الرياضة السنويّة 2019 بعنوان: “إنْ كان لنا في هذه الحياة فقط رَجاءٌ في المسيح، فإنّنا أشقى جميع النّاس” (1 كور 15: 19)
دير مار جرجس- بحردق،
الموضوع الأوّل: “أما أنا فرَجائي مَنوطٌ بالسّماء”(2 مك 20:9)
الخوري جوزف سلوم،
في كلّ مرّة، نُصلِّي ونشارك في الصلوات مع الكنيسة جمعاء، نَطرح السؤال على ذواتنا: هل الوقت الّذي نُقدِّمه للربِّ كافٍ؟ ها نحن موجودون في هذه الرِّياضة الروحيّة، نقدِّم وَقتَنا للربّ، لنسمع ما يريد أن يقوله لنا، إذ تَركنا كلّ اِلْتزاماتنا وأَتَيْنا لسماع كلمته المقدَّسة. ولكنَّ الحقيقة هي أنّ الربّ هو الّذي يُقدِّم وَقته لنا، لأنَّه محتاجٌ أن يُخبرنا بمشيئته القدُّوسة لنا، من خلال كلمته لكلّ فَردٍ حاضرٍ ههنا.
إنَّ موضوعنا اليوم هو بِعنوان: “أمّا أنا فرَجائي منوطٌ بالسَّماء”. إنَّ رجاءنا هو في السّاكن في الأعالي، غير أنّنا للأسف، في الكثير من الأحيان، نضع رجاءنا في الأمور الأرضيّة، غير القادرة على إعطائنا التعزية والرجاء.
حين يريد اصطياد فريسته، يقوم النَّسرُ بالإمساكِ بها على الأرض، ولكنّه يُقاتِلُها في السّماء، أي في المكان الـمُخصَّص له لا الـمُخصَّص لها، فيربح معركته معها، ويقتلها. كذلك نحن، فإنْ أقمنا معارِكنا في هذه الأرض، فإنّنا سنُصاب بخيبات الأمل واليأس، وسنتعرَّض للجروحات من الآخَرين، أمّا إنْ كان نظرُنا مشدودًا صوب السَّماء، فإنّنا سنَجِدُ الرَّاحةَ والسَّكينةَ الدَّاخليّة، على الرُّغم من بقاء الأوضاع والأزمات الَّتي نتعرَّض لها على ما هي عَلَيه.
إنّ موضوعنا اليوم، يُقسم على الشَّكل التّالي: أوّلاً، سنناقش الآية الكتابيّة عنوان موضوعنا، المأخودة من سِفر المكابيّين:”أمَّا أنا فرَجائي منوطٌ بالسَّماء” (سِفر المكابيِّين الثاني 9 : 20)،ثمّ سنناقش كلام مار بولس في رسالته إلى أهل رومة، القائل بأنّه ما مِن شيءٍ يستطيعُ أنْ يَفصِلَنا عن محبّة المسيح، لا شِدّة ولا ضيق، ثمّ سنناقش نصّ تلميذَي عمّاوس، وأخيرًا سنتطرَّق إلى واقعنا اليوم، وعلامات انعدام الرَّجاء وكيفيّة مواجهتها من خلال بعض الأمور العَمَليّة.
إنّ كلّ المعارك الّتي يقوم بها الإنسان واضعًا نَظره على الأمور الأرضية، لا بُدَّ لها من الفشل، ولكن حين يُصوِّب الإنسان نَظَرَه إلى السّماء، ويَضَع همومه أمام الربّ، فإنّ معاركِه ستكون رابحة، لأنّه وَضَع رجاءه في الربّ.
إنَّ العبارة “أمّا أنا فرجائي مَنوطٌ بالسّماء”، (المكابيين الثاني 9: 20) هي عبارةٌ مأخودة من سِفر المكابيّين الّذي يُخبرنا عن مرحلة ما قبل مجيء المسيح، ما بين 1700- 700 ق.م.، وهي تُعَدُّ مرحلةً مباشرةً تَحضيريّة لمجيء المسيح. يتكلَّم هذا السِّفر عن أنطوخيوس أبيفانوس الملك، الّذي كان يُسيء معاملة النّاس، إذ كان يعتَّدُ بكبريائه، ويعتقد أنّه قادرٌ على كلّ شيء، من خلال مهاراته وقدراته، ولا حاجة به إلى أحد. ولكن هذا الشَّخص المتكبِّر قد هزمه المرَض، إذ تآكله الدُّود، وكان يشعر بأنّه مَيِّت على الرُّغم من بقائه في هذه الحياة. لقد أُصيبَ بهذا الـمَرض بسبب إحزانه للآخَرين وإتعابه أحشائهم. لقد تكسَّرت عِظامُه من شِدَّة تكسيره لعِظام الآخَرين، وأُصيب بالاكتئاب. إنّ حالة أنطوخيوس ابيفانوس تشبه حالةَ كلّ واحدٍ منّا، حين نُعاني من خيبات الأمل مِنَ الآخَرين، ونُصاب بالجِراحات من داخل البيت كما مِن خارجه. بعد أن أُصيب الملك أنطوخيوس أبيفانوس بهذا الـمَرَض، خارت قواه، فنَظَر إلى العلى وقال: “إذا كُنتُم في سلامة، وكان أولادُكم وكلُ شيءٍ لكم على ما تُحبُّون، فإنِّي أشكُرُ اللهَ شُكرًا جَزيلاً. أمّا أنا فإنِّي طريحُ الفِراش عَديمُ القُوّة، وأحفظُ ذِكرًا طيّبًا لإكرامِكم وولائِكم” (المكابيِّين الثّاني 9: 20-21).
وفي ترجماتٍ أخرى، تَرِدُ عبارة: “أمّا أنا فرجائي مَنوطٌ بالسَّماء”. إنّ رجاءنا منوطٌ بالسّماء، ولذا حين ننظر إلى السّماء، سننال الشِّفاء من أتعابنا. وفي هذا الصَدد، نقرأ في المزمور (91: 14-16): ” أُنجِّيه لأنَّه تعلَّق بي، أَحْمِيه لأنّه عَرَفَ اسْمي. يَدعُوني فأُجيبُهُ، أنا مَعَه في الضِّيق فأُنقِذُهُ وأُمجِّدُهُ. بِطُولِ الأيّامِ أُشبِعُهُ وأُريه خلاصي”. إذًا، إنَّ الرَّجاء الحقيقيّ ليس هروبًا مِن الواقع الزّمني الّذي نَعيشُ فيه، بل الرَّجاءُ هو استشراف للمستقبل، أي محاولة لإدراك الحِكمة. إنّ الرَّجاء الحقيقيّ هو التَّحرُّر مِن كلّ ظلمٍ، من كلّ احتلال، من كلّ استغلال. إذًا، الرَّجاء الحقيقيّ يتطلَّب من المؤِمن الخروج مِن فوضويّة حياته الحتميّة ومن فوضويّة الطبيعة الحتميّة، ليتمكَّن من إدارة حياته. إنَّ رجاء الفقراء يكمن في حصولهم على رغيفٍ من الخُبز، وسَقفٍ من الطِّين يأويهم. ليس الرَّجاء تَصَوُّرًا جميلاً للحياة في العالم الآخَر، فالرَّجاء بالحياة الجديدة ليس مُخدِّرًا للإنسان عن هموم هذه الحياة، بل هو لمساتُ رجاءٍ نتلمَّسها ونزرعها في حياتنا اليوميّة، نتيجة تصويب نظرِنا إلى السَّماويّات.
“فماذا نُضيفُ إلى ذلك؟ إذا كان اللهُ مَعَنا، فَمَن يَكونُ علينا؟ إنَّ الّذي لَم يَضَنَّ بابنه نفسِه، بل أسْلَمَهُ إلى الموتِ من أجلِنا جميعًا، كيفَ لا يَهَبُ لنا مَعه كلَّ شيء؟ فَمَن يتَّهمُ الّذين اختارَهم الله؟ اللهُ هو الّذي يُبرِّر! وَمَن الّذي يُدين؟ المسيح يسوعُ الّذي ماتَ، بل قامَ، وهو الّذي عن يمينِ اللهِ والّذي يَشفَعُ لنا. فَمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّة المسيح؟ أشِدَّةٌ أم ضيقٌ أم اضْطِهادٌ أم جُوعٌ أم عُريٌ أم خَطَرٌ أم سَيف؟ فَقَد وَرَدَ في الكتاب: “إنّنا مِن أجلِكَ نُعاني الموتَ طَوالَ النَّهار ونُعَدُّ غَنَمًا للذّبحِ”. ولكنَّنا في ذلِكَ كُلِّه فُزنا فَوزًا مَبيِّنًا، بالّذي أحَبَّنا. وإنِّي واثِقٌ أنَّ لا موتَ ولا حياة، ولا ملائكةَ ولا أصحاب رئاسة، ولا حاضِرَ ولا مُستَقبل، ولا قُوّات، ولا عُلوَّ ولا عُمق، ولا خليقةً أخرى، بِوِسعِها أن تَفصِلَنا عن محبَّةِ الله، الّتي في المسيح يسوعَ رَبِّنا.” (رومة 8: 31-39). إنَّ هذا النَّص يساعدنا على اكتشاف عمل الله في حياتنا. يقول لنا بولس الرَّسول في هذا الّنص إنّه لا شيء يستطيع أن يفصِلَنا عن محبَّة المسيح، لا شِدّة ولا اضطهاد ولا غير ذلك.
في كلّ يومٍ نتعرَّض للشِّدة في حياتنا اليوميّة: ففي كلّ يومٍ نسمع عن حالاتِ جوعٍ وفقرٍ في محيطنا وفي العالم؛ وفي كلّ يومٍ نتعرَّض للاضطهاد، وخيرُ مِثالٍ واضحٍ على ذلك هو ما تعرَّض له المسيحيّون في نيجيريا من ذَبحٍ وإحراقٍ للكنائس، كما نلاحظ اضطهاداتٍ من أنواعٍ مختلفةٍ، نتيجة عدم فَهمِهم للإلتزامات الكنسيّة والخبرات الروحيّة الَّتي يعيشها المؤمِن. إنَّ ثُلثَ سُكَّان العالم يُعانون من الـجُوع والفقر، والإحصاءات تشهد على أنّ شخصًا مِن أَصل سبعة، ينامُ من دون طعام، لعدم تَوَفُّرِه. إنَّ الرَّجاء هو فِعلُ ثقةٍ في الله، غير أنّ الإنسان يَضَع رجاءه في الآخَرين، فيتعرَّض لخيبات الأمل هذا لا يعني أنّه علينا مُعاداة الآخَرين، ولكنَّ المقصود هو عَدم وَضِع رجائنا في محبّة الآخَرين لِدَرَجةِ جَعلِهم مُخلِّصِين لنا. إنّ قاعدة التَّمييز في حياتنا هي البحث عن ثمار الرَّوح، وهذا ما يدعونا إليه نافور مار يعقوب الّذي نتلوه في القدَّاس:”احفظ علينا بهاء القداسة والبرارة”. فحين نكون ممتلئين من ثمار الرُّوح، فإنّ كلّ قوّة خارجيّة تفقد من قوّة تأثيرها علينا.
إنّ نصّ تلميذَي عمّاوس (لو 24: 13-35)، يساعِدُنا على فَهْم رسالة الكنيسة تجاه كلّ النّاس، وخاصّة شبيبتنا. إنّ يسوع يسير مع التِّلميذَين . وفي اجتهادات حول معرفة اسم التِّلميذ الثاني، قرأتُ مرّةً أنّ الشَّخص الّذي يرافق كلاوبوس في عودته إلى قريته عمّاوس، قد تكون زوجته،
لأنّ النَّص الإنجيليّ الّذي يُخبرنا عن موت يسوع على الصّليب يقول لنا إنّ بين المريمات الّلواتي كُنَّ حاضرات ساعة موت يسوع، زوجة كلاوبوس، وبالتّالي، هل يمكن لكلاوبوس أن يعود إلى قريته من دون زوجته؟ ومن خلال هذا الاجتهاد، نستنتج أنّ الصُّعوبات في هذه الحياة، تواجه العائلة معًا، وهي تُقرِّر كيفيّة مواجهتها لها. إنّ كلاوبوس وامرأته قرّرا ترك الجماعة والعودة إلى حالتهما القديمة، لقد تركا أورشليم، مكان الحدث، حيث مات يسوع. وهنا يُطرَح السؤال: كم من الأوقات، نُقرِّر تَركَ يسوع، عندما تواجهنا الصُّعوبات، مُفضِّلين العودة إلى حياتنا الماضية؟ إنَّ هَذَين التِّلميذَين قد تركا الجماعة الّتي كانا ينتميان إليها، والّتي كانت لا زالت تجمع على الرُّغم مِن تَضَّعضُعِها، والّتي تسعى إلى إعادة تكوين نفسِها بعد موت يسوع، بانتظار حلول الرُّوح القدس عليها. في سينودس الشبيبة، طلَبَ البابا فرنسيس السّماح من الشبيبية، نتيجة تقصير المسؤولين في الكنيسة تجاههم، طالبًا منهم أن يُعاودوا العمل مع رؤسائها لِمَا فيه مِن تَقَدُّمٍ للكنيسة جمعاء. إنَّ عالمنا اليوم، يفتقد لِنِعمة الصَّبر، إذ نرى أنَّ المؤمِنِين يَسعُون إلى الابتعاد عن الصَّعوبات الّتي تواجِهُهم، عِوَضَ العمل على احتمالها من خلال طلب نِعمة الصَّبر، لذا نرى تزايُدًا في نِسَب الطلاق في مجتمعاتنا.
إنَّ عالَمَنا اليوم مَبنيّ على السُّرعة، إذ يسعى الإنسان للحصول على ما يريده بأسرع وقتٍ ممكن، من دون أن يؤدِّي ذلك إلى اكتفائه. إنَّ التِّلميذَين قرّرا مقاطعة جماعة الرُّسل والعودة إلى قريتهما، لكنَّ الربَّ يسوع لم يُقاطِع التِّلميذَين، بل رافَقَهما في مسيرة عودتهما، لأنّه لا يرغب بابتعاد أيّ مؤمِنٍ به عنه. لقد عاش التِّلميذان حالة من الضياع والحزن والكآبة، وقد عاتبا الربَّ قائلَين له: “كُنّا نرجو”. إذًا، اختبر هذان التِّلميذان، نوعًا من الكآبة، على الـمُـستَويَين: أوّلاً، الفرديّ، إذ تآكلهما الحزن من الداخل؛ وعلى مستوى الجماعة، إذ تركا جماعة الرُّسل في هذه الظروف الصَّعبة. إنَّ حالة الكآبة الّتي نشهدها في محيطنا تدلّ على فقدان المؤمِنِين رجاءهم الحقيقيّ. لقد سار الربُّ مع هذين التِّلميذَين معتمدًا ثلاث خطوات: الأولى، طَرَحَ السؤال عليهما لمعرفة سبب حُزنهما؛ ثانيًا، أصغى لروايتهما الحَدَث على طريقتهما، وثالثًا وأخيرًا قام بمساعدتهما على فَهم سبب حُزنهما. على المؤمِن أن يساعِد الإنسان الـمُحبط معتمدًا هذه الخَطوات الثّلاث:
أوّلاً طَرِح السؤال على الشَّخص الحَزين والـمُحبَط؛ ثانيًا الإصغاء لسبب حُزنه استنادًا إلى رواية الإنسان الـمَحزون لِما أصابَه؛ وأخيرًا محاولة مساعدته على تَخَطي حزنه. لقد تحلَّى الربُّ يسوع في إصغائه لِهَذين التِّلميذين بِنِعمة الصّبر، الّتي جَعلته يُدرِك سبب إحباطهما، المتعلِّقة بموته على الصّليب. في عالَمِنا اليوم، أخذت وسائل التّواصل الاجتماعيّ حَيِّزًا كبيرًا من حياة الإنسان حتّى أصبح لا يهتمّ للقائه بالآخَرين والإصغاء إلى آلامِهم ومساعدتهم. إنَّ الإصغاء إلى آلامِ الآخَرين وحده لا يكفي، إذ على المؤمِن محاولة التَّخفيف من أوجاعهم. لقد اختار الله موسى ليُحرِّر الشَّعب من حالة العبوديّة الّتي كان يعيشها في مِصر، فَظَهر لموسى وقال له: “إنّي قد رأيتُ مذَلةَ شعبي الّذي بِمِصر، وسَمِعْتُ صراخه بسبب مُسخِّريه، وعَلِمتُ بآلامِه، فنَزِلْتُ لأنُقِذَه من أيدي الـمِصريِّين وأُصعِدَه من هذه الأرض، إلى أرضٍ واسعةٍ”(خر 2: 7-8) . لقد أخبر الله موسى أنّه سَمِعَ صوت أنين شَعبه، ورأى مَذَلَّتهم، وعَلِم بمعاناتهم، ولذا قرَّر مساعدتهم عبر إخراجهم من هذه الأرض، بواسطة موسى. حين تتمسَّك الكنيسة برجائها بالمسيح، وتُصغي إلى أوجاع النّاس، فإنّه لا بُدَّ لها أن تسعى إلى مساعَدتهم، وعندها سيتغيَّر العالم وظروفه.
إنّ إنجيل اليوم في الكنيسة المارونيّة هو إنجيل المخلَّع. يُخبرنا هذا النَص أنّ هذا الرَّجل المريض قَد حُمِلَ مِن قِبَل أربعة رِجال، سَعوا إلى إيصاله إلى الربّ، على الرُّغم من ازدحام المكان بالنّاس. يُخبرنا النَّص أنّ هؤلاء الرِّجال قد عرَفوا أنَّ يسوع موجود في “البيت”. إنّ “أل”التَّعريف تشير إلى أنّ هؤلاء الرِّجال لَم يَروا إلّا هذا البيت في كلّ قرية كفرناحوم، وكأنّه البيت الوحيد فيها. إنَّ هذا البيت، هو بَيتُ بطرس، وهو يرمز إلى الكنيسة. على كلِّ ألمٍ نُعاني منه، أن نَضَعَهُ أمام يسوع الحاضر في الكنيسة،كي يتمّ شِفاؤنا منه. إنَّ الربَّ يسوع قادرٌ على كلّ شيء، لذا قام بشفاء المخلَّع عند رؤيته لإيمان الرِّجال الأربعة، وقال للمخلَّع: “لك أقول، قُم”. يُظهر هذا النَّص دَور الجماعة. على الجماعة أن تَحمل آلامَ بعضِها البعض، وهذا يتطلّب تعمُّقًا في الإيمان، فإنّ حَمل الجماعة للمريض يتطلَّب روحانيّة معيّنة يجب تعلُمُها، كي لا يشعر المريض بأنَّه حِملٌ ثقيل على الجماعة. إنَّ عبادة “الأنا”، هي إحدى أهمّ المشاكل الّـتي يواجهها عالمنا اليوم. على المؤمِنِين أن يحملوا أثقال بعضهم بصمتٍ، تمامًا كما فعل الرِّجال الأربعة مع المخلَّع: فَهُم قد حَمَلوا المخلَّع إلى يسوع، وتخطَّوا كلّ الحواجز في سبيل ذلك، من دون أن ينطِقوا بكلمةٍ واحدة.
يُخبرنا النَّص أنّ الربّ يسوع قد رأى إيمان هؤلاء الرِّجال، فشفى المخلَّع. إنَّ ازدحام النّاس في هذا المكان مَنع المريض من الوصول إلى يسوع إلّا عبر السَّقف. إنّنا نحن المؤمِنِين، نمنع في الكثير من الأحيان، الآخَرين من الوصول إلى يسوع، إذ لا نترك مكانًا للآخَرين للاقتراب منه، والحصول على الشِّفاء. فلنُفسِح المجال إخوتي، أمام الّذين يحتاجون إلى رؤية يسوع واللِّقاء به، على الرُّغم من حاجاتهم المختلفة، وحضاراتهم المتنوِّعة، لأنّ يسوع هو الوحيد القادر على كلّ شيء، فَهو مَصدَرُ رجائنا. إنّ يسوع كان متواجِدًا طوال النَّهار، في هذا البيت في كفرناحوم، بيتِ بُطرُس، وقد كان الربُّ يُصغي إلى النّاس ويُكلِّمهم بكلمة الله.
إنَّ الربَّ هو الوَحيد القادر على إعطاء الشُّروحات المناسبة للصُّعوبات الّتي نتعرَّض إليها، ودَفعِنا إلى النَّظر إليها بشكلٍ أفضل. عندما يسمع الربُّ أوجاعنا، يَضعُ كلمَته في قلوبنا، وهذا ما عبَّر عنه تِلميذَا عمّاوس بالقول: “أمَا كان قلبنا متَّقدًا في صَدرنا، حين كان يُحدِّثُنا في الطّريق ويشرحُ لنا الكُتُب؟” (لو 24: 32). لا أحد في العالم كلِّه قادر على إعطاء شُعلة الرّاحة لقلوبنا والسَّعادة لحياتنا، والمعنى لوجودنا، سوى يسوع المسيح. إنَّ اللّافت في يسوع هو أنّه دَفع بالتِّلميذين إلى إخباره بقصّته: قصَّة آلامه الّتي سبَّبت لهما حُزنًا كبيرًا؛ ثمّ عاد وأخبرهما قصَّته بطريقة مختلفة. إذًا، إنّ كلّ إنسانٍ يُخبر عن وَجَعه بطريقة معيّنة، ولكن حتّى حين نسمَع يسوع يُخبرنا عن آلامِنا تتغيّر نظرتنا إليها.
إنّ آلامِنا، حسب رؤيتنا لها، هي مَصدَرُ ألَمٍ وكآبةٍ، ولكنْ إنْ نَظرنا إليها، حسب رؤية يسوع لها، فإنّها ستتحوَّل إلى مَصدر لحضور يسوع، وكَلِمَتِه، وتُصبح آلامُنا مكانًا للعبور من الظُلمة إلى النُّور. إنَّ الربّ يسوع قد دَخَل إلى ليلِ هَذين التِّلمِيذَين الـمُظلم، إلى واقِعهما المرير، وحاول مساعدتهما على تَخطيِّه، من خلال كَسر الخبز معهما، وشرح الكُتُب لهما، قبل أن يتوارى عن أنظارِهِما. بعد أن تركَ الربّ حضوره في وَسَطهما، عاد هذان التِّلميذان إلى أورشليم، حيث جماعة الرُّسل. كذلك، نحن أيضًا، علينا العودة إلى الكنيسة بعد تَركِنا لها. عند عودة هذين التِّلميذين إلى أورشليم، شاركا الجماعة اختبارهما مع الربّ يسوع.
على المؤمِن التّيقظ والسَّهر على علامات الأزمنة، الّتي تُظهر غياب الرَّجاء في عالَمِنا. مِن مخاطِر فقدان الرَّجاء في عالَمنا:
أوّلاً: الثِّقة الـمُفرِطة بالّذات. يعتقد الإنسان أنَّه يستطيع وحده الاهتمام بأموره من دون حاجته إلى الله. وهذا اعتقادٌ خاطئٌ تمامًا، ولكنْ هذا لا يعني أنَّ على الإنسان فُقدان الثِّقة بذاته، بل على العكس، ولكنْ علينا أن نتذكَّر على الدَّوام قولَ الربِّ لبولس الرَّسول، والّذي يُوجَّه لنا اليوم: “تكفيكَ نِعمَتي”، فنُدرِك أين نضَع رجاءنا.
ثانيًا: مِن مخاطِر فقدان الرَّجاء اليأس والاستسلام للصُّعوبات الَّتي نواجهها في حياتنا اليوميّة. في عالمنا اليوم، نشعر في الكثير من الأحيان، بعدم قُدرتِنا على تغيير الواقع فنستسلم له، عِوضَ الصّلاة إلى الله، كي ننتَبِه إلى نعَمِه في حياتِنا، الّتي تَدفَعُنا إلى تغيير واقِعنا الدَّاخليّ، فننظر إلى الأمور من حَولِنا بإيجابيّة. لا مكان لليأس في قلب المؤمِن بالربّ. إنَّ الواقع الأليم الّذي نواجِهُه، يدفعنا إلى قَتل كلّ رَغبة في قلوبِنا، للعمل على تحسين الظروف الّتي نعيشها، فيُسيطِر علينا التشاؤم العقيم، فنَجد أنَّ الجميع في هذا العالم مُكتئبون، وحزانى، وأشبَه بـ”أوراق الوَفاة”. نحن مدعوُّون إلى تغيير نَظرَتنا إلى الواقع لا إلى تَجاهُلِه. على المؤمِن عدم الهروب من واقعه بل مواجهته؛ ولكنْ للأسف، يسعى البعض إلى السَّفر أو ترك القرية الّتي يعيش فيها، محاولاً بذلك التخلُّص من الأزمات الّتي يعيشها. إخوتي، إنّ الله قد زرَعَنا في هذا الواقع، لأنّه يريد منّا أن نحقِّق رسالته في هذا المكان تحديدًا.
ثالثًا: من مخاطر فقدان الرَجاء الاعتياد على الظروف الّتي تواجِهُنا، وعيش الرَّتابة. إنَّ الإنسان قد يعتاد على الأوضاع الّتي يعيشها، كما قَد يعتاد على الصّلاة والخِدمة الرَّسوليّة في الكنيسة. إنّنا اليوم مدعوِّون إلى اتِّخاذ العِبَر الرُّوحيّة من هذه الرِّياضة الّتي نشارك فيها، لا إلى العودة منها، كما أَتينا إليها من دون أيّ تغيير. إنَّ التَّكرار في بعض الأوقات له فائدته، لذا نحن مدعوَّون إلى عيشِه بلا ملل. إذا التقينا بالله ونِلنا منه الرَّجاء، يُصبح كلُّ عملٍ فينا، مَصدَر تَجدُّد، فلا تتسرَّب الرَّتابة من بَعد إلى قلوبِنا. إنَّ الصّوم هو نوعٌ من التَّرتيب لِبَيتِنا الدَّاخلي. في الصّوم، أنا مدعوّ لِعَيش “الـحُبّ التفضيليّ” ليسوع.
رابعًا: من مخاطر فقدان الرَّجاء الأنانيّة أي عَيش الفِردانيّة. إنَّ الفِردانيّة تقتل العيش الجماعيّ، إذ تدفع بالإنسان إلى التَّقوقُّع على ذاته، والاكتفاء بذاته، عِوضَ حثِّه على الخروج من سِجن “الأنا”، ودَفعه إلى لقاء الجماعة. إنَّ الكثير من البشر يعتقدون أنَّ الحياة بدأت بهم وبِهم تنتهي، فلا يحترمون لا الّذين سبَقوهم ولا الّذي سيأتون بَعدَهم، معتقدين أنَّهم مُخلِّصو العالم. إنَّ الحياة تحتاج إلى التَّكامل في العَمل، عِوضَ طَرح في كلّ حبقةٍ طريقة عمل مختلفة مناقضة للعَمل السّابق، وهذا ما نختبره في الشَّركات على سبيل الـمِثال، إذ نرى أنّ المدير الجديد، يُغيِّر مشاريع المدير السّابق من أجل إظهار ذاته وقُدراته، فيُوقِف العمل في المشاريع السّابقة، من دون السَّعي إلى تحقيق الهَدَف المنشود.
خامسًا: من مخاطر فقدان الرَّجاء، فُقدان الصَّبر، والاستعجال في تحقيق الأمور. إنّ عالمنا اليوم يفتقد إلى الصَّبر. إنَّ الرِّجال الأربعة في إنجيل المخلَّع، قد تَحلُّوا بالصَّبر من أجل الوصول إلى هَدَفهم، وهو إيصال الرَّجل المريض إلى يسوع. إنَّ عالمنا اليوم، لا يبحث إلّا عن المؤقَّت، إذ نجد أنَّ عددًا كبيرًا من العلاقاتِ بين البشر قد تتعرَّض للفشل، بسبب عدم احتمال الطرَفَين لصعوبات الحياة الّـتي تواجههم، والسَّعي إلى إيجاد الحلول لها. في عالمنا اليوم، نجد صعوبة في إيجادِ شخصٍ قادرٍ على الإصغاء لآلامِنا، والسَّعي لمساعَدتنا على تَخطِّيها. إنَّ عالمنا يبحث عن تحقيق رغباته بطريقة فوريّة وسريعة. ولم يعد هناك مِن صبر للإنسان لا على أخيه الإنسان ولا حتّى على الطبيعة، إذ نسعى للحصول على ثمار بطريقة أسرع.
فلنسعَ إخوتي، إلى ترتيب الأولويّات في حياتنا، ونركِّز حياتنا على رجائنا وصخرة إيماننا، الّذي هو يسوع المسيح، الأمس واليوم وإلى الأبد. لذلك يقول لنا المزمور:”إنّي ولو سلكتُ في وادي ظلال الموت، لا أخاف سوءًا لأنَّك مَعي” (مز 23). عمانوئيل معنا، فلماذا نفقد رجاءنا؟ إنّنا كجماعة نستطيع على مِثال الرِّجال الأربعة في نصّ المخلَّع، أن نهرع لمساعدة الّذين يُعانون من أوجاع، فنَزرعِ الرَّجاء في قلوب الآخَرين. اِسْعوا إلى زرع الرَّجاء، وإلى النَّظر إلى الحياة بطريقة إيجابيّة، فتتغيّر جميع الأمور من حولكم. اسعوا إلى الابتسامة. إنَّ يسوع يحتاج إلى عُمالٍ في كَرمه، ليزرعوا الرَّجاء، والفرح في النُّفوس، فلنَكُن نحن هؤلاء العُّمال في حقل الربّ في هذا العالم.
نسأل الله أن يُعطينا النِّعمة لقراءة أفضل لعلامات الأزمنة، من خلال الإصغاء إلى أوجاع الآخَرين والسَّعي لمساعدتهم، قائلِين للربّ: ها نحن يا ربّ، قد أتينا لِنعمل مَعك، حامِلين أوجاع النّاس إليك، كي تؤهِّلنا لمساعدتهم وزرع الرَّجاء في قلوبهم. نَعِدُك بعدم التَّراخي وعدم الابتعاد عنك، وعدم تَرك الجماعة الكنسيّة، لأنّك معنا، الأمس واليوم، وإلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.