الرياضة السنويّة 2016 بعنوان: “اذهَب واعمل أنتَ أيضًا، هكذا” (لو 37:10)
دار سيّدة الجبل – فتقا، كسروان.
الموضوع: “الرّحمة في الكتاب المقدّس”
الأب ابراهيم سعد،
إنّ هذا الموضوع هو صَعب الفهم والإدراك والاستيعاب والعيش، إذ إنّنا نتكلّم عن صفة من صفات الله: الرّحمة، فهي ليست صفة إنسانيّة. نحن نواجه صعوبة في إدراك سرّ الله، سّرّ الرحمة. الرّحمة هي ككرّة الثلج، تكبر كلمّا تقدّمت في مسيرتها. الرّحمة تنمو في مسيرتها مع الإنسان ومع الجماعة. وكلّما كَثُرت خطايانا كلما كبُرَت رحمة الله لنا.
ولكن، إذا أردنا أن نتكلّم عن كلمة “رحمة”، علينا في الوقت عينه أن نتكلّم عن كلمة الحقّ والعدل. إنّنا نطلب الرّحمة خوفًا من العدل، خوفًا من الحقّ الذّي شوَّهْتُه أنا كإنسان. ولكن إذا كان هناك من غضب إلهيّ، فالرّحمة هي الدّواء لانتهاء الغضب. إذا كان هناك من غضب لله، وفي حال وجوده، فالسبب هو أنتَ أي الإنسان، والرّحمة سببها هو أي الله وليس أنت. الرّحمة تحلّ محلّ الغضب. فإنّ الغضب وقتيّ بسبب سلوك الإنسان، أمّا الرّحمة فأبديّة وليس لها علاقة بالإنسان إنّما بطبيعة الله. ولا يمكننا الكلام عن الرّحمة دون أن نتكلّم عن العدل وعن علاقة الإنسان مع الله. إنّ الانسان هو في حالة تمرّد على الله. وكلمة “تَمَرَدَ” باللغة العبرية “بيشاع”، وتعني العصيان أو الثورة لإنهاء الحكم. الخطيئة هي: “الشعب يريد تغيير النّظام”. وكلمة péché باللغة الفرنسيّة هي تأتي من الجذر العبريّ “بيشاع”، إذًا الخطيئة هي تمّرد على الله. والنتيجة الطبيعيّة لأيّ تمرّد للشعب على حاكمه، مَلِكه، سيّده هي الغضب، الانتقام، القصاص. والنتيجة غير الطبيعيّة للتمرّد هي الرّحمة والغفران. لكن إذا تكلّمنا عن الرّحمة والغفران، فهذا يحصل بعد تمرّد ما، إذ إنّه من دون وجود تمرّد، لا حديث عن الرّحمة. بين الرّحمة والتمرّد، تنشأ التّوبة، الاستغاثة لطلب الرّحمة. والرّحمة الإلهيّة شاملة وكاملة دائمًا لأنّها أبديّة. الخطيئة والتمرّد تُنشِآن غضباً مرحليّاً.
أمّا الرّحمة فهي أبديّة، قبل أن يُخلَق الكون وقبل أن يُخلَق الإنسان، ولكنّها كُشِفت لنا بسبب معصيّة الإنسان. إذا ًالخطيئة فيها أمرٌ إيجابي، إذ إنّها تكشِفُ رحمةَ اللهِ لنا. إذاً خطيئتك هي فرصتك لتكتشِفَ رحمةَ الله. لكن هذا لا يعني أبدًا أن تتشَّجع على ارتكاب الخطيئة لتكتشف رحمة الله لك، إذ عليك أن ترى خطيئتك، وتتنبَّهَ لها. إنّ الخطيئة، إذا تكاثرت وتحكَّمت في النّفس، تُنشِئ حالة من اللامبالاة. وحالة اللامبالاة هذه هي عامّة إذ تصبح لا مبالٍ لذاتك وللآخرين، وتدخل في حالة من الاضطراب العقليّ وليس فقط النفسيّ، فتصبح غير قادر على النّوم، وتفقد هدوءك كما إنّك تفقد تركيزك.
وهذه تشكِّل فرصةً لك لتكتشِف رحمةَ الله. وأستشهد ببعض الآيات من الكتاب المقدّس، العهد القديم، أيّ من الكتاب الذّي لا يرى فيه غالبية المسيحيّين سوى كتاب القتل والتّدمير والغضب فقط، وهم يرفضونه، إذ إنّهم يفَضِّلون الإبقاء على العهد الجديد فقط حيث الانجيل يبرز وجه الرّحمة والحياة والحبّ. هناك مفهوم خاطئ ولكنّه شائع جدّاً بأنّ العهد القديم هو تاريخ الشعب اليهوديّ، وهذا أمر غير صحيح، فالصحيح المكتوم أنّ العهد القديم هو كتاب كلمة الله ومعاناة الله مع مَن تَسمّى أنّه شعبه. ويقول الكتاب المقدّس في سفر هوشع النبيّ إنّ الشعب كان متمرّداً وخاطئًا وعاصيًا لكلمة الله، وكلمة الله ليست محفوظة من قبلِه. والمقصود هنا بحفظ كلمة الله ليس حفظ كلمة الله غيباً إنّما صَونُها من الفساد.
في سِفر هوشع، في الإصحاح الأوّل منه، يقول الرّبّ للنبيّ، أن يُسمي ابنته: “لو روحاما”، أي لا رحمة. كلّ حيثيّات سِفر هوشع هي حيثيّات حُكم، لكي يصدر الحكم. وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر هوشع نقرأ: “قد انقلب عليّ قلبي واشتعلت واضطرمت مراحمي كلُّها”. إنّ الله يقول إنّ قلبه وعقله قد قاما بانقلاب عليه، واشتعلت مراحمه كلّها عندما أراد الحكم على الخطيئة وذلك لأنّه الله وليس إنسانًا. إنّ الرّحمة من طبيعة الله. والله قال في سفر هوشع إنّه يريد رحمة لا ذبيحة. إنّ الله لا يتغيّر جرّاء تصرّف الانسان لأنّه الله. أمّا الإنسان فيغيّر في مبادئه وقيمه وسلوكه أمام تصرّف مؤذٍ صدر عن إنسان آخر، أمام أذيّة ما قد تعرّض إليها، وتستطيع تلك الأذيّة أن تحوّله إلى وحش. إليكم مثلاً آخر من الكتاب المقدّس، العهد القديم، ميخا النبيّ: “من هو إلهٌ مثلك، غافر الإثم، صافح عن الذنب، لبقيّة ميراثه. لا يحفظ إلى الأبد غضبه فإنّه يُسَّرُ بالرأفة، فيعود ويرحمنا، يدوس آثامنا، وتُطرح في أعماق البحر جميع خطايانا”.
لا أحد مثل الله، بشريّاً، هذا الكلام لا يُفسَّر. وإذا أردنا تفسيره: قلنا إنّه هو الله، وعادةً يكون جوابنا هذا للتهرّب من المسؤوليّة كإنسان. ولكن، هل هناك أجمل من هذا الجواب: “إنّه الله”. ومن كلام فمِكَ يا إنسان أُدينُك، هذا ما يريد الله سماعه منك: اعترافك به أنّه هو الله وأنّه “لا إله إلاّ الله”، لا إله سوى الله، وإنّك إنسان، ولست الله. ويقول نبيّ آخر هو دانيال: “للرّبّ إلهنا، كلّ المراحم، وكلّ المغفرة، لذلك يُفيضهما على المتمرّدين، وليس لنا حقّ بالمغفرة والرّحمة لأنّنا متمرّدون”. ونقرأ في سفر ارميا: “من أجل ذلك، بعد أن رأيت خطاياكم، حنّت أحشائي ورحمة أرحم الإنسان”، الذّي يسبّب لهيب في قلب الله هو رغبته في أن يعرفه الإنسان. إنّ الإنسان لم يعرف الله معرفةً حقيقيّة، في الخلق، في القدرة، في الطوفان، في برج بابل. على الإنسان أن يعرف الله على حقيقته، وليس وفق تخيّلاته البشريّة. لذلك يقول الرّبّ: “سيعرفونني، من صغيرهم إلى كبيرهم، لأنّني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيئتهم من بعد”. إنّ إلهنا يُعرّف عن ذاته بإلغاء ذاته، هذا هو إلهنا. فإن لم نصدّق الله في العهد القديم،
فلنقرأ العهد الجديد ونرى كيف يعبّر الله عن ذاته في العهد الجديد: “بهذا يعرفونك أنّك أنت هو الإله الحقيقيّ وحدك، ويسوع المسيح، ابنك الذّي أرسلته”. كيف نعرف الله؟ نعرفه بإلغاء ذاته لأجلنا نحن البشر. وإن أكملنا قراءة الإصحاح الواحد والثلاثين من سفر ارميا، نقرأ أنّ الربّ قال: “سأقطع معهم عهداً جديداً ليس كالعهد الذّي قطعته مع آبائهم، عهداً في القلب وليس على ألواح حجرية”. لقد تمّ الانتهاء من الشريعة، ألغى الله الشريعة أمام الرّحمة، وإذ بإشعياء النبيّ يضيف فيقول “هل تنسى المرأة رضيعها، فلا ترحم ابن بطنها؟” هذا السؤال جوابه معلوم لدى الجميع. لكن إشعياء يتابع فيقول: “…حتّى هؤلاء ينسيْن، أمّا أنا فلا أنساك، هوَذا على كفيّ نقشتُك” (49: 15)، أي إنّ الله عندما يفتح يديه، يراك منقوشاً في راحةِ يديه وهذا يعني أن لا مسافة بينك وبين الله؛ فإذا كان الإنسان واقعًا في العشق والحبّ مع الآخر تُلغى المسافة بينهما.
ويُضيف إشعياء في الإصحاح 54 إذ يحاول الله إفهام البشر ماذا فعلت به خطيئة شعبه فيقول:”لُحَيظَةٌ تركْتُكَ، وبمراحم عظيمة سأجمعك، وبفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة”. يقول الرّبّ للإنسان إنّه لم يعاقبه بل تركه لُحَيظةً. ونرى الإنسان يعترض فيقول للّه إنّ ذلك ليس من حقّ الله، لكن هل هذا أمر مقبول؟ فالإنسان قام بخطايا ومساوئ كثيرة تجاه الله، ألا يحقّ لله أن يترك الإنسان لُحَيظَة واحدة؟! أين العدل وأين الحقّ؟ ألا يحقّ لله أن يُمارس العدل لُحيظة؟!! ويقول الرّبّ أيضاً: “وبإحسانٍ أَبَديّ أرحمك”. إنّ غضب الله هو للحظات قصيرة أمّا رحمته فهي أبديّة. يُضيف الرّبّ في السِفر نفسه فيقول: “الجبال تزول أمّا إحساناتي فلا تزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع”، أمّا إشعياء فيضيف قائلاً “قال راحِمُكَ الرّبّ”. أما أنتَ، فعندما تنتبه لخطيئتك وأنّك انفصلتَ عن الله، وتُدرك ما حدث لك إثر ابتعادك عنه لُحَيظَة، تصرخ إليه قائلاً: “ارحمني يا رّبّ، لأنّي ضعيف، اشفيني، وخلّصني من أجل رحمتك وليس من أجل توبتي.” وفي هذه الصلاة نتوّسل إلى الله ونطلب منه أن يرحمنا لأنّه في حال لم يرحمنا يكون قد تخلّى عن هوّيته. إذًا من يريد طلب الرّحمة من الله، عليه أن يُدرك ما هي نتيجة خطيئته على الله، عندئذٍ يحقّ له أن يُعاتب الله ويلومه. وفي المزمور يقول كاتب المزامير: “أُذكُرْ مراحمك يا رّبّ، لأنّها منذ الأزل هي، لا تذكر خطايا صِباي، أُذكُرني كرحمتك، كلّ سُبُل الرّبّ رحمة وحقّ”، ومزمور 107 يقول: “لأنّ إلى الأبد رحمته”.
بعد هذه النظرة العامّة والسريعة حول نصوص في الكتاب المقدّس حول الرّحمة، سننتقل إلى بعض الامور في العهد الجديد. في العهد القديم، الحديث كان عن الرّحمة والإله الرّحيم، أمّا في العهد الجديد فانتقل الحديث إلى التبَّني. في العهد القديم، كان الحديث عن الرّحمة فكشف الله أنّ الرّحمة هي ككرة الثلج في ازدياد ونموّ مستمرّ، لتصل إلى التبنيّ في العهد الجديد مع يسوع المسيح. إنّ جَذِر كلمة “رحمة” هو “رَحِم”. الرَّحِم نجده عند المرأة فقط وفيه ينمو الجنين. إذاً، عندما تقول للرّبّ أن يرحمك تكون في الوقت ذاته تطلب منه أن يُرجعك إلى رَحِمِه، فإنّ العيش خارج رَحم الله، سيؤدي حتمًا إلى الموت، تمامًا كما يحصل مع الجنين خارج رَحم أمّه. الرّحمة هي العودة إلى الرَحم. كلّ دعوة الله في العهد القديم، كانت من أجل أن يعود الإنسان إلى رَحم الله، لأنّ الانسان دون الله ورَحمِه لا حياة له، فحياة الانسان هي في داخل أحشاء الله. في العهد الجديد أَوضَحَ الله قصده بالرّحمة، وهو أن نعود إليه كأولاد فَيَلِدنا من جديد، وهذه هي الولادة الجديدة. لذلك بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما في الإصحاح الثامن، عندما تكلّم عن التبّني قَصَدَ بذلك المعموديّة أي الولادة الجديدة. أن تصير جنيناً في ولادة جديدة هذا يعني أن تصير ابن الله. وإن كنت لا تعرف ماذا يعني أن تكون ابن الله، فانظر إلى النموذج الذّي لديك أي يسوع المسيح، ابن الله. عليك إذاً أن تكون مثله.
أن تكون مثله ليس أن تفعل مثله، أن تصير مثله أيّ أن تأخذ حِصَتَّهُ. أمّا نحن فنفهم الأمور دائماً انطلاقا من ذهنيّة عبد وسيّد. كلّ مَن يتبناه الله، ويعلن أنّه ابن الله، هذا يعني أن له الميراث نفسه كيسوع. هل تُصَدِّقون ذلك؟ فإذا كان الأمر كذلك، فعلينا أن نفرح، وإن لم يكن، فكلام الفيلسوف الألماني “نيتشه” يَصُحّ فينا، هو الذّي قال إنّ المسيحيّين لا يفرحون لأنّ إلهَهُم مات ولم يقم. قال ذلك لأنّه لم يرى على وجوه المسيحيّين أنّ إلههم قام حقّاً. فكم من المسيحيّين الذّي إن صاموا عبّسوا وجوهم وأصبحوا غير قادرين على الحوار مع الآخرين بسبب الصيّام، وإذا ذهبوا للقدّاس، لا ينفّكون عن التلّفت شمالاً ويساراً لينتقدوا كلّ الذّين لم يشاركوا في القدّاس كما هم فاعلون. “والله في الوقت نفسه، يرحمكم من كثرة خطاياكم لأجل رحمته هو، وقداسته هو، وليس لفضلٍ منكم”. إذاً، العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد ربطها يسوع المسيح إذ أنّ الله دعا المؤمنين ليقبلوا رحمته من خلال كلمته، وبتجسّد المسيح، أصبح قبول الرّحمة يعني قبول أبوّة الله. ومتى قبلناها، فرحنا بها. وإن لم نقبل أبوّته، نبقى أبناء الله لكنّنا لا نكون فرحين بذلك. إذاً نبقى أبناء لله، أقبلنا ذلك أم لا، لكن ما يختلف هو التّالي هو فرحنا بهذه البنوّة أم لا. إن كنت ابن الله، فهذا لا يعني أن الله يَفرِض عليك أمور معينة فهو خلقك حُرًّا، فالله لا يفرض أيّ أمر على عبده، فكيف يكون الحال مع ابنه؟ وإليكم مثل بسيط من العهد الجديد: “كونوا رحماء كما أنّ أباكم هو رحيم”. إذا قرأنا هذه الآية على الطريقة اللبنانيّة، لفهمناها كما يلي: إنّ هناك دعوة من الله لنا لنكون رحماء لكن لا أحد يستطيع أن يكون مثل الله، وأنّ تلك الآية هي مجرّد أمنيّة من الله لنا. غير أنّنا إذا قرأناها بشكل صحيح: “كما أنّ أباكم رحيم”، فنفهم أنّ الله يدعونا لكي نكون رحماء مع بعضنا البعض كما يُعاملنا هو بالرّحمة، فاللّه قد رَحِمَ الجميع.
وهنا ننتقل إلى نقطة أخرى، وهي أنّه بعد أن يفيض الله عليك رحمته، يطلب منك أن ترحم أخاك. الله لا يطلب منك أمراً آخر سوى أن ترحم أخاك أي أن تُرجع أخاك إلى أحشائك، وتتخطّى الحواجز التّي تفصلك عنه فيما يخصّ موضوع الرّحمة. إذ أنّ هذا الأمر لا يعني أبدًا أن تقع كما وقع أخاك في الحفرة نفسها. وإليكم مثلًا آخر من العهد الجديد، إنّه مَثَل يعطي صورة عن الملكوت: في هذا النّصّ الذّي يتكلّم فيه يسوع عن الخراف والجداء، فيقول للجداء إنّه كان عطشاناً، ومريضاً …ولم يفعلوا له أيّ شيء، ولم يهتمّوا به، “فكلّ ما لم تفعلوه إلى إخوتي هؤلاء الصّغار فلي لم تفعلوه”. قام يسوع بفعل تّماهي بينه وبين هؤلاء الصّغار الذّي لا ينتبه لهم إلاّ القليل من النّاس. فيسوع هنا قد جعل من ذاته صغيراً كهؤلاء.
لقد شابه الدّيان والجالس على العرش نفسه بهؤلاء الصّغار. وسوف أقرأ على مسامعكم قسماً من رسالة مار بولس إلى أهل روميّة، والتّي تشكِّل إحدى أصعب الرسائل من حيث صياغتها، ففي الفصل 32 نقرأ:” فإنّه كما كنتم أنتم مرّةً لا تطيعون الله، ولكن الآن رُحمتم بعصيان هؤلاء. هكذا هؤلاء أيضاً الآن، لم يطيعوا لكي يُرحموا أيضاً برحمتكم، لأنّ الله أغلق على الجميع معاً في العصيان لكي يرحم الجميع”. يريد بولس أن يُذّكر أهل رومة أنّهم كانوا غير مُطيعين لله فيما مضى وأنّ الله قد أغلق على الجميع، ليس ليُعاقب ويُقاضي بل ليرحم الجميع. بعد أن أعطاهم بولس البراهين في رسالته إليهم أنّهم قد أصبحوا في الخارج مع باقي الأمم بعصيانهم، إذ إنّ اليهود كانوا يظنّون أنفسهم أنّهم من الدّرجة الأولى بين الشعوب، وأنّ بقيّة الشعوب هم من الدّرجة الأخيرة. إنّ الله قد أظهر لهم أنّهم مع باقي الشعوب من الدّرجة نفسهم إذ أنّ الجميع قد عصوا الله، لذلك قرّر أن يرحم الجميع.
إنّ ذلك هُوَ جنون من قِبَل الله، إنّه جنون الحُبّ. وفي الرسالة إلى أهل كورنتس الثانية، الإصحاح الأوّل الآية الثالثة، يقول بولس: “مباركٌ الله، أبو ربّنا يسوع المسيح، أبو الرأفة، وإله كلّ تعزيّة، الذّي يُعزينا في كلّ ضيقتنا، حتّى نستطيعَ أن نُعزِّيَ الذّين هم في كلّ ضيقة بالتعزية نفسها التّي نتعزّى نحن بها من الله”. نحن نتكلّم عن التعزيّة وقت الضيق، إذ إنّنا لا نقدّم التعزيّة في وقت الفرح. لذلك علاقتنا مع الله ليست ثنائية إنّما ثلاثيّة، فهو يُعزّيك لتُعزّي الآخرين، يرحمك لِتَرحم الآخرين. إنّ الله لا يريد شيئاً منك لكنّه وَضَع ذاته مكان أولئك الذّين هم بحاجة إليك، بحاجة لبسمتك، ولِيَدِك الممدودة لهم، وبحاجة لقلبك المفتوح، كي تعطيهم ما يحتاجونه وبالتّالي ليس من الصدفة تأسيس الكنيسة.
إنّ الله يمتحن الانسان في مدى فهمه لمحبة الله له عبر ترجمته لها مع الآخرين، فيرحمهم. وهنا يحضر إلى ذهننا مثل العبد المديون الذّي أعفاه سيّده من كلّ دينه، والذّي لم يرحم أخاه. تَصَرُف هذا العبد المديون مع رفيقه العبد إن دلّ على شيء، فهو يدّل على عدم فهمه لرحمة السيّد له بشكل صحيح، تَصَرُف العبد إنّما هو عصيان وتمرّد. يقول القدّيس يعقوب في رسالته، في الإصحاح الخامس في الآية الحادية عشر: “ها نحن نطوِّب الصابرين. قد سمعتم بصبر أيوب، ورأيتم عاقبة الرّبّ، لأنّ الرّبَّ كثيرُ الرّحمة ورؤوف”. إنّ القدّيس يعقوب يقوم بالإعلان عن رحمة الله.
بعدما استعرضنا مقاطع كتابيّة من العهدين: القديم والجديد، يبقى لنا أن نستعرض العهد الثالث والأخير، ألا وهو عهدك أنتَ أيّها المؤمن. إنّ الكتاب المقدّس يقسم إلى ثلاثة أقسام: العهد القديم، والعهد الجديد، وأنت، إنّك الإنجيل المتّحرك. إنّ العهد القديم قد أظهر رحمة الله والعهد الجديد أظهر أبوّة الله. أمّا نحن فعلينا أن نُظهر الله، علينا أن نظهر مرمى ومغزى وهدف الخليقة بأسرها إذ خلقنا الله على صورته ومثاله. إنّ الله وضع مصيره بين أيدينا، لذا علينا أن نظهر صورة الله الحقيقيّة بعدما أشعلتنا رحمة الله وأشعلنا حبّه لنا. إنّ الحبّ يُولِد، لذلك ولدنا الله بالمسيح. فالآن جاء دورنا لنُشعل الآخرين بجمرة رحمتنا وحبّنا بعد أن أشعلتنا جمرة رحمة الله لنا وكذلك حبّه، حتى إذا رآنا النّاس وسمعونا، وانتبهوا إلى كيفيّة سلوكنا وأفعالنا وأعمالنا، يقولون كما قال قائد المئة على الصّليب: “حقّاً كان هذا ابن الله”. إن قال هذا الإنسان الغير يهوديّ، الوثني، هذا الكلام عن يسوع، فهذا يعني إنّه في لحظة اللاّ أمل، وفي لحظة اللاّ حياة، اللاّ تعزية واللاّ رجاء، استطاع شخص خارج الكلمة الإلهيّة أن يقول عن يسوع إنّه كان حقّاً ابن الله. فهل نستطيع ذلك؟ على كلٍّ منّا أن يجد الجواب على ذلك. آمين.
ملاحظة: دُوّنت المحاضرة بأمانةٍ من قبلنا.