هذه الأرض هو كي يعبدوا الله وليس كي يكون لهم أرض ودولة. في الكتاب المقدّس، لا وجود لِكلامٍ على وعد الله لليهود بإعطائهم دولة كما يقولون الآن، إنّما أعطاهم مكاناً كي يعبدوه من دون خجل وخوف من عبادات أخرى. ففي مصر، كان الفرعون يفرض عليهم عبادة إله مصر، كما كان يُفرض على البابليّين عبادة إله بابل وكذلك الآشوريّين. لقد حرّرهم الله من هذه العبادات إلّا أنّهم شعروا بالحنين إليها وراحوا يُهدّدونه بأن يعودوا إلى عباداتهم السّابقة إن لم يُنفّذ طلباتهم. هذا هو المفهوم الرّوحيّ لكلمة “زنى” في الكتاب المقدّس أيّ تَرْك الإله الحيّ حتّى لو لم تتبعوا غيره فالتّرك كافٍ كي تحصل الخيانة. يُعيد إنجيل يوحنّا صياغة التّاريخ بمختصر البشريّة الّتي تطيع الله أيّ يسوع الّذي يُخلّصها.

يقول: “بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل، وهو بحر طبريّة وتبعه جمع كثير لأنّهم أبصروا آياته الّتي كان يصنعها في المرضى (هؤلاء تبعوه لأنّه صنع عجائب كثيرة وبالتالي يُمكن أن يتركوه في أي وقت) فصعد يسوع إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه، وكان الفصح، عيد اليهود، قريباً (تذكّروا صعود موسى إلى الجبل وحصوله على الوصايا بينما يسوع يصعد إلى الجبل لِيُعطي الوصايا إذاً هو الله والتّلاميذ هم موسى فيأخذون الوصايا) فرفع يسوع عينيْهِ ونظر فرأى جمعاً كثيراً مقبلاً إليه، فقال لفيلبُس: من أين نبتاع خبزاً لِيأكل هؤلاء؟ وإنّما قال هذا لِيمتحنه، لأنّه هو عَلِمَ ما هو مُزمِع على أن يفعل. 

أجابه فيلبُس: لا يكفيهم خبز بِمئتَيْ دينار لِيأخذ كلّ واحد منهم شيئاً يسيراً. قال له واحد من تلاميذه، وهو إندراوس أخو سمعان بطرس: هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان، ولكن ما هذا لِمثْل هؤلاء؟ فقال يسوع: اجعلوا النّاس يتّكئون. وكان في المكان عشبٌ كثير، فاتّكأ الرّجال وعددهم نحو خمسة آلاف. وأخذ يسوع الأرغفة وشكر، ووزّع على التّلاميذ، والتّلاميذ أعطوا المُتّكئين.”

تُلاحظون، هنا، أنّ يسوع يُعطي تلاميذه والتّلاميذ بدورهم يُعطون النّاس. فَدور التّلميذ أو الرّسول هو أن يوصل ما أعطى سيّده بأمانة. مشكلتنا في الماضي والحاضر والمستقبل هي الأمانة في إيصال أيّ أمر، فيجد الإنسان صعوبةً في أن يقبل، طوعًا، بالاختفاء، ونحن نكره الموت، لذلك يخاف الإنسان أن يختفي. إذاً دور التّلاميذ هو أن يوصلوا الطّعام إلى النّاس الّذين أجلسهم يسوع على العشب كالغنم إذاً هناك راعٍ والرّاعي، في الإصحاح السّادس، هو يسوع وسترَونها، في الإصحاح العاشر، بشكل أوضح حيث يقول: “أنا هو الرّاعي الصّالح”.

يُتابع: “فلمّا شبعوا، قال لتلاميذه: اجمعوا الكسر الفاضلة كي لا يضيع شيء (من عطيّة الرّبّ) فجمعوا وملأوا اثنتيْ عشرة قفّة من الكسر، من خمسة أرغفة شعير، بقيت عن الآكلين”. نجد، هنا، رموزاً عديدة، أطعمت خمسة أرغفة خمسة آلاف شخص وفضِل منها اثنتا عشرة سلّةٍ: الرّقم 12 هو رمز الكليّة فعدد قبائل إسرائيل هو اثنا عشر أيّ كلّ إسرائيل كما عدد الرّسُل هو اثنا عشر أيّ كلّ الكنيسة. إذاً فضلات الخبز تُطعم الكلّ من دون استثناء فالمسألة هي في قبولك بعطيّة الله أو عدم قبولك بها.

يُتابع: “فلمّا رأى النّاس الآية الّتي صنعها يسوع قالوا: إنّ هذا هو في الحقيقة النّبيّ الآتي إلى العالم” ولم يقولوا “نبيّ”. (فكأنّهم ينتظرون مجيء أحدهم وهو النّبيّ. هنا، نعود إلى الإصحاح الثّامن عشر من سفر تثنية الاشتراع حيث كان موسى يُلقي خطابه الوداعيّ قائلاً إنّ الله سيُرسل لكم نبيّاً، هذا هو النّبيّ، هذا هو وعد الله) أمّا يسوع فحين عَلِمَ أنّهم مُزمِعون على أن يأتوا ويختطفوه لِيجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده.”هم يعتقدون أنّ الله سيُرسل إليهم أحداً ليُصبح ملكاً، لكنّ تصميم هذا الملك اليهوديّ مثل داوود أو أيّ ملك سيصنع مملكةً أرضيّةً، ولكنّ الله لن يُعيد الكرّة ففي العهد القديم كان هناك ملك وقد قادهم إلى الهاوية، إضافةً إلى أنّهم نسَوْا الملك الحقيقيّ أيّ الله. هنا، تكمن خطورة كلمة “الوكيل”، فالملك هو وكيل الله على الأرض لذلك أصبحوا يهتمّون بإرضاء الملك بدلاً من إرضاء الله، والملك، بدوره، أصبح يتصرّف وكأنّه الله بدلاً من القيام بوظيفته وهي أن يعكس صورة الله على الأرض وهي، بحسب الكتاب المقدّس، الرّحمة، العدل، الانصاف… 

أمّا الملك فكان يعكس صورة الله من منظار آخر أيّ القدرة والتسلّط. لذلك لم يعد يهتمّ بالفقراء ولكن بتثبيت مملكته بحقّ القوّة وليس بقوّة الحقّ. وهنا، يُريدون أن يجعلوا يسوع مثل أيّ ملك سابق، فهرب منهم واعتزل. هذا هو عمله الأوّل في هذا الإصحاح، أمّا العمل الثّاني فهو معجزة السّير على المياه.

يُتابع: ” ولمـّا كان المساء، نزل تلاميذه إلى البحر فدخلوا السّفينة وكانوا يذهبون عبر البحر إلى كفرناحوم. وكان الظّلام قد أقبل، ولم يكن يسوع قد أتى إليهم. وهاج البحر من ريحٍ عظيمةٍ تهبّ. فلمّا كانوا قد جذفوا نحو خمس وعشرين أو ثلاثين غلوة (أيّ مسافة طويلة)، نظروا يسوع ماشِياً على البحر مُقترِباً من السّفينة، فخافوا فقال لهم: أنا هو، لا تخافوا، فرضوا أن يقبلوه في السّفينة. وللوقت صارت السّفينة إلى الأرض الّتي كانوا ذاهبين إليها. وفي الغد، لمّا رأى الجمع الّذين كانوا واقفين في عبر البحر أنّه لم تكن هناك سفينة أخرى سوى واحدة، وهي تلك الّتي دخلها تلاميذه، وأنّ يسوع لم يدخل السّفينة مع تلاميذه بل مضى تلاميذه وحدهم. غير أنّه جاءت سُفُن من طبريّة، إلى قُرب الموضع الّذي أكلوا فيه الخبز، إذ شَكَرَ الرّبّ. فلمّا رأى الجمع أنّ يسوع ليس هو هناك ولا تلاميذه، دخلوا هم أيضاً السُّفُن وجاءوا إلى كفرناحوم يطلبون يسوع.”

هبّت الرّياح في البحر وضربت أمواجُهُ السّفينةَ، تلك الأمواج تعني العدوّ والخطر والموت، فمن دون يسوع يبقى الخطر والموت، ولكن عندما يأتي، تهدأ الأمور، فهو وحده له سلطة على البحر. إذاً كما حصل مع موسى حين فتح له الله مياه البحر لِيمرّ بأمان، كذلك يسوع جعل المياه يابسةً وسار عليها كأنه يمشي على طريق. قدرة يسوع وقوّته تُعطيانك الأمان والسّلام، ولكن، هنا، السّؤال: “ماذا يحلّ بك من دونه؟”.

يُتابع: “ولمّا وجدوه في عبر البحر، قالوا له: يا معلّم، متى صرتَ هنا؟ أجابهم يسوع وقال: الحقّ الحقّ أقول لكم: أنتم تطلبونني ليس لأنّكم رأيتم آيات، بل لأنّكم أكلتم من الخبز فشبعتم، إعملوا لا للطّعام البائد، بل للطّعام الباقي للحياة الأبديّة الّذي يُعطيكم ابن الإنسان، لأنّ هذا الله الآب قد ختمه. (وبالتّالي، عندما مرّ الشّعب اليهوديّ كان جائعاً فأعطاهم الله المَنّ الّذي لا يصلح أكله في اليوم التّالي. أمّا، هنا، فيقول لهم إنّه سيُعطيهم خبزاً مختلفاً تماماً.) فقالوا له: ماذا نفعل حتّى نعمل أعمال الله؟ أجاب يسوع وقال لهم: هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالّذي هو أرسله.

لقد قال أمراً غريباً وهو أنّ العمل هو أن تؤمن، فلم يعد هناك فرق بين الأعمال والإيمان. العمل الّذي تصنعونه هو أن تؤمنوا بالمسيح والمطلوب منكم هو أن تقبلوا، تأخذوا، تأكلوا. أمّا إذا لم تفعل هذا فذلك يعني أنّك لا تُريد الله. مشكلة العمل، بمعزل عن فكرة الإيمان، هي أن تردّك إلى اليهوديّة.
يُتابع: “فقالوا له: فأيّة آية تصنع لِنرى ونؤمن بك؟ ماذا تعمل؟ آباؤنا أكلوا المنّ في البريّة، كما هو مكتوب، أنّه أعطاهم خبزاً من السّماء لِيأكلوا. فقال لهم يسوع: الحقّ الحقّ أقول لكم: ليس موسى من أعطاكم الخبز من السّماء، بل أبي يُعطيكم الخبز الحقيقيّ من السّماء لأنّ خبز الله هو النّازل من السّماء الواهِب حياةً للعالم. 

فقالوا له: يا سيّد، أعطِنا في كلّ حين هذا الخبز. فقال لهم يسوع: أنا هو خبز الحياة، مَن يُقبِل إليّ فلا يجوع، ومَن يؤمن بي فلا يعطش أبداً، ولكنّي قلتُ لكم إنّكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون، كلّ ما يُعطيني الآب فإليّ يُقبِل، ومَن يُقبِل إليّ لا أُخرِجه خارِجاً لأنّي قد نزلتُ من السّماء لا لِأعمل مشيئتي، بل مشيئة الّذي أرسلني وهذه مشيئة الآب الّذي أرسلني: إنّ كلّ ما أعطاني لا أُتلِفُ منه شيئاً، بل أُقيمه في اليوم الأخير لأنّ هذه مشيئة الّذي أرسلني: إنّ كلّ ما يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبديّة، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير”.

عندما كان في البحر، قال لهم: “أنا هو، لا تخافوا”، كما عندما ظهر الله لِموسى في العُلّيْقة في البريّة فقال له “أنا هو الله”. هكذا قال يسوع “أنا الله، أنا هو الّذي تعبدونه، أنا اقدّم لكم نفسي لا الخبز العاديّ”.

منذ قليل، تكلّمنا على المياه، فقد عبروا عليها أمّا الآن فقد تكلّمنا على الخبز. المياه تعني المعموديّة والخبز يعني الإفخارستيّة. إنجيل يوحنّا هو إنجيل ليتورجيّ والإصحاح السّادس منه هو إصحاح ليتورجيّة، يحتوي على سرّيْن وهما المعموديّة والإفخارستيّة. إذاً العمل الّذي عليك أن تصنعه هو أن تؤمن بيسوع وتقبل به فتعتمد وتأكل من الخبز الّذي يُعطيك إيّاه الله، والخبز هو “أنا”. فأنتَ عندما تأكل الخبز، يتحوّل إلى جسدك ولكن عندما تأكل “يسوع” أنتَ تتحوّل وتُصبح هو. مفهوم الخبز النّازل من السّماء، ويقول يسوع: “أنا هو الخبز الحيّ”، هو أوسع من المناولة، هو أن تأكل على مائدة الآب الحَمَل المذبوح، وهو الابن، كي تتحوّل إليه فتُصبح ابن الآب. ليس الهدف من هذا أن تُصبح من دون خطايا بل أن تتحوّل فتُصبح ابناً للآب أي وريثاً لمملكته.

يُتابع: فكان اليهود يتذمّرون فيه لأنّه قال: أنا هو الخبز الّذي نزل من السّماء وقالوا: أليس هذا هو يسوع ابن يوسف، الّذي نحن عارِفون بأبيه وأمّه؟ فكيف يقول هذا: إنّي نزلتُ من السّماء. فأجاب يسوع وقال لهم: لا تتذمّروا منّي ما بينكم، لا يقدر أحد أن يُقبِل إليّ إن لم يجتذبه الآب الّذي أرسلني، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير. إنّه مكتوب في الأنبياء: ويكون الجميع متعلّمين من الله. فكلّ مَن سمع من الآب وتعلّم، ويُقبِل إليّ، ليس أحدٌ رأى الآب إلّا الّذي من الله. هذا قد رأى الآب. واحد قد رأى الآب هو يسوع. تذكّروا الإصحاح الأوّل: “الله لم يرَهُ أحد قط، الابن الوحيد الّذي في حِضن الآب هو الّذي فسّر وخبّر. 

الحقّ الحقّ أقول لكم: مَن يؤمن بي فَلَهُ حياة أبديّة، أنا هو خبز الحياة، آباؤكم أكلوا المنّ في البريّة وماتوا، هذا هو الخبز النّازِل من السّماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحيّ الّذي نزل من السّماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الّذي انا أُعطي هو جسدي الّذي أبذله من أجل حياة العالم (هذا الكلام أشبه بالقدّاس الإلهيّ) فَخاصم اليهود بعضهم بعضاً قائلينَ: كيف يقدر هذا أن يُعطينا جسده لِنأكل؟ 

فقال لهم يسوع: الحقّ الحقّ أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم. مَن يأكل جسدي ويشرب دمي فَلَهُ حياةٌ أبديّةٌ، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير لأنّ جسدي مأكلٌ حقّ ودمي مَشْرَبٌ حقّ، مَن يأكل جسدي ويشرب دمي يثْبُت فيّ وأنا فيه، كما أرسلني الآب الحيّ، وأنا حيّ بالآب، فَمَن يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبز الّذي نزل من السّماء. ليس كما أكل آباؤكم المنّ وماتوا. مَن يأكل هذا الخبز فإنّه يحيا إلى الأبد. قال هذا في المَجْمَع وهو يُعلّم في كفرناحوم”.

لقد عَلَّمَ هذا التّعليم في المَجْمَع حيث يُعَلَّم النّاموس اليهوديّ، لقد أعطاهم ناموساً جديداً.
ما معنى مَن يأكل جسدي ويشرب دمي؟ “جسد”، في اللّغة السّاميّة أيّ العِبريّة، هو الشّخص أو الحُضور. إذاً عندما تتكلّمون على “جسدي” يعني “حُضوري”، وعندما تتكلّمون على “دمي” يعني أنّ إذا أحدهم هُرِق دمه أيّ مات أمّا إذا كان دمه في داخله يعني أنّه حيٌّ. إذاً يسوع يُعطيهم حضوراً وحياةً.

أنتَ، خلال القدّاس، تتناول جسد ودم الرّبّ ولكن ليس بهذه البساطة يتحوّل الخبز إلى جسد والخمر إلى دم وإنّما تتناول يسوع المسيح على شكلَيْ الجسد والدّم، وهذا يسوع المسيح هو الّذي أرسله الله وهو كلمة الله وبالتالي، أنتم تتناولون كلمة الله النّازِلة من السّماء والأزليّة. “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله”. إذا تناولتَ كلمة الله وقبلتَ بها ستُصبح ابناً تأكل على مائدة أبيك حيث طعامٌ واحدٌ هو الحَمَل، يسوع، وتكتفي. لذلك أجرى مقارنةً بين المنّ الّذي تأكلونه كلّ يوم ويزول وبين كلمة الله الّتي إذا تناولتموها تُصبحون في حياة أبديّة. هنا، هو لا يُركّز على حياتك اليوميّة ولا على موتك لأنّه أصبح هناك ما هو أسمى وهو الحياة الأبديّة.

إذاً أنتَ تتذوّق الحياة الأبديّة ابتداءً من الآن، أيّ أصبحتْ كلمة الله الّتي قيلت وأُهرِقت، تسري في دمك، فيكون فيك شيء لا نهاية له حتّى لو أنتَ انتهيتَ، وهو حياة الله الموجودة في داخلك. لذلك تُصبح مُحصّناً ضدّ أيّ هجوم أو عمل يجعلك أسيراً أو عبداً لغير الله بسبب حبّة الحياة الّتي تأخذها، وقد حرّرتك من أيّ عبوديّة. أنتم تعرفون الحقّ والحقّ يُحرّركم، فما هو سبب حنينكم إلى الماضي؟ هذه هي المشكلة في إنجيل يوحنّا وهذا هو صراع يسوع مع اليهود.
بِحسب التّقليد الغربيّ، يُمكن للكاهن أن يحتفل بالذّبيحة الإلهيّة لِوحده في غرفةٍ أمّا بحسب التّقليد الشّرقيّ فذلك غير ممكن، لأنّ كلّ كلام على خبز الحياة يجب أن يتمّ في الجماعة، لأنّ عمل الله هو لِخلاص الجميع. 

وبالتّالي مفهومك لهذا الموضوع هو كلّما نظر الله إلى أحد على الكرة الأرضيّة سيكون ذلك عملك أيّ أن يكون ذلك الشّخص من عائلة الآب. كلّ كلام على مناولة في الإفخارستيّة، تُحقّقه من خلال علاقتك مع الجالِس إلى جانبك، فأنتَ لستَ في عائلة الآب لِوحدك بل مع كثيرين. وبالتّالي كلّ عمل إفخارستيّ، على هذا اللّاهوت أن يتحقّق فيه عند حضور مجموعة. ما صنعه الله بك من حبّ أنتَ تأخذه وتُعطيه إلى الآخر. خلال القدّاس، في اللّيتورجيّتيْن الشّرقيّة والغربيّة على حدّ سواء، لا يُمكنكم إعطاء السّلام، مثلاً، إلى أحد غير موجود. 

إذاً عليك أن تكون في شركة كي تُحقّق عائلة الله وملكوته وهو لا يتألّف منك وحدك بل تكون مع أشخاص ليسوا من اختيارك بل من اختيار الله وهم، بشكل خاصّ، الّذين جعلوك تتألّم. هؤلاء سيأكلون الطّعام نفسه الّذي تأكله وإضافةً إلى ذلك، سيكونون ورثاء الله مثلك تماماً. 

عندما يقول الكاهن “لِنُحبّ بعضنا بعضاً” يقصد بهذا النّاس، وبحسب التّقليد الشّرقي “لِنحبّ بعضنا بعضاً لِنعترف” إذاً المحبّة سبقت الاعتراف بالإيمان وتأتي بعد الإنجيل في العظة. أيّ أنتَ خلال قراءة الإنجيل والعظة، تقبل بكلمة الله فتُصبح ابناً وحتّى يراك الله ابناً ويفرح بك، لا ينظر إلى أعمالك وما قدّمته له بل إلى محبّتك للآخر. عندما يتأكّد من محبّتكم، تعترفون بإيمانكم، وبعدها يُمكنكم أن تتناولوا على مائدته. وعندما ينتهي القدّاس، تخرجون من الكنيسة وما أخذتموه يبقى في داخلكم، خبز الله النّازِل من السّماء، وبالتّالي لا يُمكنكم أن تتصرّفوا وكأنّكم لم تأكلوه أو كأنّكم أكلتم المنّ في البريّة.

إيمانك بيسوع لا يُخلّصك بل هو الّذي يؤكّد أنّك قبلتَ بخلاص يسوع، أيّ أن تقبل بأنّ يسوع هو مخلّصك. وإذا قبلتَ بهذا الأمر تذكّر أنّ هناك آخر قبل به أيضاً، فتُصبحان أخويْن. لا قانون يُتيح لك أن تنكر أخاك أو أباك ولا قانون يُتيح للأب أن ينكر ابنه إلّا إذا أثبت الأب أنّه ليس ابنه. إنّه بحاجة إلى دليل على أنّك لستَ ابنه حتّى يرفع الأبوّة عنك. إذا فعل ذلك، فأنتَ لا تعود أخاً لابنه الثّاني. والدّليل على ذلك هو كلمة الله، الإنجيل. 

إذا كانت كلمة الله قد أُعطِيت لكلّ النّاس، فذلك يعني أنّ لا أحد من الموجودين في هذا الكون ليس ابناً للآب. وعندما لا يظهر بأنّه ابنه فذلك بسبب أعماله، إمّا يكون كالعبد وإمّا يكون كالأجير. مستويات العلاقة مع الله ثلاثة: إمّا عبد خوفاً، إمّا أجير مصلحةً، إمّا ابن حُبّاً. كلّ ما نسعى إليه هو أن تُصبح علاقةً بين ابن وأبيه.

اليوم، في الإصحاح السّادس من إنجيل يوحنّا، يقول إنّ الكلّ هم أبناء الآب لأنّه اعترف بأبوّته لكم، لأنّك قبلتَ بيسوع المسيح. يتصرّف الأب كأب ولكن ليس من الضّروريّ أن يتصرّف الابن كابن لأنّه في أكثر الأحيان لا يتصرّف كابن. على الرّغم من هذا، جاء الله بابنه الحقيقيّ الّذي لم يُخطئ إليه والّذي بقي ابنًا على الرّغم من كلّ التّحدّي الّذي حصل، ولم يتنازل يسوع عن بُنُوّته ولم يتصرّف إلّا كإبن، وقَبِل الله بأن يُحاكَم أمام غير الأبناء كأنّه مُجرم، من أجلكم أنتم الّذين لم تتصرّفوا كأبناء. إذا أكلنا الخبز النّازِل من السّماء سنُصبح سماويّين، أحياء حياة أبديّة، لذلك يتذمّر اليهود من أنّ يسوع يقوم بتغيير الأيقونة واللّاهوت، فاعتبروا ذلك كفراً وتجذيفاً.

يُتابع: “فقال كثيرون من تلاميذه، إذ سمعوا: إنّ هذا الكلام صعب على مَن يقدر أن يسمعه، فعَلِمَ يسوع في نفسه أنّ تلاميذه يتذمّرون من هذا، فقال لهم: أهذا يُعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعِداً إلى حيث كان أوّلاً الرّوح هو الّذي يُحيي. أمّا الجسد فلا يُفيد شيئاً. الكلام الّذي أُكلّمكم به هو روحٌ وحياةٌ، ولكن منكم قومٌ لا يؤمنون. لأنّ يسوع من البدء عَلِمَ مَن هم الّذين يؤمنون، ومَن هو الّذي يُسلِمه فقال: لهذا قلتُ لكم إنّه لا يقدر أحد أن يأتي إليّ إن لم يُعطَ من أبي. 

منذ هذا الوقت، رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء، ولم يعودوا يمشون معه. فقال يسوع للاثنيْ عشر: ألعلّكم أنتم أيضاً تُريدون أن تمضوا، فأجابه سمعان بطرس، يا رب، إلى مَن نذهب؟ كلام الحياة الأبديّة عندك ونحن قد آمنّا وعرفنا أنّك أنتَ المسيح ابن الله الحيّ. أجابهم يسوع: أليس أنّي أنا اخترتكم، الاثنَيْ عشر؟ وواحد منكم شيْطان (أيّ أنا اخترتكم وأخطأتُ في الاختيار لأنّكم أنتم تختارون البقاء أو الرّحيل. أنا أختارك ولكن لا أُجبرك) قال عن يهوذا سمعان الإسخريوطي، لأنّ هذا كان مُزمِعاً على أن يُسلّمه، وهو واحد من الاثنَيْ عشر.”

يهوذا الإسخريوطي ويعني، في اليونانيّة، “سيكاريوس” أيّ حامِل السّيف. إذاً هذا يهوذا حامِل السّيف الّذي يُريد من يسوع أن يُشرّع له حمله للسّيف، أيّ أن يأخذ المملكة عن طريق السّيف فلم ينجح، لذلك وجد يهوذا أنّ يسوع لا يُناسبه. كان هدف الجميع واحداً وهو أنّهم لا يستطيعون أن يبقوا مع يسوع خوفاً من أن يُصبحوا مُضطهَدين ومضروبين ولكن مُبارِكين، غير مُكتَئبين كما يقول بولس الرّسول، لأنّنا آمنّا وأمّنا وائتمنّا على أنّ الله لن يتركنا.
الرّوح يُحيي أمّا الجسد فيزول، لذلك أن تُعطي وقتاً وخوفاً أكبر للجسد قد يُنسيك الرّوح وفي أكثر الأحيان تنساه. ولكن إذا اهتمَمْتَ بالرّوح فقد تنسى الجسد وستنساه. هذا هو سبب وجود القدّيسين، لأنّهم ركّزوا على الرّوح الّذي يُحيي وعلى كلام الله والحياة.

إنجيل اليوم هو إنجيل اليقظة الرّوحيّة، لعلّكم تنتبهون، آمين.

ملاحظة: دوّن الشرح بأمانةٍ من قبلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp