الحبّ والوفاء لأمواتنا،
عظة للأباتي أنطوان راجح في دير مار الياس – انطلياس، المتن.
في هذا اليوم، الّذي تُكرِّسه المجتمعات للاحتفال بِعِيد الحبّ، مع كلِّ ما تَحمِلُه كلمةُ “حُبّ” مِن حَيويّة، وما تَتَضمّنه من بَذلٍ وعطاءٍ، مِن تكامُلٍ وانصهار، مِن حضورٍ وَوقوفٍ للذَّات، مِن شراكةٍ وخَصب؛ نحتفل اليوم معًا في ذكرى مرور عشر سنواتٍ على انطلاقة جماعة “أذكرني في ملكوتك”، الّتي تسعى إلى إظهار ديمومة الحبّ بَعد الغياب، تحت عنوانٍ واضحٍ هو “الوفاء”. وقد حظِيَت هذه الجماعة بدَعمٍ وتشجيع من رئيس الدِّير آنذاك، الأب جوزيف عبد السّاتر، الحاضر معنا اليوم. وفي هذه الجماعة، عددٌ من سَيِّدات هذه الرعيّة، وفي طَليعَتِهِنَّ السَّيِّدة أنطوانيت الرَّموز، المشهودُ لَهُنَّ بالثَّبات والتَّقوى والالتزام الكنسيّ، والنَّخوَةِ الدَائمةِ التَجدُّدِ.
إنَّ عملَ هذه الجماعة مَبنيٌّ على الصّلاة من أجل الموتى، وهو يلتقي مع المناسبة اللِّيتورجيّة الكنسيّة الّتي نحتفل بها في هذا الزَّمن الـمُمتَدّ على ثلاثة أسابيع، قَبْلَ بداية الصّوم. في هذا الزّمن، زمن التذكارات، نُصلِّي في الأسبوع الأوّل، الّذي يبدأ اليوم، من أجل الكهنة المنتقِلِين من بينِنا، كما سَنُصلِّي في الأسبوع الـمُقبِل من أجل الأبرار والصِّديقين، وفي الأسبوع الأخير، سنَذكُر الموتى عمومًا في صَلواتنا.
ليس هناك ما يدعُو للعَجَب، في رَبطِنا بين عيد الحبّ وسرّ الموت؛ فكلمةُ “حُبّ” في اللّغة اللّاتينيّة مؤلَّفةٌ من كَلِمَتين هما: “a” وتعني النَّفي، والثّانية هي “mortis” وتعني الموت؛ وبالتّالي، فالحبّ يعني “لا للموت”. عندما يُعبِّر الحبيب عن حبِّه للمحبوب، بالقولِ له: “أُحبُّك”، فإنّه يُعبِّر من خلال تلك الكلمة عن رَفضِه لموت المحبوب، قائلاً له إنَّه سيبقى حيًّا في ضميره ووِجدانه وضميره، حتّى ولو غاب المحبوب عن نَظرِ حبيبِه الأرضيّ، فَمَهما ابتعد الحَبيبَان عن بعضهما البعض، فَهُما سيَبْقَيان حاضِرَين في قلب الله الّذي يُؤمِنان به.
إنَّ احتفالنا اليوم بمرور عشر سنوات على انطلاقة جماعة “أذكرني في ملكوتك” في هذه الرعيّة، يُشكِّل مناسبةً لنا لِشُكْرِ الربّ أوّلاً على هذه الجماعة بكلِّ أعضائها، ثانيًا على عِنايته بنا وتدبيرهِ الإلهيّ، وأخيرًا على القوّة والثّبات اللّذين يمنحهما الربُّ لكلِّ مكرَّسٍ للخِدمة الرَّسوليّة في الكنيسة. إنَّ احتفالَنا اليوم يُشكِّل مُناسبةً لتجديد العزيمة على الاستمرار في هذا النَّشاط الروحيّ، كما يُشكِّل دعوةً لنا لتجديد تلك الانطلاقة الروحيّة، باحِثِين دائمًا عن الأجدى والأنفع لمسيرِتنا الإيمانيّة.
إنَّ المؤمِنِين في هذه الرعيّة، وأنا كمسؤول فيها، نُدرِك أنّ الهَدَف الأوّل لهذه الجماعة هي الصّلاة من أجل الرَّاحِلين، المبنيّة على إيمانها الرَّاسخ بالمسيح، وعلى عاطِفتها تجاه المنتقِلين من بيننا، خاصّةً أنّ الموت هو لحظةٌ مِفصليّة تعكس جَدليّة الـحُضور في الغياب. ولكنْ لهذه الجماعة، إضافةً إلى الصّلاة من أجل الموتى، أهدافًا أخرى، ينصّ عليها القانون الأساسيّ الخاصّ بها، هي: أوّلاً، تَمرُّس أعضائها في الصّلاة الشَّخصيّة من أجل النُّمو في الحياة الروحيّة ممّا يساهم في خلاص النَّفس؛ ثانيًا، تنشئةُ المؤمِنِين على تعاليم الكنيسة المقدَّسة وأسرارِها وإيمانِها بالحياة الأبديّة، وأخيرًا نَشرِ رعويّة صحيحة لمفهوم سرّ الموت في الكنيسة، ومساعدة المؤمِنين على تطبيقها، لذلك تقوم هذه الجماعة بأعمال رَحمة وتقديم الصَّدقات للآخرين.
وهذه السّنة، أضافت هذه الجماعة ممارسةً إيمانيّة جديدة تَصُبُّ في خِدمة هدفِها الأساسيّ وهي مرافقة المنتقِلين من بيننا بالصّلاة، وهذا ما يمارسه أعضاء هذه الجماعة في الرعيّة بالحضور الباكر إلى الكنيسة للصّلاة مع الجثمان، كي لا يُترَك أخونا المنتقل في ساعة انتقاله من هذا العالم وَحيدًا، حين يكون أهلُه منشَغِلين في تَقبُّل التَّعازي به إثر فُقدانهم له.
إنَّ الموت، هو ظاهِرَةٌ لا يَعرِفها الإنسان في ذاته، إذ يُشارِك الإنسان في الصَّلاة الجنائزيّة لدى موت أحد أحبّائه، لا في موتِه الخاصّ، فالموت في الحقل الإدراكيّ للإنسان هو موت الآخر لا موته هو. إنَّ الموت شَبيهٌ بالنّوم الّذي يختبره الإنسان في كلِّ يوم، مع فَرقٍ وحيدٍ، هو أنَّ الإنسان قد يتذكَّر ساعة نومِه الأرضيّ وساعة استيقاظه منه، ولكنّه لن يتذكَّر ساعة موته، لأنَّه حين يموت الإنسان يعيش هذا الحدث بطريقة أبديّة، أي دون إمكانيّة رُجوعِه إلى هذه الحياة مرّةً أخرى.
إذًا، الموت هو ظاهرةٌ في الواقع الإنسانيّ، لا ظاهِرةٌ في الذّات، إذ لا يستطيع الإنسان إعادة اختبار موته الجسديّ، ولكنّ الإنسان يستنتج مِن خلال اختباره لموت الآخَرين أنَّ جميع البشر مائتون، وبالتّالي نكتشف أنّ سرّ الموت يَطالُنا جميعًا.
في هذا الإطار، يقول لنا شارل مالك، في كتابة “المقدِّمة”، إنَّ الإنسان يُدرِك، من خلال اختباراته في هذه الحياة أنّ الموت هو أَمرٌ مُحتَّم عليه، أي أنّ لا مَفرَّ للإنسان من اختبار الموت في جسده، عاجلاً أم آجلاً؛ ويُضيف قائلاً، إنَّ الإنسان عاجزٌ عن معرفة ساعة موته الخاصّ، وأنَّه مُعرَّضٌ في كلّ لحظةٍ من حياته للموت، فالموت لا يُشكِّل نهايةً للحياة، إنَّما هو فقط نهاية مرحلةٍ منها لِبِداية مرحلةٍ جديدة.
إنَّ الموت الجسديّ يمنع الإنسان من اللّقاء بِفَقيدِه مجددًّا بطريقة ملموسة ومحسوسة. ويُتابع شارل مالك كلامه، فيقول لنا إنَّ الإنسان يشعر بالوِحدة، حين يموت، على الرُّغم من إحاطة الأحبّاء له، فالإنسان لا يستطيع الموت بدلاً عن أحد أحبّائه، لِتَجنِيبه هذا الاختبار. ويُكمِل شارل مالك حديثه عن “الظُهوريّة”، فيقول إنَّ الموت يُشكِّل تحدِّيًا كبيرًا وفي غاية القساوة، لا يستطيع الإنسان التَّغلُب عليه إلّا بإيمانه القويّ ورجائه بأنَّ الموت الجسديّ ما هو إلّا مرحلةٌ انتقالية من هذه الحياة إلى حياةٍ أخرى أفضل.
إنَّ الموت يَضَع الإنسان أمام تحدٍّ مجبولٍ بالحبّ، هو تحدِّي غياب الأحبّة بِسِرّ الموت، ولا يستطيع الإنسان مواجهة هذا التَّحدي إلّا بالوفاء لِمَن غابوا في الحضور. إنَّ الوفاء فضيلةٌ تقوم على معاملة الإنسان للّذين كان لهم فَضلٌ في صناعة حاضِره ووجوده، بلُطفٍ ومحبّة، حتّى بعد غيابهم الجسديّ عنه. إنَّ الوفاء هو محاولة الثّبات في الحبّ على الرُّغم مِن مفعول الزّمن، وعلى الرُّغم من قُدرة الإنسان على النِّسيان، فلولا نِعمة النِّسيان لَأَمضى الإنسان حياته في البكاء والنَّحيب على أحبّائه الّذين فارقوه جسديًّا.
ليس الوفاءُ إذاً مَوقفًا عاطِفيًّا تجاه أحبّائنا، بل هو موقِفٌ إيجابيّ يُعبِّر عن إرادة الإنسان في ذِكر الّذين كان لهم فَضلٌ عليه، مُعلِنًا أنّهم لا زالوا حاضِرين في ذهنه وقلبه، حاضرًا ومُستقبلاً، على الرُّغم من فراقِهم الجسديّ بالموت.
إنَّ الكنيسة، منذ نشأتها، داوَمَت على ذِكر الموت، ولا زالت محافظة على ذلك إلى يومِنا هذا، بدليل صَلواتنا الّتي نَتلوها في الإفخارستّيا الّتي تتضّمن ذِكرًا للموت في البعض منها. إنَّ صلاتنا في الذبيحة الإلهيّة للمنتقلِين مِن بيننا، تُشكِّل وسيلة “إسعافٍ” وتَشفُّعٍ لهم من جهة، كما أنّها من جهةٍ أخرى، تُعبِّر عن شراكتِنا مع القدِّيسين أي مع أحبّائنا الّذين غادروا هذا العالَم، وهم اليوم يُعاينون وجه الله في الملكوت.
إنَّ صلاتنا لأجل الموتى، تُعبِّر عن الوَحدة والتّضامُن بين أعضاء جسد المسيح السريّ، في كافة حالاتها. إنَّ المجمع الفاتيكانيّ الثاني يُوضِح لنا هذا الأمَر، قائلاً لنا: “في انتظار مجيء الربِّ في جلاله، يُواصل بعضٌ من تلاميذ المسيح رحلتَهم على الأرض، ويَكون بعضُهم الآخر وقد أدركهم الموت يتطهَّرون، ويكون بعضهم في المجد يشاهدون الله الواحد والمثلَّث الأقانيم كما هو في كمال النُّور.
ولكنّنا نشترك كلُّنا على درجاتٍ وأنماط مختلفة في المحبّة لله والقريب.” فالصّلاة من أجل الموتى هي إحدى وسائل التّضامن الروحيّ الّذي يجمع أبناء الكنيسة برباطٍ غير منقطع من المحبّة والرَّجاء، بِشَركة القدِّيسين، أي الكنيسة أحياءً وأمواتًا. إنَّ صلاة الكنيسة لموتاها، يُظهِرُها للآخَرين شبكةَ قداسةٍ ومغفرة، ممّا يدفع المؤمِن فيها إلى الشُّعور بالرّاحة لإدراكه أنّه سيجد مَن يُصلِّي له في هذه الأرض بعد انتقاله من هذا العالم، وهذا ما يُساهم في الإسراع في عمليّة تنقيَته وتطهيره، بعد انتقاله من هذا العالم.
إنَّ الصّلاة من أجل الموتى، الّتي تُحفِّز عليها جماعة “أذكرني في ملكوتك” المؤمِنِين هي ممارسة إيمانيّة تعكس لاهوت الكنيسة، إذ تُجسّد قِيَم الحبِّ والوفاء لأحبّائنا، وإيماننا بالمسيح الّذي وَعَدنا بالقيامة من بين الأموات بعد انتقالنا من هذا العالم الفاني. لا يستطيع الإنسان بِناء علاقة شخصيّة مع الربَّ إلّا إذا كان مؤمِنًا به، فيشهد من خلال اختباراته اليوميّة على عَمل الله الخلاصيّ في حياته، ناقلاً بشارة الإنجيل للآخَرين. إنّ المؤمِن يُقوِّي علاقته بالربّ من خلال تكثيف السُّجود للربّ والاطّلاع على تعاليم الكنيسة بشكلٍ مستمرّ.
إنّ هذه الجماعة، كما كلّ الجماعات في الرعيّة، لن تتمكّن من إعطاء شهادة للآخَرين حول المسيح، إلّا إذا كان أعضاؤها مُثابِرين على الصّلاة الشَّخصيّة مع الربّ، وعلى محبّة بعضهم البعض كما أوصانا الربّ يسوع في إنجيله، وهذا ما يتطلَّب جُهدًا على الغفران لبعضنا البعض.
إنّ هذه المناسبة الّتي نحتفل بها اليوم، تدعونا إلى إعادة صَقل حُبِّنا للربّ، كي تعكس جماعَتُنا حُبَّ المسيح للآخَرين من خلال صلاتها للموتى المؤمِنِين. إنّ صلاتنا للموتى، انطلاقًا من إيماننا المسيحيّ يجب أن تكون مدعاة للفرح، لا للبكاء والنَّحيب على فُراق أحبّائنا، إذ علينا أن ننظر إلى الموت لا على أنّه فاجعةٌ أحاطت بنا، بل على أنَّه مجرَّد مرحلةٍ انتقاليّة على الإنسان اجتيازها للوصول إلى الحياة الثانية.
إنَّ الموت هو وسيلةُ لقاءٍ بين الأحبّة تتخطّى البُعد الجسدي الملموس، وهذا يُشكِّل سببًا في تَعزيَتنا إثر فقدان أحبّائنا. لذلك، علينا اليوم، أن ندعو المسيح يسوع إلى هذه الانطلاقة، كي يُعطينا دَفعًا جديدًا للاستعداد إلى ساعة انتقالِنا من هذا العالم، مُتَحلِّين بالشَّجاعة وقوّة الرُّوح، فنتمكّن من إظهار لُطف الله ومحبّته للبشر، كما يقول لنا بولس الرّسول.
في هذا المساء، نقدِّم هذه الذبيحة الإلهيّة من أجل أعضاء هذه الجماعة، كما نُقدِّمها أيضًا من أجل أمواتنا الرّاقدين على رجاء القيامة، ومن أجل كلّ مَن طلبَ منّا أن نَذكُرَه في صَلواتِنا. ألا بارَك الله عَمَلكم الروحيّ هذا، وكافأكم على صلواتكم وتضحياتكم، طالِبين من الله أن يكون “الحبّ والوفاء لأمواتنا” عنوانًا رئيسيًا لخِدمتكم في هذا العمل الرسوليّ، فتكونوا “خميرة حُبٍّ” في هذه الرعيّة. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.