عظة القدّاس الإلهيّ،

الأب إياد زينيّة البولسيّ،

“إِنّي أومِنُ يا ربّ، فأَعِن قِلّة إيماني” (مر 9: 24)

باسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في إنجيل يوم غد، الأحد، الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، سَمِعْنا إعلانَ هذا القائد العظيم إيمانَه بالربِّ قائلاً: “أعِن قِلَّة إيماني” (مر 9: 24)، بَعد أن كان قد قال له بدايةً: “إنِّي أؤمن يا ربّ” (مر 9: 24). إذًا، إنَّ الإيمانَ موجودٌ في قلبِ هذا الرَّجل، كما أنّه موجودٌ أيضًا في قلب كلِّ واحدٍ منّا، أكان هذا الإيمانُ إيمانًا مُطلَقًا بالله، أم إيمانًا من أجل تحقيق أمرٍ ما، أم إيمانًا بيسوع المسيح الّذي هو وحدَهُ المخلِّص، القادرُ على شِفاءِ النَّاس مِن جَميعِ أمراضِهم، وعلى القِيامِ بأعاجيبَ كثيرةٍ.

ويُصادِفُ أيضًا يوم غَد، الأحد، عِيدُ القدِّيسِ يوحنَّا السُّلَّميّ، مؤلِّفِ كِتابِ “سُلَّمَ الفضائل”. كان يوحنَّا السُّلَّمي توَّاقًا إلى العزلة، فاختبرها بعد حصولِه على الإذنِ مِن رئيسِه، وتابَع فيها تأليف كِتابِه. في هذا الكِتاب، أعطانا القدِّيس يوحنَّا السُّلَّمي سُلَّمًا مؤلَّفًا مِن ثلاثين فضيلةً، ودعانا إلى عَيشِها الواحدةَ تِلو الأُخرى، كلَّ سَنةٍ فضيلةٍ، فنتمكَّن في نهاية هذا السُّلّم من الوصول إلى الفضيلة رقم ثلاثين، وهذا الرَّقم يُشير إلى العُمر الّذي فيه بدأ المسيح يسوع رسالته التَّبشيريّة. إنّ القدِّيس يوحنَّا السُلَّمي دعانا إلى عيش هذه الفضائل، لا فقط إلى قراءتها. إنّ الفضائلَ الثّلاث الأخيرة في هذا السُّلَّم الّذي وَضعَه القدِّيس يوحنَّا السُّلَّمي، واردةٌ في الإنجيل ونسمع عنها باستمرارٍ، وهي الإيمان والرَّجاء والمحبّة، وهذا يعني أنّه كي نتمكَّن من الوصول إليها، علينا السَّعي إلى عيش الفضائل السَّبع والعشرين الّتي تَسبقُها، فنَكونَ مُستَّحقين لِنَعيش حياةً مسيحيّةً حقيقيّةً مؤمنةً بالله. أن نَكونَ مَسيحيِّين لا يعني فقط أنّنا معمَّدون ومَمسوحون بِالـمَيرون المقدَّس، بل يعني أنّه علينا التَّبشير بالمسيح يسوع. إنّ التَّبشير بالمسيح ليس حَكرًا على الكهنة فقط من خلال احتفالهم بالذّبيحة الإلهيّة، بل إنّ التّبشير بالمسيح هو رسالة كُلِّ مؤمنٍ، إذ إنّه مدعوٌّ إلى التَّبشير بالمسيح في حياته اليوميّة.

إنّ سُلَّم الفضائل الّذي وَضعَه يوحنَّا السُّلميّ هو موجَّهٌ أوّلاً إلى الكهنة، وَهُم مدعوُّون إلى الالتزام به قبل المؤمِنين. إنّ رؤساء الكهنة يسألون كهنَتهم، عن مدى عَيشِ هؤلاء هذه الفضائل، فيكون الجواب إنّهم لم يَنجحوا بعد في عَيِشها جميعها، ولكنّهم يَسعَون باستمرار إلى عَيشِها وتطبيقها في حياتهم اليوميّة، إذ لا أحدَ كاملٌ على هذه الأرض. إنّ السَّعي لِعَيشِ هذه الفضائل هو كَفيلٌ بأن يَجعلنا نَعيشُ الحياةَ المسيحيّةَ بِشَكلٍ أفضل.

“أعِن قِلَّة إيماني”: إنّ هذه العبارة، الّتي وردَتْ في هذا النَّصّ الإنجيليّ، قد صَدَرت عن رجُلٍ ابنُه مطروحٌ على فِراش الموت. عند سَماعِ الربِّ نداءَ هذا الرَّجل، قال له: “إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِن” (مر 9: 23). لم يسأل الربُّ هذا الرَّجلَ عن هويّته كأن يقول له: “مَن أنتَ؟”، فمجرَّد قُدوم هذا الرَّجل إلى الربّ لِطَلبِ شِفاء ابنِه يَدلُّ على إيمانه به، فلو لم يكن مؤمِنًا بالربّ لَما جاء إليه.

إذًا، لقَد اعترَفَ هذا الرَّجلُ بإيمانِه بالربّ، ولكنَّه في أعماقِه شَعرَ بأنّه قد بالغ في قَولِه للربّ إنّه يؤمِن به حقًّا، لذا أرفَقَ عِبارةَ “إنِّي أؤمِنُ يا ربّ”، بعبارة “أعِن قِلَّة إيماني”، وبالتَّالي لقد طَلب هذا الرَّجلُ مِن الربّ أن يساعده كي يُصبح إيمانه حقيقيًّا به. كي يُصبح إيماننا حقيقيًّا بالربّ، علينا أن نسعى لِعيش الفضائل الّتي كلَّمنا عليها يوحنَّا السُّلَّمي، وأهمُّها الإيمان والرَّجاء والمحبَّة. إنّ المحبَّة تعني محبَّة إخوتي الّذين أعيشُ معهم، إضافةً إلى محبَّة كُلِّ الّذين يُحيطونَ بي. وإذا رَفضتُ لسببٍ ما محبّة أحد الأشخاص، عليّ أن أتذكَّر ما قام به الربُّ يسوع وكيف تصرَّف تجاه قلَّة محبَّة البشر؛ فالربَّ يسوع قد صُلِب من أجل جميع البشر على الرُّغم من الإساءات الّتي تعرَّض لها مِن قِبَل المحيطين به، وهو ما زال يتعرَّض للإساءة إلى يومنا هذا. وبالتّالي، عَليّ محبَّة الجميع من دون استثناء لأنَّ الربَّ قد أحبَّ جميع البشر ومات مِن أجلِهم. إنّ الرَّجاء هو أساسيٌّ للإيمان، فمِن دون رجاء، لا نستطيع أن نُدرِك بِمَن أو بِما نؤمن، لذا علينا التَّمسُّك بالرَّجاء والمحافظة عليه في قلوبنا.

إنّ رَجاءنا، نحن المسيحيِّين، هو في المسيح يسوع المخلِّص الّذي مات على الصَّليب وقام من بين الأموات، ولولا موتُ الربِّ وقيامتُه من بين الأموات، لَما وُجِدَت “المسيحيّة”. إنّ إيمانَنا بالربِّ يجبُ أن يَكونَ إيمانًا مُطلقًا به، إذ لا نستطيع التَّقسيم ما بين الإيمان والرَّجاء والمحبَّة، فنُعطي كلَّ فَضيلةٍ منها جزءًا في حياتنا، استنادًا إلى مَزاجِنا الّذي يتغيَّر في كلِّ يوم. عندما نرسم، نحن البيزنطيِّين، إشارة الصَّليب، نؤكِّد إيمانَنا باللّه المثلَّث الأقانيم، كما نعترف بأنّ الربَّ يسوع لديه طَبيعَتان: إلهيّة وإنسانيّة، وهذا يعني أنَّ الربَّ هو إلهٌ كاملٌ وإنسانٌ كامل. إذًا، إنَّ الفضائلَ الإلهيّة الثّلاث: الإيمان والرَّجاء والمحبَّة، يجب أن تكون موجودة في حياتنا بطريقةٍ كاملةٍ غير قابلة للتَّقسيم. إنّ الربَّ قد صُلب على الصّليب ومَنح بذلك خلاصَه لِجَميع البشر، من دون تخصيصِ فِئةٍ دون أُخرى. وهذا ما أكَّد عليه بولس الرَّسول حين قال: “إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَقُولُ: “أَنَا لِبُولُسَ”، و”أَنَا لأَبُلُّوسَ”، وَ”أَنَا لِصَفَا”، و”أَنَا لِلْمَسِيح”ِ. هَلِ انْقَسَمَ الْمَسِيحُ؟” (1 كور 1: 12-13). إذًا، إيماننا ورجاؤنا ومحبَّتُنا يجب أن تَكون، جميعُها، مُطلَقةً بالمسيح، لأنّه هو الوحيد القادر على إيصالِنا إلى فرحِ القيامة، بِنِعمة الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp