“إنّ حبّة الحِنطة إنْ لم تَقع في الأرض وتمُتْ تبقى وَحْدَها…” (يو24:12)

بقلم سيادة المطران بولس الصياح،

نَنْظر إلى يسوع معلّقًا على الصّليب يوم الجمعة، فنُشاهد الألم في أفظع مظاهره، ونحدّق أكثر فنَرى  التّضحية في أبهى حُلَلِها. وأمام القمّة في الحقد والظلم ظهَر غفران يسوع لِقاتلِيه، فكان الانتصار الكبير للحبّ على البغض والشرّ.

ونتذكّر الليلة السابقة لِحَدث الصّلب، وكيف أعطى تلاميذه والعالم جسده ودمه … ثمّ غسَل أرجل تلاميذه… لِيوضح حقيقة رسالته، بل سبب مجيئه إلى العالم إذ قال: “إنّ ابن الإنسان لم يأتِ لِيُخدَم بل لِيَخدم ويفدي بِنَفسه جميع النّاس” (مت 28:20). وبعد أنْ غسَل أرجل تلاميذه قال لهم: “فإذا كنتُ أنا الربّ قد غسلتُ أقدامكم، فيَجب عليكم أنتم أيضًا أنْ يغسِل بعضُكم أقدامَ بعض” (يو 14:13). هذه هي الصورة الحقيقيّة لِجَوهر حياة يسوع ولمعنى آلامه والصّليب؛ إنّه الخادم المحبّ المتواضع والمضحّي الذي “وهو في صورة الله… تجرَّد من ذاته متّخذًا صورة العبد… فوَضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصّليب، فرَفعه الله إلى العلى” (في2: 6-8)، أي أقامه من الموت وأصعده إليه. كان عليه أن يموت، كما حبّة الحِنطة، لكي يعبُر إلى القيامة، وكان عليه أن يرتفع لِيَرفع الجميع الى الله.

التّضحية في سبيل أنْ يحيا الآخرون هي أعمق معاني الصّليب، ويبقى التجسّد والفداء الحقيقة الأساس في المسيحيّة، والفداء هو في صلب الدعوة التي يوجّهها يسوع إلى كلّ الذين قرّروا أنْ يَتبعوه: “مَن أراد أن يتبعني، فليَزهد في نفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مت 16: 24). إنّ الصِلة بين اتّباع يسوع وخدمته هي من المعطيات الأساسيّة في الإنجيل، وكذلك هي العلاقة بين خدمة يسوع وخدمة المتألّم والمهمّش والمريض والغريب وكلّ محتاجٍ، إنّهم إخوته: “…كلّ ما صنَعتم لِواحد من إخوتي هؤلاء الصِّغار، فلي صنعتموه”(مت40:25)، و

“أي مرّة لم تصنعوا ذلك لواحد من هؤلاء الصّغار، فلي لم تَصنعوه” (مت 45:25). يأخذ الصّليب معناه فقط في القيامة، كما تأخذ حياة الإنسان معناها في التّضحية والخدمة والعطاء.

نعيش في لبنان أيامًا عصيبةً، ولكن لا بدّ لها أنْ تمرّ. وجميلٌ ما نشهده عند أبناء بلدنا وبناته، على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم،كبارًا وصغارًا، شابات وشبانًا، من اندفاعٍ للخدمة. رأيناهم بكثافةٍ الى جانب مَن نُكبوا في الكارثة الأخيرة التي حلَّت بِبيروت، كما سبَق ورأيناهم قبل ذلك إلى جانب كلّ محتاجٍ. وكم هو جميلٌ أنْ نَنمو كلّنا في روح الخدمة هذه ونستمرّ فيها. إنّها علامة رجاءٍ في خِضَمّ المحنة، إنّه الإيمان بأنّ حبّة الحِنطة يجب أن تموت لكي تعطي الثمر، فتأخذ آنذاك الحياة معناها.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp