الرياضة السنويّة 2020 بعنوان: “أقوم وأمضي إلى أبي” (لو 18:15)
عن بعد،
الموضوع الثاني: “أقوم وأمضي إلى أبي” (لو 18:15)
الخوري جوزف سلوم،
إنَّ حديثنا اليوم هو مِن وحي إنجيل مَثَل الابن الشَّاطر، الّذي يمكن أن نُعطيه عناوين أخرى، على سبيل الـمِثال: “الابْنَان”، أو “محبَّة الآب” (لو 15: 11- 32).
في مقدَّمة حَديثِنا، أودُّ أن أتكلَّم عن إطار هذا النَّصّ. في بداية النّص، نلاحظ أنَّ الربَّ قد دخل إلى بيتِ إنسانٍ خاطئ، وقد أكَلَ معه. وقد تذمَّر الكتبَة والفريسيِّون مِن موقف يسوع، فقاموا بِمُجادلَته. إنَّ الربَّ يسوع هو مُربٍّ، فَهو يستخدم طُرقًا مختلفة في كلِّ مرَّة للتَّواصل مع الآخَرين، ليَربح الجميع. ونلاحظ هذه المرَّة أنَّ الربَّ يسوع لم يُجادِل الكَتَبة والفريسيِّين، بل أعطى ثلاثة أمثلة تَمكَّن من خلالها الإجابة عن تَذَمُّرِهم واعتراضِهم على دُخولِه، إلى بيوت الخطأة ومخالَطَتهم. إنَّ الربَّ يسوع كان، بالنِّسبة للكَتبة والفريِّسيين، نَبيًّا.
إنَّ أوَّل هذه الأمثلة الثَّلاثة: هو مَثَل الخروف الضَّال، وفيه يُخبرنا الإنجيليّ أنَّ الرَّاعي قد ترَك تسعة وتسعين خروفًا ليَبحثَ عن الخروف الضَّال، وقد فَرِح عندما وَجَده، ويقول لنا الربُّ في نهاية هذا الـمَثل: “هكذا يكون الفرحُ في السَّماء بِخاطئٍ واحِدٍ يَتوبُ أكثر من الفرح بتِسعةٍ وتِسعينٍ من الأبرارِ لا يَحتاجونَ إلى التَّوبة”(لوقا 15: 7).
أمَّا الـمَثَلُ الثّاني فهو عن المرأة الفِلَسطِينيِّة الّتي حَصَلت على هديّة من والِدها وهي عبارة عن عَشرة دراهم وقد أضاعت إحداها، فقامت وأشعلت السِّراج وكَنَّست البيت بحثًا عن دِرهمِها المفقود، إلى أنْ وَجَدته، ففرِحت به. كذلك تفرح السَّماء بكلِّ شخصٍ يتوب، إذ إنَّ الربَّ يكون في انتظار عودته عن طريقه الضَّال، ليُظهِرَ للتّائب رحمته وحنانه وحُبّه له.
أمَّا الـمَثل الثَّالث والأخير فَهو مَثل الابن الشَّاطِر. إنَّ هذا الـمَثل الّذي نقرأه في إنجيل لوقا 15، يُعطي جوابًا لِكلٍّ مِنَّا، إذ يُخبرنا أنَّ الله الآب ينتظِر الجَميع، ممّا يدفعنا إلى العودة إلى بيت الآب الّذي ينتظرنا.
وفي هذا الإطار، أودُّ أن أعطي عنوانًا جديدًا لهذا النَّصّ، مختلفًا بعض الشَّيء، هو: “عودوا إلى البيت”. في الظّروف الّتي كُنّا نعيش فيها، كُنَّا نعيش “هَرولة”، إذ كُنَّا نسعى وراء أمورٍ كثيرة، ولم نكن نملك الوقتَ سابقًا لإنهائها. نحن أخطأنا تجاه بيتنا الوالِديّ: إذ إنَّ البَعضَ منَّا خرج من البيت وقرَّر عدم العودة إليه مُجدَّدًا، والبعض الآخَر يقف أمام باب البيت رافضًا الدّخول إليه مُجدَّدًا؛ بمعنى آخر، هناك أُناسٌ يعيشون اللّامبالاة والغُربة، وآخَرون يرفضون الدُّخول إلى البيت وعَيْش الشَّراكة مع الآخَرين الّذين يعيشون في داخل هذا البيت.
بدايةً، سأتطرَّق في حديثي إلى تصرُّفات الابن الأصغر: إنَّ خَطأه الكبير يكمن في تقسيمه الميراث، وبالتّالي تَصرَّفَ بعكس المنطق الـمُعاصِر ليسوع المسيح، إذ لا يحقُّ للابن المطالبة بالميراث طالما أنَّ الوالد لا يزالُ على قيد الحياة. وهذا التصرُّف يختبره كلُّ إنسانٍ في الحياة عندما يسعى إلى إلغاء صورة الآب رافضًا الخضوع لسُلطته والخضوع للشَّريعة، فيعيش حياته وكأنَّ الله الآب غير موجود، وكأنّ الله لا علاقةَ له بتاريخ البشريّة وبالأخصّ بحياة الإنسان الخاصّة. إنَّ الابن الأصغر عاش في الغُربة، إذ ترَك بيت أبيه، وأَنفق كلَّ شيء. إنَّ هذا البيت يرمز إلى بيت الآب السَّماويّ. عندما نخرج من هذا البيت، نتعرَّى ونفتقر ونخسر هذا الجوَّ الموجود في هذا البيت. عندما يفتقر الإنسان، فإنَّه يُسبِّب افتقارًا للمحيط الّذي يعيش فيه، بدليل أنَّ المنطقة كلَّها، الّتي عاش فيها الابن الأصغر، عانَتْ من الفقر والمجاعة. إذًا، أنا لا أختبر الشَّر وَحدي، بل أصبح لبنان كُلُّه والعالم بأسرِه يَختَبِر الشَّر، لذا يعيش في حالةٍ من الخوف والقلق. إنَّ هذا الخوف وهذا القَلق وهذا الجوع من شأنها أن تُذكِّرنا أنَّنا ابتعدنا عن البيت الوالِدي. إخوتي، لا نسمحنَّ فقط للخوف والقلق أن يُعيدانا إلى البيت الوالِديّ، بل لِيَكُن الحُبّ والشَّوق والحَنين إلى الله الآب، هي ما يُعيدُنا إلى البيت الوالِدي. وهنا، تَظهر ضرورة صِناعة قرارنا من خلال العودة إلى نَفوسِنا، فالجلوس في البيت في هذه الفترة يساعدنا على ذلك، لِنَتصالح مع هذا الآب الّذي ينتظِرنا “ويَرانا مِن بعيد” عند عودتنا من السَّفر البَعيد. وهنا، نلاحظ أنَّ الله الآب لا مكانَ “بَعيدٍ” بالنِّسبة له، فمَهما ابتعدنا يبقى بانتظار عودتنا إليه. إنَّ موقف الآب هذا يدعونا إلى التَّفكير، وطَرحِ السُّؤال على ذواتِنا: هل نحن على مِثال الابن الأصغر، أخذنا كلَّ الغنى من البيت الوالِديّ، بما في ذلك المواهب، وبدَّدناه بعيدًا عن هذا البيت؟
والآن، ننتقل للكلام عن موقف الابن الأكبر: فهذا الابن الأكبر قد رَفَضَ الأُخّوة، تلك الأُخوَّة المجروحة. وهنا، نطرح السُّؤال على ذواتنا: كَم مِن المرَّات رفضنا بعضُنا البعض؟ في هذا الـمَثل، نلاحظ أنَّ الأب استقبل الابن الأصغر وذَبَح له العِجل الـمُسمَّن، وأرجع له الاستقلاليّة، تلك الحريّة الَّتي أساء استعمالها، وألبَسَه الحذاء، وأعاده للعَهد من خلال إلباسِه من جديد الخاتم في يدِه، وأَلبَسَه رداءً جديدًا، فنحن مع المسيح خليقة جديدة. ونلاحظ من جهة أخرى، موقف الابن الأكبر الّذي اتَّسم برفضِه الدُّخول إلى البيت، وقد تجسَّد رفضُه بقَولِه لأبيه: “ابنُكَ هذا”(لو 15: 30)، بدلاً من استعماله كلمة “أخي هذا”. إنَّ النَّص لا يُخبرنا إنْ كان هذا الابن الأكبر عاد ودخل إلى البيت. إنَّ الابن الأكبر يرمز إلى كلِّ واحدٍ منَّا، وبالتَّالي القرار يعود لنا بالدُّخول إلى البيت مُجدّدًا والقبول بأُخوِّتِنا. ومن هنا، فالمطلوب منّا هو العودة إلى البيت. إنَّ الآب هو في خروجٍ دائم: فهو قد خرج لملاقاة ابنه الأصغر فاستقبله وقبَّله طويلاً؛ كما خرج من أجل الابن الأكبر، لِدَعوته إلى الدُّخول إلى البيت، فرغبة الآب تكمن في دُخول الجميع إلى البيت، لذا قال الآب للابن الأكبر:”أخوك هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالّاً فوُجِد”(لو 15: 32).
أمّا الآن، فننتقل إلى الكلام عن الخادم، الّذي أخبَر الابن الأكبر بما حدَث، فأخبره أنَّ أباه قد ذَبَح العِجل الـمُسمَن لأنَّه لَقِي أخاه الأصغر سالِمًا. وهنا أريد أن أتوقَّف عند هذه العبارة “لأنّه لقِيَه سالِمًا”. واليوم، أتمَّنى بعد هذا الاختبار الّذي نعيشه من جلوسٍ في المنزل، أن ألقاكم جميعًا سالِمين، لذا انتبهوا على ذواتكم، كي نتمكَّن من الاشتراك مجددًّا معًا في الافخارستِّيا ونستعيد حياتنا، وهذا ما سيُفرِّحنا، فالعِجل الـمُسمَّن هو علامة فَرحٍ، فهذه المرحلة ليست دائمة بل عابرة. لكن من ناحية أخرى، أتمنّى أن ألقاكم سالِمين، تعني أن ألقاكم وقلوبكم نقيّة من دون خطيئة، كي نستحقّ هذا العِجل الـمُسمَّن، هذه الافخارستّيا، هذا الحمل المذبوح من أجلِنا من أجل خلاصِنا.
أدعوكم أحبّائي، كي يُفكِّر كلُّ واحدٍ منّا انطلاقًا من هذا الإنجيل، ماذا يريد الربُّ أن يقول له، وما هي الكلمة الّتي لَمِستَ قلبه، وأن يُعطي في ضوئها اختباره الرُّوحيّ.كما أتمنَّى أن نتشارك مع بعضنا البعض في هذا الاختبار الرُّوحيّ، فنُغني بعضنا البعض.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.