القدّاس الاحتفاليّ من أجل الرّاقدين على رجاء القيامة،
الذكرى الثالثة عشرة لافتتاح المركز الرّوحيّ لجماعة “أذكرني في ملكوتك” – زوق مكايل.
عِظة القدّاس “وكانت يد الربّ حقًّا معه” للأب ميشال عبود الكرمليّ:
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين
هذه الذبيحة الإلهيّة نحتفل بها بحضور الأباتي سمعان أبو عبدو والأب عبّود عبّود ومُرشِدي الجماعة وحضوركم جميعًا.
بدايةً، أشكر الله عليكم، على حضور الله في حياتكم. فَلَو لم يكن الله حاضرًا في حياتكم، ولولا إيمانكم بالله ولو لم يكن الإيمان المسيحيّ مُهمًّا جدًّا بالنِّسبة إليكم، لما كنتُم موجودين اليوم هنا.
نحتفل اليوم، بولادة يوحنّا المعمدان وأيضًا بولادة جماعة “أذكرني في ملكوتِكَ”. إذا أقَمنا مقارنةً بين هذين الحدَثَين لوَجَدْنا أنَّ أَوجُه التَّقارب كبيرةٌ جدًّا. إخوتي، إنَّ كلَّ شيءٍ مع الله يُصبِح مُتقارِبًا مع بعضه البعض لأنّ الله حاضرٌ فيه، أي أنّ يَدَه حاضرةٌ في كلّ شيء، فالله يُعطي الحياة ويتدخّل في الزَّمن.
في تأمُّلِنا في نصّ ولادة يوحنّا المعمدان، نكتشف أنّ ولادة يوحنّا المعمدان هي بِحَدِّ ذاتِها أعجوبةٌ. لماذا؟ إنّها أعجوبةٌ لأنّ أمَّه كانت عاقرًا، ولأنّ أبَويه كانا طاعِنَين في السّن. لقد تمَّت الأعجوبة عندما تدخَّل الله في حياة هذين الوالِدَين، فكان تَدخُّلُه فائقَ الطّبيعة. وهذا التدخُّل الإلهيّ يعجز عنه العِلم. لقد تَدخّل الله في حياة هذَين الوالِدَين ليقول لنا إنّه هو سيِّدُ الطَّبيعة. لقد تَدخَّل الله في حياة زكريّا، ولكنَّ زكريّا لم يتمكَّن مِن تَقبُّل هذا التدخُّل الإلهيّ بعقلِه البشريّ، لذلك دَخل زكريّا في نِظام الشَّك قائلاً للملاك: “كيف يَكون هذا؟” (لو 1: 18).
أمام الحقائق الإلهيّة، كثُرٌ هُم الّذين نَجدهم غير قادِرين على استيعابِها. لذلك، نجد أنّ العلامة الّتي أُعطيَت لزكريّا هي الصّمت: فَصَمتَ زكريّا إلى حين مَجيء العلامة ألا وهي ولادة يوحنّا. هكذا نحن أيضًا نقف بِصمتٍ أمام الموت على سبيل المِثال إذ نتفاجأ به، كما نقف بِصَمتٍ أيضًا في الألم إذ لا نملك جوابًا شافيًا له. كذلك نقف بِصَمتٍ أمام الخير حين نرى أشخاصًا يُضَحّون بأموالهم وبممتلكاتهم من أجل الغير. أمام سرّ الله، يقف الإنسان بِصمتٍ، لأنَّه يعجز عن استيعاب هذا السِّر، تمامًا كما يقف عاجزًا عن استيعاب الشَّمس، هذا الكوكب المخلوق، الّذي يستفيد الجميع مِن نورها، غير أنّ أحدًا لم يتمكَّن من الوصول إليها. فإذا كانت الشَّمسُ كوكَبًا مخلوقًا، كان يومٌ لم تكن به، وسيَكون يومًا لن تكون فيه موجودة، ونعجز عن استيعابها؛ فكيف لنا أن نستوعِب سرّ الله، الذي لا أزليّ وأبديّ سواه! نحن نستفيد من الله من خلال كلماته كما نستفيد من الشَّمس من خلال نورِها. وكلَّما تَطوَّر الِعلم كلّما استفَدنا من كلِّ ما خلَقَه الله لأجِلنا.
في الكنيسة، نَشأت جماعاتٌ مبنيّةٌ على كلمة الله. وهنا، نكتشف أهميّة كلمة الله. وهذا ما نفرح به مع السَّيدة جانيت والفريق الّذي يعاونها، عندما وَضعَوا كلمة الله في قلب الجماعة، فأصبح المؤمنون يَحضرون إلى الجماعة من أجل سماع كلمة الله والتأمّل فيها. غالبًا ما نلجأ في حياتنا اليوميّة، عند انتقالنا من مكانٍ إلى آخر، إلى ما يُسمّى gps، إذ من شأنه أن يساعدنا على الوصول إلى المكان المنشود، غير أنّه في الكثير من الأحيان، لا يكون كذلك فنُضَيِّع الطريق. لذا، نلجأ في الكثير من الأحيان، مخافةَ إضاعة الطريق، إلى الطلب من الشَّخص الّذي نبغي زيارته، أن يُرسِل إلينا موقع تواجده عبر تطبيق GPS، مُرفقًا برسالة صوتيّة كي لا نُضيِّع الطّريق. كذلك الإنجيل، فهو gps يوصلنا إلى السَّماء، ولكنّنا نحتاج إلى بعض الشَّروحات حَوله لِكَي نتمكَّن من الوصول إلى السّماء. فعلى سبيل المثال، إذا قال لنا الإنجيل: “إذا كانت عينُك سببَ عثرةٍ لكَ فاقلَعها،…، وإذا كانت يدك سبب عثرةٍ فاقلعها” (مت 18: 8-9)، لن يبقى أحدٌ منّا في حالةٍ سليمة إذا طَبَّقنا هذه الكلمات بِحَرفيّتها، لذا نحن بِحاجةٍ ماسّةٍ إلى مَن يُفسِّرها لنا.
إنّ الإنجيل يُخبرنا عن ملكوت السّماوات. في ذلك الزّمان، كان الشَّعب ينتظر مَلكوت السَّماوات، غير أنّه كان في حالةٍ من العقم. حين خلق الله الإنسان أعطاه كلّ شيء، وقد طلَب إلى الإنسان أن يتقبَّل ضُعفَه البشريّ، فمَنَعه عن تناول ثمرةَ معرفةِ الخير والشَّر، لأنّه غير قادرٍ على معرفتها. غير أنّ الإنسان لم يُصدِّق الله، بل صدَّق الشَّيطان. هذا هو الصَّمت. في حياتنا، أمورٌ كثيرة تتكلَّم: في بعض الأحيان، ردَّاتُ فِعلنا أمام أذى الآخرين تتكلّم فينا وتَفرض علينا التصرّف بطريقة معيّنة، وفي الوقت نفسه، الله يتكلّم. والسّؤال الّذي يُطرَح: إلى مَن أُصغي؟ في بعض الأحيان، التقاليد تتكلَّم؛ والله أيضًا يتكلّم. وأنا إلى مَن سأُصغي؟ جاء الجيران إلى بيت زكريّا، متمسِّكين بالتقاليد الّتي تدعو إلى تسمية الصَّبي البِكر بِاسم أبيه، غير أنّ هؤلاء لم يكونوا على معرفة بما سَبَق الله وتكلَّم به مع زكريّا. عندما يتكلَّم الله، تَتغيّر المقاييس. في الكثير من الأيّام، تتصارع الأفكار في داخِلنا.
لذا لا نتعجبنَّ إذا اتَّخَذ تفكيرنا في بعض الأحيان اتِّجاهًا معيّنًا، لأنّه يتَّجه بحسب ما نُغذِّيه. فإذا لم يكن فِكرنا قد اعتاد على سماع كلمة الله، فإنّ كلمة الله ستَمرُّ مرور الكِرام في حياتنا من دون أن يكون لها أيَّ تأثيرٍ في حياتنا. أمّا إذا اعتاد على سماع كلمة الله، فإنّ كلمته ستَفعل فيه فِعلَها. حين يكون الإنسان منزعجًا من مَعِدَتِه على سبيل المثال، يَتقيّأ كلَّ ما كان قد تناوله في السّابق، فإنّ السّؤال الأوّل الّذي نَطرَحه عليه: ما الّذي تناولته فتَسَبَّب لكَ بما جرى؟ كذلك، نَطرَح السّؤال على ذواتِنا: ما الّذي نُدخِله إلى فِكرنا؟ إنَّ فِكرَنا بِحاجةٍ إلى أن يتغذَّى من كلمة الله، خصوصًا عندما تزداد المتاعب في هذه الحياة.
هنا نلاحظ التشابه بين ميلاد يوحنّا، وجماعة “أذكرني في ملكوتك”. لقد أتى يوحنّا، بعد حالةِ عُقمٍ كانت موجودة عند والِدَيه، نتيجة تَدَخُّلٍ إلهيّ. إنّ اسم “يوحنّا” يعني “الله حنَّان”، “الله يرحم”، الله يتدخّل بحنانه، ورحمته أكبر منّا. في جماعة “أذكرني في ملكوتِكَ”، فَهِمنا أنّ الإنسان كان يعيش في غربةٍ عن الله، ولكن مع يسوع انفَتَح الملكوت، مع يسوع فُتِحَت أبواب السّماء. كما فَهِمنا في هذه الجماعة أنّنا لا نعيش على هذه الأرض كي نكون في النّهاية ترابًا في القبور. عِلميًّا، نقول إنّ الإنسان كان موجودًا في رَحِم أمِّه تسعة أشهرٍ، حيث كان يعيش في أمان. ولكن عندما يُولَد الإنسان في هذه الحياة، يأتي إليها وهو يبكي، في حين أنّ الآخَرين يفرَحون لِـمَجيئه. وعندما يرحل عن هذه الحياة إلى الحياة الثانية، يرحل ضاحكًا بينما الآخرون يبكون بسبب رحيله منها.
أيّها الإنسان، مهما طالت سنواتكَ في هذه الحياة، تذكَّر أنّك عابرٌ فيها، وأنّك سترَحل منها يومًا ما. لذلك، سُميَّت بالرَّاحة الأبديّة. في أيّامنا، صِرنا نعيش هذه الفِكرة أكثر. لماذا؟ لأنّنا نرى أنَّ كُثُرًا من بيننا، يذهبون إلى الغربة؛ وعندما تسألهم عن فترة إقامتهم في الغربة، يقولون لكَ إنّهم لا يَعرِفون مُدَّة إقامتِهم. في أثناء استعدادهم للذهاب إلى الغربة، نلاحظ أنّهم يقومون بِجَمع كلِّ ما لديهم لأنّهم يَعلَمون أنّهم سيُغادِرون هذه البلاد. ولكن عندما يستقِرّون في البلاد الّتي اختاروها، نلاحظ أنّهم يحافظون على قليل من الأموال معهم، في حين أنّهم يُرسِلون الباقي إلى وَطَنهم للاستثمار فيه. نحن أيضًا،
في هذه الحياة، نعيش في بلاد الغربة، وبالتّالي نحن مدعوّون إلى الاستثمار في وَطننا ألا وهو السّماء. إنّ الاستثمار في السّماء، يبدأ بِسَماع كلمة الله، والقيام بِأعمال الخير. إنّ الاستثمار في السّماء يبدأ بِعَيش كلِّ واحدٍ دعوتَه حيثما وُجِد. وفي هذا الإطار، يقول لنا القدِّيس أوغسطينوس: لا تُتعِبوا أنفسَكم بِطَلب الفرح في هذه الحياة المليئة بالأحزان. أنتم تطلبون الرَّاحة والهناء في حياةٍ مليئة بالتَّعب؛ وهذا الانتظار مؤلم. فإذا ذَهبت إلى شخصٍ لتَحصل على ما أقرَضتَه إيّاه من مالٍ، وأعطاكَ مَبلَغًا أقلّ من المبلَغ الّذي قُمت بإقراضِه إيّاه، فإنَّك لا محالة ستَخرج من عنده حزينًا لأنَّك لم تحصل على ما كنتَ تنتَظره.
وبالتّالي، لِماذا تنتظر من هذه الحياة ما ليسَ فيها؟ هنا يأتي دَور جماعة “أذكرني في ملكوتِكَ”، لِتَدعونا إلى الاجتماع للصّلاة والـتأمّل في كلمة الله، لأنّنا أولاد الرَّجاء، فنتعلَّم كيف ننظر إلى السّماء، وعندها سنَقوم بكلّ عملٍ في حياتنا، بفرحٍ، مهما كان العمل متعبًا، لأنّه اكتسب عندَنا معنًى. إنّنا نقول على الدَّوام، إنّ الألم يولِّد الحزن. وهذا القول خاطئٌ تمامًا، لأنّ الحزن يولِّد الألم. فالإنسان الحزين هو إنسانٌ يتألَّم، إذ إنّه أفرغ ذاته من كلِّ شيء. في بعض الأحيان، يتحمّل الإنسان آلامه، مِن دون أن تُولِّد فيه هذه الآلام آلامًا في داخِله. وإليكم مِثال عمّا نقول هو ألَم الأُمّ وألَم الأهل، وألم الـمُرسَل، وألَم الّذي يناضل من أجل قضيّةٍ مُعيّنةٍ. فإنّه ولو كان الإنسان يتألَّم، غير أنّه يشعر في داخله بفرحٍ داخليّ منبَعه الله وَحده.
ونقرأ في هذا النَّص: “وكانت يد الربِّ حقًّا معه”. بعد مرور ثلاث عشرة سنة على ولادة جماعة” أذكرني في ملكوتِك”، نقول مع كلّ الذين رافقوا هذه الجماعة خلال هذه المسيرة إنَّ يَد الله كانت حقًّا معها. لقد كانت يَد الربِّ مَعنا طيلَه هذا الوقت، وهذا ما يُعزِّينا. اليوم في هذه الذبيحة، سنَذكُر أسماء أشخاصٍ كانوا معنا ولكنَّهم سبَقونا، كما سنَذكر أسماء الأشخاص الّذين تَحملونهم في قلوبكم وقد سبَقوكم إلى السّماء. أمام الموت، صُدِمنا، صَمَتْنا، تَساءلنا وأدرَكنا الحقيقة. والآن، ماذا نفعل؟ إخوتي، لو لم يكن لدينا خطوةٌ نحو الأمام، كما يقول لنا البابا بولس الثاني: “نعبُر إلى الحياة الأخرى وعيوننا مفتوحة”، لَكانت فِعلاً عيوننا لا تزال مُغمَضةً. هذا ما يُعطينا حقيقةَ الحياة: لأنّنا نتحمَّل ألَمَنا بِصَمتٍ، يظنّ الآخَرون أنّنا لا نشعر به. إنّنا نشعر ونتألَّم، نفرَح ونَحزن، ولكن في حزننا على الدَّوام هناك معنًى للحياة.
هذا ما نتمنّاه على الدَّوام، دائمًا وأبدًا في حياتنا: هذه الولادة الجديدة والمتجدِّدَة في حياتنا اليوميّة. كلُّ لحظةٍ من حياتنا هي لحظةٌ جديدة، وكلُّ نبضةٍ مِن قلبنا هي نبضةٌ جديدة. لذلك، عندما ننظر إلى الحياة ونعيشها بدهشةٍ عند اكتشافنا اليوم فيها شيئًا جديدًا، فهذه علامةٌ على تَدخُّل الله في حياتنا، له المجد إلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ من قِبَلِنا.