الرياضة السنويّة 2024 بعنوان: “إنّ كلّ ما طلبتم من الآب باسمي، يُعطيكم” (يو 23:16)
المركز الرّوحيّ – زوق مكايل، كسروان.
الموضوع الأوّل: “إنّ كلّ ما طَلبْتم من الآب بِاسمي يُعطِيكم”(يو 23:16)
الأب ابراهيم سعد،
إنَّ الآية المختارة كعنوان لِتَأمّلنا اليوم، هي من إنجيل يوحنّا (16: 23): “وفي ذلك اليوم، لا تسألوني شيئًا: الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إنّ كلَّ ما طلبتُم من الآب باسمي يُعطيكم. إلى الآن لم تَطلبوا شيئًا باسمي. أُطلبوا تأخذوا، ليكونَ فرحكم كاملاً”. قَبل هذه الآية، نقرأ الآية التّالية: “فأنتم كذلك، عندكم الآن حزنٌ ولكنِّي سأراكم أيضًا، فتَفرَح قلوبكم ولن ينزَع أحدٌ فرَحَكم منكم”. وإذا أردنا ترجمة الآية 23 من الإصحاح 16 من إنجيل يوحنّا على الطريقة اللُّبنانيّة، سنَقوم تِلقائيًّا بتسجيل لائحة طَلبات من الله على النَّحو التَّالي: رِبح الجائزة الأولى في اللُّوتو، التَّوفيق في صفقةٍ معيّنةٍ نَقوم بها، نجاح أبنائنا في امتحاناتهم المدرسيّة، والتَّوفيق في إيجاد شخصٍ مناسبٍ لنا للزّواج به… إخوتي، إنَّ الربَّ لم يقصد بكلامه هنا في إنجيل يوحنّا طِلباتٍ كالَّتي ذَكرناها، فهذه الطِّلبات غير موجودة في “الدُّكان الخاصّ بالله”. عندما نُدرِك أنّ الله لم يستَجِب لِطِلباتنا لأنّها غير موجودة لديه، نشعر بالحزن.
إخوتي، إنّ هذه الآية صَعبةٌ للفَهم، إذا قُمنا بِعَزلها عن السَّياق الّتي أتَتْ فيه: لقد وَرَدتْ هذه الآية ضِمنَ خطاب يسوع الوداعيّ لتلاميذه، وقد نَقلَه إلينا الإنجيليّ يوحنّا على مدى ثلاثة إصحاحاتٍ متتالية. في هذا الخِطاب، أخبر يسوع تلاميذه عن الحزن الّذي سيَملأ قلوبِهم عندما سيُساق إلى المحاكمة ثمّ إلى الصَّلب أي إلى الموت، إذ قال لهم: “أنتم ستَبكون وتَنوحون، والعالَم سيَفرَح. أنتم ستَحزنون، ولكن حزنكم يؤول إلى فرَح” (يو16: 20). إذًا، لقد ورَدتْ هذه الآية ضِمن حديث عن التَّعزيات الّتي سينالها التّلاميذ من الرُّوح القدس بعد موتِ الربّ. وبالتّالي، ما قصَده الربُّ بهذه الآية هو أنّ تلاميذَه لم يطلبوا شيئًا بَعد من الله، لأنّ الفرح الكامل لم يحدث بَعد، لأنّ القيامة لم تَحصل بَعد. بعد القيامة، سيَلتَقي الربُّ القائم من الموت بتلاميذه، الّذين سيَكونون في حالةٍ جديدة لأنّ الرُّوح القدس سيَكون قد حلَّ فيهم. عندما ظهر الربُّ القائم من الموت على تلاميذه، نَفخ فيهم الرّوح القدس قائلاً لهم: “خُذُوا الرُّوح القدس”. إذًا، إنّ الّذي يقصده الربّ يسوع من خلال هذه الآية: “إنّ كلّ ما طلبتُم من الآب باسمي، يُعطيكم” (يو 16: 23)، لا الطِّلبات الأرضيّة إنّما الطِّلبات المرتبطة بالحصول على الرُّوح القدس، الّذي يمنح التّلاميذ القوَّة لتنفيذ الـمَهمَّة المطلوبة منهم في هذا العالَم والّتي أوكلَهم بها الربّ يسوع، وبالتَّالي أوكَلَنا نحن أيضًا القيام بها.
إنّ كلَّ واحدٍ منّا يرسم في مخيِّلته صورةً عن الله على مقياسِه هو، ونُحاسِب الله انطلاقًا من هذا الرَّسم. إخوتي، مهما كان الرَّسم الموجود في مخيِّلتنا عن الله جميلاً، إلّا أنّه يبقى مجرَّد رَسمٍ، أي أنّه جامدٌ لا يتحرَّك، وبالتّالي يتحوَّل الله في مخيِّلتنا إلى صَنمٍ. وإذا كان الله صَنمًا، فإنّه سيَكون غير قادر على سماعنا، وبالتَّالي لا يمكنه التَّفاعل مع طِلباتنا. غير أنّ الله ليس صَنمًا، بل هو إلهٌ حيٌّ: فَقَد ظهر لموسى في العليّقة، وعرَّف عن نفسه من خلال العبارة العِبريّة التَّالية: “أهيِه أَشِر أهيِه”(خر 3: 14)، والّتي تعني في العربيّة، “أكون الّذي أكون”، وهذا يعني أنّ الله يُعرِّف عن ذاته مِن خلال الحدث الّذي يقوم به. إنَّ الله ليس إلهَ مكانٍ كي يأتي المؤمنون به إلى العليَّقة ليَرَوه؛ ولا هو إلهُ زمانٍ، بِمعنى ذِكرى؛ بل هو إلهُ حَدَث، يُعبِّر عن حضورِه بالفِعل الّذي يقوم به. إنّ الربَّ يقول لنا إنّ كلمَتَه يُرسِلها إلى العالَم لتَفعل فِعلها، ولا تعود إليه إلّا بعد أن تكون قد أتمَّت ما هو مطلوبٌ منها. في الكِتاب المقدَّس، يقول لنا الربّ: “إنّ أفكاري ليسَت كأفكارِكم، وطُرقي ليسَت كَطُرُقِكم. كبُعد الـمَشرِق عن الـمَغرب، هكذا أفكاري بعيدةٌ عن أفكارِكم، وطُرقي عن طرُقِكم. يقول الربّ”(إش 5: 8-9). وهنا تكمن مُشكِلَتُنا نحن البشر، إذ إنَّ أفكارنا لا تتطابق مع أفكار الله، بل هي بعيدةٌ جدًّا عنه. وبالتّالي، كي نجد حلّاً لهذه المشكلة، علينا ألا نجعل الله مطابقًا لفِكرنا البشريّ، بل أن نسعى كي نجعل أفكارَنا مشابهةً لفِكر الله؛ وعوِضَ أن نَجعل الإنجيل مناسِبًا لتَفكيرنا، فلنَجعل تفكيرِنا يتناسب مع فِكر الإنجيل.
إخوتي، للأسف، نحن ميّالون إلى أن نَعبُد الله بِشَكلٍ يكون فيها الله خادمًا لنا، إذ إنّنا نَعبدُه ضِمنَ شروطٍ معيّنةٍ، ونَسعى إلى ممارسة التَّهديد والوعيد معه، في حال لم يستَجب لِطِلباتنا. إخوتي، لا شيءَ جديد تحت الشَّمس: فكما نَتعامَل نحن اليوم مع الله، هكذا كان الشَّعب في العهد القديم يتعامَل مع الله: فالشَّعب الّذي خلَّصه الله من العبوديّة في مِصر فأخرجه إلى الصَّحراء، كان يَعمد إلى تهديد الله بالعودة إلى أرض مِصر إن لم يستَجب لِطِلباتِهم. عندما قرَّر الله أن يستَجيب لِطلبات شَعبه في الصَّحراء الّذي كان يُطالبه بالطَّعام، أخبرهم أنّه سيُرسِل إليهم الطَّعام كلّ يوم، ولكنّه يريد منهم أن يأخذوا حاجتهم من الطَّعام من دون تخزين قِسمٍ منه لليوم التّالي. وعلى الرُّغم مِن وَعد الربِّ لشعبه بتأمين الطَّعام لهم بشكلٍ يوميّ، إلّا أن البعض لم يؤمنوا بكلامِه، فخزَّنوا قِسمًا من الطَّعام لليوم التّالي، فكان الطَّعام يَفسُد. هنا نسأل: مَن الّذي يُجرِّب مَن؟ هل الله هو الّذي يُجرِّب الشَّعب، أَمْ أن الشَّعب هو الّذي يُجرِّب الله؟ إخوتي، في الحقيقة، إنّ الإنسان هو الّذي يُجرِّب الله، وليس العكس. إنّ الله لا يفرَح لِسُقوطِنا، كما نَظنّ، بل هو يعمل على نَجدَتِنا. حين نُبادِر إلى القول إنّ الله هو هكذا، وإنّه يقبل بهذا الأمر ويرفض ذلك الأمر، فهذا يعني أنّنا جعَلْنا الله أمرًا مفروغًا منه، وهو ليس كذلك في الحقيقة. إنّ الإنسان لا يعرف الله، وليس مطلوبًا منه أن يَعرِفه، ولكن ما هو مطلوبٌ منه هو أن يُدرِك أنّ الله يَعرفُه. أيّها الإنسان، لستَ إلّا رسّامَ تماثيلَ وأصنام، لها أفواه ولا تتكلَّم، لها عيون ولا تَرى، لها آذان ولا تسمع.
في سِفر إشعيا، يقول لنا النبيّ في إحدى أناشيد عَبد يَهوه، إنّ الله قد أعطى الإنسان آذانًا لِيَتمكَّن هذا الأخير مِن سماع كلمة الله. أن يُصغي الإنسان إلى كلمة الله، فهذا يعني أنّ الله يتكلَّم إلى الإنسان يوميًّا ويطلب منه شيئًا جديدًا، وبالتّالي لا يستطيع الإنسان أن يعرِف مُسبقًا ما الّذي يريده الله منه.
إخوتي، عندما يتكلَّم الله إلى الإنسان، فإنّه يَحصرُ الإنسانَ بهذه الكلمةِ الإلهيّة، ولكنَّه لا يَحصر نفسَه بهذه الكلمة لأنّه هو الله. هنا، قد يسأل البعض: أمِنَ المعقول أن يكون الله في كلّ يومٍ وفي كلّ ساعةٍ مختلفًا؟ إذا كان ذلك غير جائزٍ لكَ أيّها الإنسان، فهذا يعني أنّك وَضعتَ الله ضِمن إطارٍ محدَّدٍ، وهذا الأمر غيرُ جائزٍ لكَ. وهنا، قد يطرح البَعضُ السُّؤال: إذًا، كيف عسانا نتعامل مع إله لا يمكننا معرفته بشكلٍ مؤكَّد؟ في صباح كلِّ يوم، عند استيقاظِنا من النَّوم، نتعرَّف على الله كلّ يومٍ بطريقةٍ مختلفة. إنَّ الله يدعوك إلى التَّعامل معه مِن خلال الحدث الّذي يُظهِرُ لكَ فيه نفسه، منذ لحظة استيقاظِكَ من النَّوم. وهنا نسأل: كيف يَظهر الله لنا عند استيقاظِنا من النَّوم؟ إنّ الله يَظهر لكَ من خلال استيقاظِكَ من النَّوم، إذ تمكَّنتَ مِن فَتح عينَيك فآخرون لم يتمكَّنوا من ذلك، ولم يستيقظوا من نومِهم.
إنّ الآية الّتي نتأمَّل بها اليوم تدعونا إلى الطَّلب مِن الله باسم يسوع المسيح. إنّ الاسم يعني الحضور. إذًا، علينا أن نطلب من الله بحضور يسوع المسيح، وبالتّالي، لا يمكننا أن نطلب من الله أمورًا غير موجودة عنده وأمورًا لم يمنحنا إيّاها الربّ يسوع ولم يَعِدَنا بها. بمعنى آخر، لا يمكننا أن نَطلب من الله بشروطنا نَحن، إنّما بِشروطِه هو. أيّها الإنسان، لا يُمكنكَ أن تتلاعب على الله، فتَضعَ يسوع المسيح جانبًا عندما تطلب من الله. لا يُمكنكَ أيّها الإنسان أن تأتي إلى الله من دون الربّ يسوع المسيح، إذ تُصبح سارقًا ولِصًّا، لأنّ مَن يريد أن يأتي إلى الله الآب، عليه أن يَدخل من الباب الّذي هو يسوع المسيح. قد يقول لي البعض منكم: إلى الآن أبتِ، لم نبدأ بموضوع تأمُّلنا لليوم، ثمُّ يُضيفون قائلين: إنّنا نطلب من الله أمورًا كثيرة ولكنّنا لا نشعر أنّه يَستَجيبُ لنا؟ هنا، أقول لكم: إخوتي، إنَّ الله غير مرتبطٌ بأحاسيسنا. فإذا شَعرتَ أيّها الإنسان،
أنّ الله قد استَجاب لطِلبَتِك، فهذا يعني أنّ الله قد استَجاب حقًّا لطلبَتِك. أمّا إن لم تَشعر بأنّه قد استَجاب لطلَبِك، فهذا لا يعني أنّه لم يستَجِب لكَ. إخوتي، إنَّ الله قال لنا إنّه سيُعطينا ما نسأله، ولكن إن طلبناه بإيمان. وهنا، قد يقول لي البعض: إنّنا صلَّينا بإيمانٍ من أجل شفاء قريبٍ لنا، ولم يَستجب الربُّ لنا؛ أمّا جارَتنا فقد استجاب الله لها عندما طلبَتْ منه شفاءَ قريبٍ لها! إخوتي، ما بَالُكم تدخلون في تفاصيل استجابات الله؟! إنّ دخولَنا في تفاصيل استجابة الله لِشِفاء إنسانٍ جسديًّا وعدم شفائه لآخر، يدعونا إلى طرح السُّؤال: عن أيِّ إلهٍ نتكلَّم؟! مِن خلال هذه الآية، الّتي نتأمَّل فيها اليوم، يدعونا الربّ يسوع إلى طَلب الرُّوح القدس في وقت الشِّدة ليُعزِّينا، وفي وقت الضَّعف ليُشدِّدنا، وفي وقت التَّجربة ليُنقِذَنا، ومِن خلال تعامُلِنا مع الآخَرين، سيُعطينا الثِّمار فيَحفر فينا بئر المحبَّة الّذي منه يَخرج ينبوع الرَّحمة. إنّ الله قد أظهرَ لنا حُبَّه لنا ورِضاه علينا مِن خلال يسوع المسيح. إنّ أكبر خطيئة قد يرتكبها الإنسان، هي اعتبار هذا الأخير نفسه إنسانًا بارًّا بلا خطيئة.
إنَّ محبَّة الله لنا، تدفعنا إلى النَّظر إلى خطايانا، فنَكتَشِفها ونقرِّر التَّوبة والعودة إلى الله. إنَّ الله يُحبُّنا بجنون، لذا هو يتصرَّف معنا بطريقةٍ تَفوق تَصوّرَ عقلِنا البشريّ، فَحُبّ الله لا يتجانس مع تفكيرِنا البشريّ. إنْ تَصرَّف أحدٍ معنا بطريقةٍ لا نتقبَّلها ولا نلجأ إليها في تَصرُّفِنا مع الآخرين، نُبادِر إلى وَصف هذا الإنسان بِأنّه إنسانٌ “غير طبيعيّ”. إنّ حُبَّ الله لنا هو حبٌّ غير طبيعيّ: لأنّه يسامحنا كلَّما أخطأنا؛ في حين أنّنا لا نستطيع أن نسامح الآخرين أكثر من ثلاث مرَّات أو أربعة على الأكثر، حين يُخطئون إلينا. إنّ الإنسان يُسارِع إلى مَنع طِفلِه الصَّغير الّذي لا يستطيع الكلام بعد، من القيام بأمور خاطئة، فيَضربه على يده لمنعه من وَضعِها، على سبيل المِثال، في النَّار وحَرقِها. إخوتي، إنّ الله قد تزوَّج الشَّعب. إنّ الله هو العريس والشَّعب هو العروس.
إنّ الله يأتي إلى عروسِه في كلِّ يومٍ فيراها متَّسخةً، فلا يستطيع الاتِّحاد بها قبل أن يَغسِلَها بالكلمة الإلهيّة، فتعود من جديد إلى حالة النِّعمة فتَكون بلا عيب، فيتمكَنّ العريس من الاتِّحاد بعروسه. إنّ الله يقوم بهذا العمل كلّ يومٍ معكم. فهل هذا تَصَرُّفٌ بشريّ، أم هو جنون؟! هذا هو الحُبّ! والحُبّ جنون! إنّ المحبوب الّذي يَطلب مِن الـمُحِبّ أمورًا تختَّص بمصلحتِه، هو إنسانٌ ابتزازيّ. أمّا إذا طَلَب المحبوب من الـمُحِبّ أن يبقى على حُبِّه له، فهذا المحبوب يَفهم ويُدرِك معنى الحُبّ.
إذًا، إنّ هذه الآية الّتي نتأمَّل فيها اليوم تدعونا إلى أن نَطلب من الله باسم يسوع، ما يَستطيع الربّ أن يُعطينا إيّاه، أي الحُبّ غير المتناهي، الحُبّ غير المحدود، الحُبّ غير الموصوف، الحُبّ غير الـمُدرَك. في اللّاهوت الشرقيّ، هذا يُسمّى باللّاهوت التّنزيلي، أي لاهوت “الغير”، لأنَّ فيه يُدرِك الإنسان أنَّه لا يمكنه أن يَحُدَّ الله ولا أن يَعرِفَه إلّا إذا عرَّف الله عن نفسِه له. لذلك، نجد أنّ الإنجيليِّين الأربعة في كلامِهم عن ظهورات الربّ لتلاميذه بعد القيامة، لا يستعملون فِعل “رأى”، لأنّ هذا الفِعل يتطلَّب وجود فاعل، بل يستعملون فِعل “أوفسي” اليونانيّ الّذي ترجمته في العربيّة “رُؤِيَ مِن قِبَلهم”، وهذا يعني أنّ التَّلاميذ ما كانوا قادرين على رؤية الربّ لو أنّه لم يَسمَح لهم بِذَلِك. هنا، نتذكَّر قصّة تِلميذَي عمّاوس: فالإنجيل يُخبرنا أنّ الربَّ يسوع سار مع هذين التِّلميذين طول الطّريق، ولكنّهما لم يتمكّنا من معرفته إلّا عند كَسر الخبز، أي حين سَمح لهما بِذَلك. إنّ كَسرَ الخبز يعني العشاء السِّريّ، أو القدَّاس، وبالتّالي، تمكَّن تِلميذا عمّاوس من معرفة الربّ عندما أعطاهما جسده من جديد من خلال كَسر الخُبز. إنّ كَسرَ الخبز هو فِعل الخلاص بسبب الحُبّ، وكُلّ حُبٍّ له صورة “الصّليب”. مَن اتَّبع الحُبّ عانَق الصّليب؛ ومَن صار مَحبوبًا عانق القيامة. مَن يُحِبّ يموت، ومَن يُحَبَّ يعيش. كيف ذلك؟ هذا ما قام به الربّ يسوع وهذا ما حدث معه، إذ إنّه مات، كي يعيشَ المؤمنون به.
ولكن قد يتساءل البَعض: أنا أُحبّ آخرَ، وها نحن نعيش كِلَيْنا! هذا صحيح، ولكن عليكَ أن تُحبَّ الآخر، بطريقةٍ يتحوَّل حبُّك له إلى مواجهة للموت. لنفتَرِض أنّ هذا الآخَر قد رَفضَ في لحظةٍ معيّنةٍ حبَّك له، عندها تأكَّد أنَّك سَتَموت بسبب هذا الحُبّ. وإذا تبادَلتما هذا الحُبّ، عندها سَتَكونان كِلَيكما تَسلُكان في طريق الصَّليب. في هذا الإطار، يقول القدِّيس بولس: “إنّ كلمة الصَّليب عند الهالِكين جهالة”(1 كور1: 18)، ولكن إذا عُدنا إلى التَّرجمة اليونانيّة لهذه الآية، نراها مكتوبة على الشَّكل التّالي: “إنّ الكلمة هي الصَّليب”، وهذه العبارة تعني أنّ فَحوى الإنجيل هو الصَّليب. إذًا، إنّ منطقَ الصّليب هو جهالةٌ عند النّاس، ولكنَّه عند المؤمِنِين قوّةُ الله، إذ إنّنا كمؤمِنِين قد أَدرَكنا أنّ الصَّليب هو نتيجة طبيعيّة للحُبّ. وهذا أيضًا ما عبَّر عنه بولس الرَّسول حين قال: “إنّ الموت يَجري فينا، والحياة فيكم”(2 كور 4: 12). إنّ الرُّسل قد ماتوا بشكلٍ يوميّ، كي يحيا الّذين يسمعون كلمة الله.
إذًا، حتّى نتمكَّن مِن فَهم هذه الآية في هذه الرِّياضة الرُّوحيّة، علينا ألّا نتكلَّم على الأشياء الّتي نَطلبُها من الله، إنّما علينا أن نتكلَّم على إدراكنا ماذا يعني أن نَطلُب. حين نتكلَّم عمّا نَطلبه، فهذا يتطلَّب منَّا التَّكلم على كيفيّة الاستجابة لِتِلك الطَّلبات؛ ولكن إذا أردنا أن نتكلَّم على كيفيّة الطَّلب من الله، فإنّنا لن نكون في انتظار استجابة الله لهذا الطَّلب، لأنّ الصّلاة هِي صِلَةٌ. الصّلاة ليست مجموعة طَلَبات، مع العِلم إنّنا نقول في كلّ صلاة: “مِن الربِّ نَطلُب”. إنّنا نُصلِّي إلى الله قائلين “من الربّ نَطلب”، لأنّنا نُدرِك أنّ لا أحد سواه قادِرٌ على الاستجابة لِطلباتنا. إنّ الله هو الـمَحجَّة، إنّه المكان وهو الحدث الّذي ندخل فيه لنَطلب منه.
ولكن، أين تكمن المشكلة؟ إنّ المشكلة تكمن في الطَّلب وفي أهميّته. على المؤمِن أن يطلب من الله أمورًا متوفِّرةً لديه: على المؤمِن أن يَطلبَ الملكوت على الرُّغم مِن الحالة التّي يُعاني منها بسبب خطاياه، مع العِلم أنّ الله قد سبَق وقال لنا في إنجيل متّى، إنّ لا أحد يستطيع أن يَدخل إلى العرس السَّماويّ إن لم يكن عليه ثوب العرس. ولكن على الرُّغم من ذلك، يريد الله أن يَصنَع لكَ مخرَجًا كي يَتمكَّن من إدخالِكَ إلى العرس السّماويّ، لذا، يقوم بِغَسلِكَ كلّ يومٍ بالكَلِمة، فيُعيدك بلا غَضَن، أي بِلا عَيب، عَروسًا بيضاءَ فيأتي العريس الأبيضَ فيتَّحد معكَ. إنّ أوَّل زواج في الكنيسة لم يكن عرس قانا الجليل، لأنّ عرس قانا الجليل لم يكن زواجًا كنسيًّا. إنّ أوّل زواج تمَّ في الكنيسة تمَّ على فِراشٍ اسمه الصَّليب، حيث حَصل الزَّواج بين العريس والعروس أي الكنيسة، الشَّعب الّذي يريده الربّ يسوع: “وما يجمعه الله لا يُفَرِقَّه إنسان”(متى 19: 6). في هذه العبارة، يتكلَّم الله على زواج المسيح وكَنِيسَته: فإذا كانت الكنيسةُ خائنةً فإنّه لن يُطلِّقها، وإن كانَتْ ضعيفةً فإنّه لن يتركها، وإن كانت انتهازيّة وابتزازيّة سيتغافل عن ذلك، لأنّها عروسَه الأبديّة الّتي اختارَها.
إذًا، حين يكون للكنيسة، عريسٌ على هذا الشَّكل، هل تستطيع التَّخلِّي عنه؟! إنّ تخلِّي الكنيسة عن عريسٍ كهذا لا يُسمّى خطيئة فَحسب بل حماقة، بِحَسب منطِق الإنجيل. فإن كان الزَّواج بين الكنيسة والمسيح زواج مصلحَة، سيَكون من الغباء أن تتخلَّى العروس عن عريسٍ كهذا. وإن كان العريس يتصرَّف مع العروس باعتبارها أميرَته، لا بل مَلِكَته، سيَكون من الغباء أن تتخلَّى العروس عنه والالتهاء عنه بأمورٍ تافهةٍ ونَعتِه بعدم الحُبّ كونَه لا يريد تأمين تلك الأمور التَّافهة لها! انتبهي أيّتها العروس، فإنَّك تبتَزينَ عريسَك بطريقة تصرُّفَكِ هذه! في أوقاتٍ كثيرة، بِداعي التقوى أو التُّقَويّات؛ -كما أُسمِّيها أنا-، لأنّها تقوى غير مبنيّة على الفَهم بل على العاطفة؛ نتصرَّف مع الله كَمن يَنصُب أفخاخًا له، فَنَلومُه ونُهدِّدُه بالتَرِك، قائلين له إنّنا لم نَعد نؤمِن به، وإنّنا لا نشعر بوجوده. إخوتي، فلنتخلَّ عن “الأنا” بعض الشَّيء ولننظر إلى الله ونرى هل يُكلِّمنا ويُذكِّرنا بما فعله من أجلنا وَكَم من مرَّةٍ تَرَكناه؟! إنّ مِثل تلك المواضيع تنبع مِن مخيِّلتنا!
اليوم في هذا الزَّمن الرَّديء، مع العِلم إنّه كلَّما تخطَّينا مرحلةٍ، نقول إنّ الّذي مَضى كان أفضل على الرُّغم من أنَّنا كُنّا نقول عن الّذي مَضى في حينه إنّه في غاية السُّوء. نحن في أيّام سِفر الرُّؤيا! إنّ عبارة سِفر الرُّؤيا، لا تعني أنّ النِّهاية قد أتَت. أن نكون في أيّام سِفر الرُّؤيا، فهذا يعني أنّنا نعيش اليوم في ذهنيّة سِفر الرُّؤيا، أي أنَّه نتيجة الشِّدة الّتي نُعاني منها اليوم، قد نَصل إلى مرحلةٍ نقول فيها إنَّنا لم نَعد قادرين على التحمُّل والصَّبر عليها. إنّ كلمة “الصَّبر” في اليونانيّة “hypomonie”، تعني تحت الضَّغط. في ظلّ هذا الضَّغط الّذي نَعيشه، إلى مَن نَلتَجِئ؟ لا أحد يمكنه مساعدتَنا إلّا الربّ، لذا فلنَطلب منه المساعدة، وعندها سنَرى كيف أنّ نظرَتَنا إلى الأمور ستتغيَّر على الرُّغم من بقاء الأوضاع الّتي نعيشها على حالها. هذا هو سِفر الرُّؤيا! في سِفر الرُّؤيا، تَمكَّن المؤمن من أن يَفهم حُبَّ الله له، فَلَم تَعد ضغوطات الحياة تُؤثِّر عليه. في سِفر الرّؤيا، نلاحظ أنَّ المؤمن قد تمكَّن من التَّحرُّر من ضَغطِ إحساسِه بِحواسِه، لذا يُصبح المؤمِن “Theoria”، أي في حالة من الرُّؤيا الإلهيّة. وما أقوله لكم الآن، ليس مجرَّد كلام، بل هو خبرة قد عاشها القدِّيسون واختبروها مع الربّ.
في خلاصةٍ لما تأمَّلنا به اليوم، فلنَطلب من الله، أمورًا متوافرة لديه. علينا أن نطَلب حاجاتنا من الله لا رَغباتِنا، فالحاجة تختلف عن الرَّغبة. إنّ الله يُلبيِّ لكَ حاجاتِك الحقيقيّة. لذا في الختام، أدعوكم إلى أن تطلبوا ملكوتَ الله وبرَّه وكلّ باقي الأمور تُزاد لكم. هذا ما يقوله الربُّ لكم اليوم. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَت المحاضرة بأمانةٍ من قِبَلنا.