محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

خادم رعيّة السيّدة – راشيا الوادي، البقاع.

“إيمان القدّيس توما الرّسول”

أودّ أن أتأمّل معكم اليوم، في الحادثة الّتي جرَتْ مع الرَّسول توما. في ليلة الأحد، كان التّلاميذُ مجتمعِين في العليّة وكانت الأبواب مُوصَدة خوفًا من اليهود، فإذْ بِيَسوع يحضر في وَسَطِهم ويقول لهم: “السّلام لَكم”، غير أنَّ الرَّسول توما لم يكن حاضرًا معهم. ولكنْ حين ظهر الربُّ مرّة أخرى للتّلاميذ، كان توما حاضرًا. وهنا يُطرَح السؤال: لماذا لم يكن توما مع التّلاميذ حين ظهر لهم الربّ للمرّة الأولى؟ ألَم يكن خائفًا كبَقيّة التّلاميذ مِن اليَهود؟ أكان في العَمل؟ فجميعهم لديهم أعمال. أكان مع عائلته؟ فالجميع لديهم عائلات.

وبالتّالي، يُطرَح السؤال: لماذا لَـمْ يكن توما مع التّلاميذ؟ إنَّ هذا السؤال لا نجد له جوابًا إلّا من خلال إدراكِنا لِقصّة الرَّسول توما: فهذا الرَّجل، أي توما الرَّسول، لم يتمكّن من تصديق أنَّ يسوع قد انتهَت قِصتَّه بموته على الصّليب؛ لذا تفرّغ للبَحث عن ما يُبلسِم له حُزنه فيما يتعلَّق بيسوع، علَّه يجد نهاية أخرى له.

إنَّ الرَّسول يُدعى توما، أي “التَّوأم”، وهذه الكلمة تدلّ على وجود شَخصَيْن متشابِهَين جدًّا. إنَّ الرَّسول توما هو “تَوأمٌ” لكلّ مؤمِنٍ، إذ قد قام بما لم يتَجرّأ أيُّ مؤمِن على القيام به على الرُّغم من شكِّه بقيامة الربّ. إنّنا نتذكَّر شكَّ الرَّسول توما بقيامة المسيح، وننسى أنّ شكَّه هذا قاده إلى الإيمان بالربِّ يسوع القائم من الموت. إنّ الطابع السلبيّ لرسوليّة توما، الّذي هو الشَّك، هو الّذي يغلب في أذهاننا، على الطَّابع الإيجابيّ وهو الإيمان. كان الرَّسول توما رافضًا لحقيقة موت المسيح، لذا كان يبحث عن حقيقة أخرى للربّ يسوع، ألا وهي القيامة، وعندما تأكَّد من ذلك يوم ظهر له الربّ أثناء وجوده مع التّلاميذ، أعلَن إيمانه بالربّ. إنَّ الرَّسول توما أراد لَمس يسوع، ليؤكِّد ما هو مؤكَّدٌ بالنِّسبة له في ذِهنه، أراد تثبيت ما كان يُفكِّر به؛ لذا نقرأ في اللِّيتورجيا، قول الربّ لِتُوما: “إبحَث في رِجليَّ ويديَّ”.

إنَّ الربّ يسوع لم يَدْعُ توما إلى الإيمان به، بل إلى لَمْسِ ما كان يبحث عنه؛ لذا قال الرَّسول توما للربّ: “أنت الربُّ الّذي لي، أنت الله الّذي لي”. إنَّ كلمة “الربّ” لا تُقال إلّا للربّ يسوع، وكلمة “الله” في الكتاب المقدَّس، لا تُقال إلّا لله الآب. وبالتّالي، إنّ اعتراف توما الرَّسول هو أوّل اعترافٍ إيمانيّ بالثّالوث الأقدس، وتحديدًا بمساواة الله الآب والابن.

إنَّ اعتراف توما الرَّسول هو اعترافٌ لم يتجرَّأ أحدٌ من الرُّسل على قوله: فحين اعترَفَ بطرس الرّسول بالربّ قائلاً فيه: “أنت ابن الله الحيّ” (متّى 16: 16)، كان جواب الربِّ يسوع له إنّ هذا الكلام الّذي نَطَق به بطرس هو مُوحى له من الله الآب، لأنّه لا أحد من البشر يستطيع أن يقول هذا الكلام. وعلى إثرِ سماع الربّ هذا الكلام من بُطرُس قال له: “أنتَ صَخرٌ، وعلى هذه الصَّخرة سأبني كَنيستي” (متى 16: 18). لقد اعترف توما بالربّ لا إلهًا وربًّا فحسب، بل اعترف به إلهَه هو وربَّه هو، أي أنَّه اعترَف بالربِّ يسوع سيِّدًا علَيه ومُخلِّصه الخاصّ.

عند اكتشاف توما لقيامة الربّ، من خلال اختباره لعلامات الصّلب والموت، تَغيَّرت حياته، فانطلق للتَّبشير بقيامة الربّ في الهند. إنَّ الربّ قد أظهر قيامته لِتُوما الرَّسول من خلال علامات الصّلب لا من خلال علامات القيامة، إذ طلب الربُّ من توما لَمس يَديَه ورِجلَيه حيث آثار الصّلب والعذاب، لا التّركيز على كيفيّة دخول الربّ إلى العليّة والأبواب مُوصَدة.

إنّ علامات الصّلب الّذي ترمز إلى العار والعبوديّة، قد تحوَّلت إلى علامات لقيامة الربّ يسوع، فأصبحت مَصدر افتخارٍ للمؤمِنِين. فمثلاً، حين يكون الإنسان عبدًا ويتلقّى العذابات مِن سيِّده، يسعى إلى إخفائها عن الآخَرين؛ ولكن حين ينال هذا العبد الحريّة، فإنّه يسعى إلى إظهار علامات العذابات الّتي نالها في عبوديّته ليُبرهِن للآخَرين أنّه كان عبدًا، ولكنّه أصبح اليوم حُرًّا. وهذا ما عبَّر عنه الرَّسول بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس إذ قال: “وإنّما شِئْتُ أنْ لا أعرف شيئًا، وأنا بينَكم، غير يسوع المسيح، بل يسوع المسيح مَصلوبًا”(1كور 2: 2)، ولكن هذا لا يعني أنّه على المؤمِن الافتخار بآلام الربّ بحدِّ ذاتها، إنّما بقيامة الربّ الّتي تشكِّل تلك العذابات دليلاً واضِحًا على حُدُوثِها، إذ لا يمكننا الكلام عن قيامة الربّ بمَعزِلٍ عن آلامه الخلاصيّة.

على المؤمن ألّا ينظر إلى آلامِه انطلاقًا من نظرته إلى آلام الربّ يسوع على أنّها مَصدَر موتٍ وعارٍ، قائِلاً: “مع آلامِك يا يسوع”، بل عليه أن ينظر إليها انطلاقًا مِن آلام يسوع الّتي تحوَّلت إلى مَصدر قيامة وافتخار، فيتحمَّل المؤمِن أوجاعه لا بِيَأسٍ وحزنٍ، بل بفرحٍ لأنّها ستقوده إلى القيامة.

إذًا، علينا أن ننظر إلى الصّليب نظرة افتخارٍ لا نظرةَ عارٍ، إذ إنّه علامةٌ تؤكِّد القيامة الّتي اكتشفها توما الرَّسول حين ظهر له الربّ عندما كان مع التّلاميذ في العليّة. وهذا ما عبَّر عنه بولس الرَّسول أيضًا في رسالته إلى أهل رُومية، إذ قال: “وأنا على يَقين أنَّ لا الموتَ ولا الحياةَ، ولا الملائكة ولا رؤساء الملائكة، ولا الحاضر ولا المستقبل، ولا قِوى الأرض ولا قِوى السَّماء، ولا شيءَ في الخليقة كلِّها قادرٌ أن يَفصِلَنا عن محبّة الله في المسيح يسوع ربِّنا” (رو 8: 38-39).

وهنا يُطرَح السؤال على المؤمِنِين الّذين احتفلوا بِعِيد الفِصح: ما الّذي تغيَّر في داخلكم بعد اكتشافِكم لقيامة المسيح؟ ليسَت قيامة الربّ حَدثًا تاريخيًّا تمّ في القديم مع الربّ يسوع وانتهى في حينه، بل هو حَدَثٌ يتكرَّر يوميًّا مع المؤمِنِين، وهو استباقيّ لليوم الأخير. إنّ قيامة الأموات ستتمّ في اليوم الأخير، أي في الآخِرة، وبالتّالي حين يُعلِن المؤمِن قيامة المسيح، فهذا يعني أنّه يُعلِن أنَّ الآخِرة قد أتتَ، ولذا على المؤمِن أن يتصرَّف في حياته الأرضيّة كأنّه في الملكوت، فيترك شهواته الأرضيّة ويسعى إلى العيش مع الربّ حياة جديدة أبديّة.

حين يُعلِن المؤمِن للآخَرين أنّ المسيح قام، فهذا يعني أنّه يُعلِن لهم مجيء آخِرَته الأرضيّة وبداية حياته الأبديّة في السّماء مع الربّ، إذ قد تمَّت قيامة الأموات بقيامة الربّ يسوع؛ وبالتّالي على حياة الإنسان أن تشهد تغييراتٍ جذريّة تتناسَب مع ما يُعلِنه هذا الأخير من إيمانٍ بالربّ يسوع. فإنْ لم تتغيَّر حياة الإنسان الأرضيّة بعد إعلانه القيامة، فهذا يدلّ على أمرَيْن، هما: إمّا أنَّ المؤمِن لم يتمكَّن من اختبار القيامة وهو ما زال في إطار البَحث عنها، كما كان الرَّسول تُوما قبل أن يعلِن له الربّ القيامة، وإمّا أنَّ القيامة بالنِّسبة للمؤمِن هي حَدَثٌ تاريخيّ وقد انتهى.

إنَّ قيامة الربّ يسوع قد تمّت، وقد أرادها الله الآب أن تكون استباقيّة لليوم الأخير كي يتمكَّن كلُّ مؤمِنٍ مِن رؤية آخِرته قبل أنْ يُحاسِب الربُّ المؤمِنِين على خَطاياهم. عندما جثا توما أمام الربّ واعترف بإيمانه بقيامة الربّ، أسقَط عنه كلّ ما هو عتيق فيه، فكانت نهاية كلّ قديمٍ فيه. إنَّ الرَّسول توما هو مَصدَر افتخارٍ للمؤمِنِين لا بسبب شكِّه بقيامة الربّ إنّما بسبب إيمانه بها، وهو مِثالٌ لكلِّ مؤمِنٍ يبحث عن الحقيقة، لذا نستطيع اعتباره “التَّوأم” لكلّ منّا. عند قيامة الربّ يسوع من الموت، تحقَّقت الآخِرة بالنِّسبة للرُّسل، لذا انطلقوا في إعلان قيامة الربّ لكلّ المسكونة.

إنَّ توما هو مِثال الإنسان المؤمِن بالربّ، المدعوّ إلى إحداث تَغييرات جذريّة في حياته، تعبيرًا عن إيمانه بقيامة الربِّ يسوع. وهذه التَّغييرات تتمّ على مستوياتٍ ثلاثة، هي: المستوى الذهنيّ أو الفِكري، المستوى اللَّفظي أو الكَلاميّ، وأخيراً المستوى السُّلوكي. إنّ تغيير الإنسان في سلوكه يُعبِّر عن قبوله بالقيامة، ولذا فَهو ضروريٌّ جدًّا ولو في أمور بسيطة جدًّا، كمسامحة الـمُسيئين إليه، والتَخلِّي عن بعض الشَّهوات الأرضيّة الّتي هي مَصدر لخطايا المؤمِن. إنَّ عبارة “المسيح قام” الّتي نردِّدها في زمن الفِصح ليست مجرَّد تحيّة فِصحيّة، بل هي عبارة تدلّ على إعلاننا أنّ آخِرَتنا القديمة قد حلّت، بقيامة المسيح من الموت.

حين يُعلِن المؤمِن للآخَرين القيامة قائِلاً: “المسيح قام”، فهذا يعني أنّه يعِلن للآخَرين أنَّ آخِرتَه وآخِرتَهم قد تمَّت، فإن كان الآخَرون مؤمِنِين بذلك الكلام، نسمع جوابهم التَّأكيديّ على ذلك من خلال قَولِهم “حقًّا قام”، الّتي تعني أنّ آخِرَة جميع النّاس قد تحقَّقت فِعلاً بقيامة المسيح.

إنَّ تأكيد حَدَث القيامة لا يتمّ إلّا من خلال السّعي إلى إجراء تغييرات جذريّة في داخل المؤمِن الّتي لا يستطيع أحدٌ تأكيد حصولِها إلّا الإنسان نفسه. إنَّ المسيح بَقِيَ أربعين يومًا مع تلاميذه بعد القيامة، ليقول لنا، إنَّه على المؤمِن السَّعي للتَّغيير في داخله وأنّ الوقت لا زال مُتاحًا لذلك، طالما أنَّه لا يزال حيًّا في هذه الحياة، ولم تتحقَّق آخِرَته الفِعليّة بعد، من خلال انتقالِه من هذا العالم إلى الحياة الأبديّة.

إنّ إعلان القيامة لم يتمّ من خلال ظهور الربّ لِتُوما وحسب، بل من خلال ظهورات الربّ لأشخاص عِدَّة، ومنها لمريم الّتي ذَهَبَتْ إلى القبر في صباح الأحد، لِتُحنِّط جسده. عندما ذهبَتْ مريم إلى القبر، لم تتمكَّن من التَّعرف إلى الربِّ يسوع الّذي ظَهر لها بهيئة بُستاني. لقد حاولَتْ مريم أن تَلمُسَه ولكنَّه منعها لأنّه لَم يصعد بعد إلى أبيه السَّماوي. لم يَقُل الربُّ لمريم: “لا تلمُسيني”، كما تظهر العبارة في بعض التَّرجمات الكتابيّة، بل قال لها: “كُفيّ عن التمسُّك بي”، استنادًا إلى التَّرجمة الحرفيّة للكلمة من اللُّغة اليونانيّة.

إذًا، على المؤمِن عدم التمسُّك بالربّ القائم والتّعامل معه كما عَرَفه قبل القيامة، لأنَّ معرَفتنا الجسديّة للربّ مختلفة عن مَعرِفَتنا به بعد القيامة، إذ بعد القيامة، تمّت نهاية كلّ قديم، وبدأت حياة جديدة مع الربّ.

لا يمكن لمريم الّذي ذَهبَتْ إلى القبر أن تتعامل مع الربّ القائم كما كانت تتعامل مع يسوع النّاصريّ الّذي عَرفَتْه مُعلِّمًا، قبل الصّلب والقيامة، فالربُّ الآن هو ذو جسدٍ ممجَّدٍ، وعمّا قريب سيصعد إلى أبيه الّذي في السّماوات. لذا لا يجوز للمؤمِن الحيّ في هذه الحياة الأرضيّة، أن يتعامل مع الربّ القائم الّذي انتقل إلى الحياة الأبديّة كما كان يتعامل معه قَبْل القيامة. لقد طَلب الربُّ من هذه المرأة أن تُخبر الرُّسل بقيامته من بين الأموات، فكانت أوّل رسولة ومبشِّرة بقيامة الربّ. إنَّ الرُّسل الّذين بشَّروا العالم كلَّه بقيامة المسيح، قد تلَقّوا بشارة القيامة من مريم الّتي ظهر لها الربّ يسوع بِهَيئة بستانيّ.

كذلك ظهر الربُّ لِتلميذَي عمّاوس، وأعلن لهم بشارة القيامة. لقد ظهر الربُّ لِتلميذَي عمّاوس كغريبٍ إذ سار معهما على الطَّريق من دون أن يتمكَّن التِّلميذَان من مَعرِفَته، لأنّهما نظرا إليه بعيونهما القديمة المبنيّة على الصّلب والموت، لا بعيون القيامة. قام هذا “الغريب” أي الربّ، بشرح كلّ ما يتعلَّق به في الكُتب المقدَّسة للتِّلميذَين، ولكنَّ عيونهما بَقيت مُغمَضة عن حقيقة هذا الغريب إلى حين كَسْرِ الخبز.

لقد انفتحت أعينهما وعرفا الربّ عندما كَسَر الخبز معهما وناولهما ليأكُلا منه، وهذا يُشير إلى أنّ المؤمِن لا يمكنه أن يُدرِك حقيقة الربّ يسوع القائم من الموت، إلّا من خلال مشاركته الإخوة في الذبيحة الإلهيّة. نحن نعيش القيامة في كلِّ قدَّاسٍ إلهيّ، إذ في كلّ ذبيحةٍ إلهيّة ندخل نحن التُّرابيّين إلى مملكة الآب، بجسدنا العتيق، ولكنّنا نخرج بعد انتهاء الذبيحة الإلهيّة، بأجسادٍ نُورانيِّة، أي بحُلَّةٍ جديدة.

إنَّ المعمَّدين وَحدهم هُم الّذي يستطيعون إعلان قيامة الربّ يسوع، فحسب الإنجيليّ مَرقس، إنّ الربّ قد ظهر بعد القيامة للمؤمِنِين به، تحت هيئاتٍ مختلفة منها: هيئة الغريب لتِلميذَي عمّاوس، هيئة البستاني لمريم عند مجيئها لِتَحنيط جَسَدِه، وبهيئة شابٍ يافعٍ. إنَّ مرقس الإنجيليّ يُخبرنا أنَّ هذا الشّاب اليافع الّذي أعلن قيامة الربّ عند القبر، مرتديًا حُلَّةً بيضاء، كان حاضرًا عند اعتقال يسوع، وقد تعرَّى من ثيابه في بستان الزّيتون. إنّ العُري يرمز إلى العبوديّة، أمَّا الثَّياب البَيضاء فترمز إلى الحُلَة الّتي يرتديها المعمَّدون.

إنّ الـمُعمَّد يتعرَّى من ثيابه تعبيرًا عن حالة العبوديّة الّتي وَقع فيها، ويُغطَّس في الماء ويَصعد منها دلالة على موته وقيامته مع المسيح، ثمّ يرتدي بعد ذلك حُلَةً بيضاء، دلالةً على تغيير في حالته الأولى إذ أصبح ابنًا لله.

لم يَظهَر الربّ لكلِّ إنسان آمَن به، أو شكَّك بحقيقة قيامته، بل أفسَح المجال للّذين عاينوا قيامته، أي الرُّسل، للتّبشير بما اختبروه في القيامة. وهنا نستطيع أن نفهم كلام الربِّ يسوع لِتُوما الرَّسول: “لأنّك رأيتني آمنت! طوبى للّذين أمنوا ولَم يَروا” (يو 20: 29). إنّ يوحنّا الإنجيليّ هو أحد الّذين آمَنوا مِن دون أن يَروا الربّ، إذ يُخبرنا النَّص الإنجيليّ إنّه عندما دَخل يوحنّا مع بطرس إلى القبر، لم يرَ الربّ يسوع، ولكنّه آمَن بقيامَته. إنَّ القَبر الفارغ، كان بالنِّسبة لهذَين الرَّسولَين علامةً على قيامة الربّ، إذ على الرُّغم من أنّهما لَم يَريا الربّ، آمَنا بالقيامة، ولم يَعتَبرا أنّ جثمان الربّ قد تعرَّض للسرقة، كما أشاع اليَهود.

إذًا، لا يستطيع المؤمِن أن يُعلِن قيامة الربّ للآخَرين، إنْ لم يلمس وجود قَبرٍ فارِغٍ في حياته. في القبر، تُوضَع جثامين الموتى، وحين يكون القبر فارغًا، فهذا يشير إلى زوال الموت. وبالتّالي، بعد إعلانه قيامة الربّ من الموت، على المؤمِن التخلِّي عن كلّ صُوَر الموت الموجودة في داخله كالحِقد والكراهيّة وكلِّ صُوَر الخطيئة. إنّ قلبَ المؤمِن الفارغ من كلِّ صُوَر الموت هو دليلٌ قاطعٌ على حدوث تغييرات جذريّة في داخِلِه، وهذه التَغييرات تنعكس لا على علاقته بالله وحسب، إنّما أيضًا على علاقته بالآخَرين الـمُحيطِين به. ولذا يستطيع المؤمِن إعلان تحقيق الآخِرة، قائلاً “المسيح قام”، إذ تمكَّن من اختبار المسيح القائم من الموت ومعرِفته إذ ظَهر له بهيئاتٍ مختلفة: الإنسان المهمَّش والمتروك، أو الشّاب اليافع أو البستانيّ.
لم يتمكَّن الربّ من إعلان كلمة الله للشَّعب قبل بلوغه الثّلاثين من عُمِره، إذ قبل هذا السِّن ما كان لِيَجِد مَن يسمَع له ويُصغي إلى البشارة الّتي يُعلِنها بِجَدِّية.

إنَّ الربّ لم يُعلن قيامته لِمَلِكٍ عظيم، أو زعيمٍ كبيرٍ، أو مفكِّر وفيلسوف، بل أعلنها لامرأةٍ على باب القبر الفارغ ولرُسُلِه، أي أنّ إعلان القيامة قد تمَّ من خلال أشخاصٍ مهمَّشين مِن قِبَل المجتَمع. لم يختَر الربُّ عظماء المجتمع لنَقل بشارة القيامة، بل اختار بسطاء الشّعب وأرسلهم للبشارة به، إذ لا يحتاج الربّ إلى أفكارٍ عبقريّة لنقل البشارة بل إلى لِسان البُسطاء. أمام خوف الرُّسل من انطلاقهم للبشارة بالقيامة، أرسلَ الربّ لهم الرُوح القدس، في اليوم الخَمسِين، على شكلِ ألسِنَةٍ من نار. للنّار وظِيفَتَان: التنوير والحرَق، فالنّار تُنوِّر طريق السائرِين في الظُّلمة، كما أنّها تحرقُ كلّ ما يعترِض طريقها. على المؤمِن أن يُعلِن بشرى قيامة الربّ للآخَرين: فإذا قَبِلُوها، تنوَّروا وصحَّحوا مسيرتهم، سائِرين في طريق الحقّ؛ وأمّا إنْ رَفضُوها، فإنّ كلمة الله ستُحرِقهم بنارِ الخسارة والحسرة، لأنّ الفُرصَة قد أُتيحَت لهم لقبول كلمة الله وهم قرَّروا رَفضَها.

إنَّ الصّوم الّذي يرتكز على الانقطاع عن الطّعام وزيادة الصّلوات يُصبح سهل العَيْش والتَّحقيق، أمَام ما ينتظِر المؤمِن عند إعلانه القيامة، إذ عليه تغيير مسيرته الدَّاخليّة لكي تُصبح منسجمة مع إعلانه لإيمانه بقيامة الربّ وحلول الآخِرة. عند إعلانه قيامة الربّ، يُصبح المؤمِن مَدْعوًا لا إلى التّوبة عن خطاياه وحسب، بل إلى اتِّباع نهجٍ جديد، تماشيًا مع إيمانه بالقيامة.

إنّ إعلان المؤمِن للقيامة، يتطلّب منه إجراء تغييراتٍ جذرية في داخله، تنعكس على المحيطِين به: من أهلٍ وأصدقاء، لا بُدَّ لهم من أن يتأثَّروا بها. هذا ما حَدَثَ مع الرُّسل: فبَعد العنصرة، ألقى بُطرس الرّسول خُطابًا على جموعٍ غفيرةٍ من النّاس (أعمال الرُسل2: 14-42)، ما يُقارب الخمسة آلافٍ رجل، فآمَن الكثيرون نتيجة إعلانه لبشارة المسيح، واعتَمد قِسمٌ كبيرٌ منهم بِاسم المسيح؛ وكذلك الأمر مع بولس الرَّسول الّذي بشَّر بقيامة الربّ في المسكونة كلِّها. غير أنَّ البعض لم يَقبلوا، فقرَّروا قَتْلَ كلِّ مَن يُعلِن تلك البشارة، فمات بطرس الرَّسول مصلوبًا رأساً على عَقب، ومات بولس الرَّسول بِقَطع الرأس. لم يتقبَّل مُحبُّو الباطل علامات القيامة، أي سرّ الصّليب، أو سرّ الحبّ.

إنَّ علامات الصّلب قد أصبحت علامات للقيامة، لذا قال الربُّ لرُسُلِه، حين ظَهر لهم: “جسّوني وانظروا، فإنَّ الرُّوح لا لَحم له ولا عَظمَ كما تَرَون لي” (لو 24: 39)، ثمّ تناولَ معهم الطَّعام وكان سَمَكاً. إنّ كلمة “سَمَكة” في اليونانيّة، هي كلمة مؤلَّفة من خمسة أحرف، يشكِّل كلّ حرفٍ منها بداية لِكَلمة تتعلَّق بالمسيح، إذ جُمعَت كلّها، شكَّلت موجزًا عن حقيقة المسيح يسوع وهو: “يسوع المسيح ابن الله المخلِّص”.

بعد القيامة، لم يُشارِك الربّ تلاميذَه إلّا بتَناوُل طعام السّمك. مِن العلامات الّتـي تدلّ على المسيحيّة: الصّليب، السَّمكة، والـمِرساة. إنَّ الـمِرساة هي الّتي يستعملها الصّيادون لكي يُثبِّتوا سُفُنَهم على الشاطئ، فَهيَ الّتي تجعلُ السُّفنَ قادرةً على مواجهة العواصِف من دون خَطَر. لقد أكلَ الربُّ مع تلاميذه بعد القيامة، ليُذكِّرهم بعشائه الأخير معهم، حين أعطاهم جسده ودَمه طعامًا لهم، قائلاً: “خذوا كُلوا، هذا هو جَسَدي. خُذُوا اشربوا، هذا هو دَمي” (مر 14: 22 و24).

إنّ الجَسد يرمز إلى الحضور، والدَّم يرمز إلى الحياة، أي أنَّ الربَّ قد أعطى ذاته لتلاميذه، أعطاهم حضوره وحياته. إنَّ الربَّ لم يتناول السَّمكة كاملة مع تلاميذه، بل أكل نِصفَها تاركًا النِّصف الآخَر منها لآخَر محتاجٍ لها، ألا وهو غير اليهود، أي الأُمم. بعد قيامته من الموت، تغيّرت نظرتُنا إلى المسيح، إذ لم يعد بالنِّسبة لنا، ذلك الإنسان النّاصريّ والمعلِّم، بل أصبح المخلِّص. إنَّ اعتراف توما بالربّ يسوع إلهًا له، يدلّ على أنَّ الربَّ يسوع قد أصبح بالنِّسبة له كلّ شيء، إذ لم يَعُد باستطاعة الرَّسول أن ينظر إلى هذه الحياة الأرضيّة إلّا انطلاقًا مِن نظرة المسيح القائم من الموت.

بعد قيامة الربّ يسوع المسيح من الموت، أدرَك الرُّسل معنى العهد القديم، انطلاقًا من نظرتهم للمسيح القائم من الموت. إنَّ الربَّ يسوع قد فسَّر لتِلميذَي عمّاوس الكُتب المقدَّسة، أي كلّ نبوءات العهد القديم المتعلِّقة به، ثمّ أعطاهما ذاته تحت شكل الخبز، فتمكَّنا حينها مِن معرِفته.

في احتفالنا بعيد الفِصح، نختبر قيامة الربِّ يسوع من خلال قراءتنا لاختبارات الأشخاص الّذين عاينوا القيامة، كحاملات الطِّيب، ومريم الّتي ذهَبَت إلى القبر لتُحنِّط جسد الربّ، وكذلك من خلال الرُّسل أمثال بطرس ويوحنّا. إنَّ حاملات الطِّيب قد قَصَدْنَ القبر صباح الأحد، فوجَدْنَه فارغًا؛ كذلك مريم الّتي تراءى لها الربّ في هيئة بستانيّ، وَجَدت القبرَ فارغًا؛ وهذا ما اكتشفه بطرس ويوحنّا حين ذهبا ليتأكَّدا مِن كلام مريم وبقيّة النِّسوة اللّواتي أَخبرنَهم بقيامة الربّ. بعد القيامة، لم يكن هناك هيئةٌ واحدةٌ، يعتمدها الربّ في ظهوره للمؤمِنِين به، بل كان يظهر في كلّ مرَّةٍ بهيئةٍ مختلفة.

إنَّ المطران خُضُر، يَصِف المسيحيّين بالقياميّين، والمقصود بتلك العبارة أنّ بذور القيامة قد زُرِعَت فيهم، غير أنّنا نلاحظ تناقضًا كبيرًا في نمط عَيش بعض المسيحيّين إذ نجد أنَّ تصرّفاتهم لا تعكس إيمانهم بالقيامة التّي يُعلِنونها بأفواههم؛ فالمسيحيّون للأسف، يتصرّفون كَمَن لم يختبر القيامة بعد، إذ نجد أنَّ صُوَر الصّلب والموت ما زالت مَطبوعة في تصرّفاتهم. في هذا الإطار يقول لنا بولس الرَّسول إنَّه بعد قبول المؤمِن سرّ العِماد تعبيرًا عن قبوله بقيامة الربّ، عليه أن يسلك كإنسان قِياميّ، على مِثال المسيح القائم من الموت.

إنَّ المسيحيّين يَمتنعون عن إعلان القيامة للآخَرين إمّا خَوفًا من تَعرُّضهم للاضطهاد، وإمَّا خَوفًا على مَصالِحهم الأرضيّة. إنَّ الإنسان الّذي يشعر بالأمان مع الآخَرين المحيطين وبتأمين معيشته، لا يتردَّد في إعلان البشارة لأنَّه لا يخاف على وجوده؛ ولكنْ حين يشعر الإنسان بالخوف على حياته أو على معيشته، فإنَّه يفضِّل السُّكوت وعدم إعلان بشارة القيامة في سبيل المحافظة على ما يؤمِّن بقاءه في هذه الحياة. حين يختبر الإنسان قيامة المسيح في حياته، يزول كلُّ خوفٍ موجودٌ في داخله، وهذا ما دَفع الرُّسل إلى الانطلاق في البشارة والكرازة بالقيامة في المسكونة كلِّها من دون خوفٍ من اليَهود أو مِن الصِّعاب الّتي ستواجههم.

إنَّ القيامة هي نهاية لحياة قديمة وبداية لحياة جديدة: عندما دَخل الربُّ إلى العليّة والأبواب مُوصَدة، نفخ في رُسُلِه. إنَّ النَفخ في الإنسان يُذكِّرنا في عمليّة خلقِ الله للإنسان، فَسِفر التَّكوين يقول لنا إنّ الحياة قد أُعطِيت للإنسان حين نَفَخ فيه الله من رُوحه. إنَّ الربَّ يسوع قد نفخ من رُوحِه في رُسُلِه، فأباد كلّ خوفهم، وأعاد لهم قيمتهم، ومنحهم الحياة الجديدة، تمامًا كما فَعل مع آدم إذ أعطاه قيمته الحقيقيّة حين خَلَقَه من العَدَم.

في إعلانِه القيامة، يُعلِن المؤمِن، نهاية آخِرَته القديمة وبداية حياته الجديدة مع الربّ. لذا، نجد في الاحتفالات الفِصحيّة، أنَّ التّراتيل تتمحور حول جِدَّة الحياة، وانتصار الربّ على الموت بالموت. إنّ الموت الجسديّ ليس موتًا، على الرُّغم من أنّه يُسبِّب لنا حُزنًا إثر انتقال أحبّائنا من هذا العالم، وعدم قُدرَتنا بعد ذلك على رؤيتهم بعيون الجسد. إنَّ الموت الجسديّ هو نهاية لحياة أرضية وبداية لحياة جديدة في السّماء. نتيجة اعتراف توما بقيامة الرب وإعلان إيمانه به إلهًا ومخلِّصًا له، يتهلَّل المؤمِن ويفرَح لأنَّ قيامة الربّ قد أعلَنتْ نهاية الإنسان القديمة وبداية حياته الجديدة مع الربّ في الملكوت.

كان القدِّيس سيرافيم سواروفسكي يتهلَّل عند رؤيته المؤمِن قادمًا إليه إمّا للاعتراف أو للاسترشاد، فكان يصرخ من فرَحِه قائلاً: “يا فرَحي، المسيح قام”. إنَّ “المسيح قام” لا تُعبِّر عن ذِكرى بل عن حقيقة إيمانيّة تدفعنا إلى التَّفكير في الحياة الجديدة، وجَدِيَّة السّلوك.

بعد انتهاء الأعياد الفِصحيّة، يعود شيطان الاسترخاء ليُسيطر على المؤمِنِين، إذ تخلو الكنائس من الزائرين، فالعيد عند غالبيّة المسيحيّين مرتبطٌ بانتهاء الفُرصة أو بنفاذ كميّة حلويات العيد مِن البيوت. لم تكن القيامة كذلك عند الرُّسل، إذ إنّهم بعد اكتشافهم قيامة الربّ، تحوَّلوا إلى شعلات روحيّة، فانطلقوا للبشارة بالقيامة غير آبهِين لكلِّ ما سيتعرَّضون له من اضطهاداتٍ، فماتوا شهداء لقيامة الربّ يسوع، مُعلِنين “المسيح قام”. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp